\'كيف أصبحت يا حارثة؟ \' سؤال ألقاه المربي الأعظم محمد - صلى الله عليه وسلم - على أحد تلاميذه النجباء يتفقد به حاله، فإذا بهذه الإجابة العجيبة تشق سمعه - صلى الله عليه وسلم - \'أصبحت مؤمنًا حقًا يا رسول الله\' ولا يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا التصريح الخطير يمر هكذا فيدعيه مِن بَعد كل أحدٍ, بل يقول: \'يا حارثة انظر ما تقول، وإن لكل قول حقيقة، فما هي حقيقة إيمانك؟ \'
فيقول حارثة: عزفت نفسي عند الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وإلى أهل النار يتضاغون فيها\'.
ويسر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما رأى من ثمرة تربيته المباركة، فيقول مؤيدًا: \'يا حارثة عرفت فالزم\'.
ثم يسوق إلى تلميذه البشارة العظمى، بأنه قد وصل إلى هدفه الذي سعى إليه، وعاش من أجله فيقول - صلى الله عليه وسلم -: \'من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى حارثة\'.
وهكذا أخرجت لنا التربية النبوية أمثال هذا النموذج الرائع الذي انتصب هدفه أمام ناظريه من أول يوم وطئت قدماه فيه ساحة الدعوة، فكان أن قامت للمسلمين أعظم دولة عرفها التاريخ، وفي وقت قياسي لا يعد في حساب الأمم شيئًا مذكورًا ومن أجل حيازة مثل هذه النماذج الفذة في كتيبة الإيمان في زمان الغربة الثانية لهذا الدين، تأتي الحلقة الرابعة من سلسلة إدارة الذات لتعين الداعية الناشئ على اجتياز الخطوة الثانية في درب الكفاءة والفاعلية، باكتساب العادة الثانية من عادات الفاعلية السبع ممثلة في القدرة على تحديد الأهداف وصياغتها، بعد أن نجح في اجتياز أولى الخطوات فغدا إيجابيًا يملك زمام المبادرة، وحاز نفسًا لهوها التعب في سبيل ربه، فواصل معنا السير أيها الهمام مرددًا مع طلائع الإيمان:
قد نهضنا للمعالي *** ومضى عنا الجمود
ورسمناها خطى *** للعز والنصر تقود
فتقدم يا أخا الإسلام *** قد سار الجنود
ومضوا للمجد إن *** المجد بالعزم يعود
فكر في النهاية عند البداية:
أيها الداعية الهمام: أرجو أن تجلس في مكان هادئ منعزل لا يشغلك فيه أي شيء آخر وأنت تقرأ هذه الكلمات، والآن تخيل معي أنك ذاهب لحضور جنازة أحد إخوانك وعندما اقتربت منها فوجئت بوجود كل أهلك ومعارفك، ورأيت الحزن مخيمًا على وجوههم جميعًا، ثم تقدمت بخطى ثابتة وئيدة نحو النعش الجاثم أمام الجميع، ونزلت مع الميت إلى لحده لتحوز ثواب دفنه، ولما هممت بإلقاء نظرة على وجهه إذ بك تفاجئ بأن هذا الميت هو أنت ولا أحد غيرك، فكر الآن ما الذي تود أن يقوله عنك الناس وعن إنجازاتك وسيرتك، دون كل ذلك ثم أعرض نفسك بصدق على هذين النموذجين لتعرف أي رجل أنت.
نموذج الداعية الناجح
وُلد ناجح في يوم ناجح سنة 1400هـ كانت درجاته الدراسية ممتازة، تزوج من أخت صالحة ناجحة شاركته همومه ودعوته، قضى أربعين سنة في خدمة الأمة شغل عددًا من المراكز الناجحة، اغتنم الفرص وطور نفسه ومواهبه، وشارك إخوانه في عمل دعوي ضخم، كان شعاره المفضل: أينقص الدين وأنا حي، عاش سبعين سنة مليئة بالنجاح والكفاح، بعزم وإصرار فعاش ناجحًا، ومات وبكت عليه الأمة، فولد سنة 1400 ومات سنة 1470هـ وبقي ذكره حيًا في قلوب الناس كما بقى مسكه وعبيره.
نموذج الداعية الهامشي
وُلد عادي في يوم عادي سنة 1400هـ كانت درجاته الدراسية عادية، تزوج من أخت عادية، قضى أربعين سنة في أعمال هامشية متفرقة لا يربط بينها رابط ولا يدري لها هدفًا، شغل عددًا من المراكز العادية لم يخض أبدًا في مخاطرة، أو يغتنم أي فرصة وشارك إخوانه في عمل دعوي محدود، كان شعاره المفضل: القناعة كنز لا يفنى، عاش 70 سنة دون هدف واضح، أو عزم وتصميم فعاش عاديًا ومات موتة عادية، فلم يشعر به أحد، فولد سنة 1400هـ ومات حيًا سنة 1422 ودفن سنة 1470هـ.
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
هل علمت الآن أيها الحبيب ما معنى فكر في النهاية عند البداية أن تحدد من الآن أهدافك في الحياة التي تريد أن تحققها على جميع المستويات بحيث تبذل بعدها جهدك في الطريق الصحيح.
أمسك بزمام القيادة:
إنما طالبناك أيها الموفق بهذا التمرين الطريف حتى تضع لنفسك نموذجًا حيًا لما ستكون عليه حياتك، فيتكون لديك إطار مرجعي وقاعدة كلية تضبط على محكمها كل أمورك، فتبدأ حياتك من الآن بتصور أنها لا بد وستنتهي يومًا، وعلى ذلك فلا بد وأن تقيس أعمالك اليوم وغدًا وبعد غد وفي كل غد، ليست كأجزاء منفصلة أو مستقلة، ولكن على أن كل جزء منها يمثل بعضًا من كل، كما هو مذهب الحسن البصري - رحمه الله - حين يقول: يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة إذا ذهب يومك ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل.
وهذا الكل هو حياتك بأكملها، فلابد أن تحدد ماذا تريد أن تحقق فيها على المدى البعيد، حتى تتمكن من أن تميز بين ما هو مهم وما هو عديم أو قليل الأهمية في حياتك على المدى الطويل، ولا تبدد وقتك وجهدك في أعمال مبعثرة لا رابط بينها ولا هدف يجمعها، ثم تفاجأ بعد سنوات طويلة أنك لم تحقق شيئًا مذكورًا رغم كل ما بذلته من جهد ونشاط، إننا نريد منك أيها الداعية أن تقوم حياتك بنفسك ولا تقتصر على إدارتها فقط كما يفعل معظم الناس، فإن الفرق بعيد بين هاتين الكلمتين الإدارة والقيادة، فالإدارة تعني: كيف تحقق ما تصبو إليه من أهداف؟
القيادة هي أن تحدد أولاً ما هي الأهداف التي تصبو إلى تحقيقها؟
وبعبارة أخرى فإن الإدارة هي كيف تصعد السلم بكفاءة وبسرعة؟
ولكن القيادة هي اختيار السلم الذي تريد الصعود عليه أولاً.
وبصورة أكثر تبسيطًا فإن الإدارة هي الأداء الصحيح للأشياء، بينما القيادة هي أداء الأشياء الصحيحة.
ـ ومعظم الدعاة لا يدركون هذا الفرق الكبير بين الكلمتين، فترى الواحد منهم منهمكًا في برامج علمية أو أنشطة دعوية، ويقيس نجاحه بمدى ما يبذله من جهد لا بما يحقق من أهدافº لأنه أصلاً لم يحدد أهدافه منها، مثله في ذلك كمثل هذه الفتاة المسماة \'أليس\' والتي صورها \'لويس كارول\' في قصته الشهيرة \'أليس في بلاد العجائب\' حينما تسأل القط \'تشيشاير\' فتقول: من فضلك هل لي أن أعرف أي طريق علي أن أسلكه هنا؟
فسألها: أين وجهتك؟
فقالت: لا أعرف.
حينها قال لها: إذن اسلكي أي الطرق تشائين.
استراتيجية المعالي:
ولئن أجهد الكتاب الغربيون أنفسهم محاولين إقناع قرائهم بأن يجعلوا أهدافهم ومراكز اهتماماتهم في الحياة تدور حول القيم والمبادئ، وليس فقط حول الأموال والنساء، والجاه والسلطان، فإن داعيتنا الهمام لا يحتاج منا إلى هذا الخطاب المتخاذل، إذ أنه ومنذ أول لحظة انضم فيها إلى ركب الدعاة قد اتخذ لنفسه استراتيجية ثابتة تجعل قلبه لا يجول إلا حول معالي الأمور، فتوحدت همومه فغدت همًا واحدًا لا يفارق ناظريه ليلاً ونهارًا متمثلاً في حيازة رضا الرب الرحيم وحجز مقعد في الفردوس الأعلى، برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ولقد يعلم داعية الإسلام أن هذا الهدف العالي لا يتحقق إلا عبر بناء نفسه وتزكيتها، ثم السعي لتعبيد الناس في الأرض لرب العالمين.
ـ وإنما الذي نريده من الداعية بعد ذلك أن يترجم هذا الهدف الكبير العظيم إلى أهداف جزئية يمكنه أن يقيمها بدقة ووضوح، ليتمكن من التقدم نحوها باقتدار، وليقيس مدى تقدمه وإنجازه أو تأخره وإخفاقه، فوحدها لغة الأرقام والمعادلات هي التي يمكن ترجمتها على إنجازات ونجاحات، أما الصياغات العامة الفضفاضة فيحسنها كل مسوف بطال.
إننا إذ ندعوا الداعية إلى حيازة ذلك القلب المطل على أفكاره، العارف لأهدافه بعد أن حاز نفسًا لهوها التعب في سبيل الله، فإنما ندعوه بذلك إلى حيازة ثلثي مقومات القيادة، كما أنبأنا بها البحتري حينما قال:
قلب يطل على أفكاره ويد *** تُمضي الأمور ونفسٌ لهوها التعب
فكيف يحوز الداعية مثل هذا القلب، كيف يحدد أهدافه بصورة فعالة تمكنه من تحقيقها بنجاح واقتدار.
ما هي المجالات التي ينبغي أن تتوزع فيها غايته النبيلة حتى يستطيع ترجمتها إلى معادلات النجاح؟
هذا ما سنعيش معه في الحلقة القادمة إن شاء الله، وإلى أن نلتقي فيها على مائدة الحب في الله فأستودع الله إيجابيتك وهمتك وخواتيم أعمالك.
__________________
ـ أهم المراجع:
العادات السبع لأكثر الناس فاعلية ستيفن كوفي
صناعة النجاح د/ طارق سويدان
الرقائق محمد أحمد الراشد
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد