لقد كان في حياة شباب صدر الإسلام إقدام وتضحية بالنفس وحرص على الجهاد بصحبة رسول الله، فلم تمنعهم فتنة الشباب عن طلب الموت في سبيل الله، فهم يدركون أن ما عند الله خير من نعيم الشباب وزهرة الحياة الدنيا.
إن أولئك الشباب الذين تربوا بين يدي رسول اللّه قد سطروا صفحات مضيئة في العلم والإيمان، وفي العمل الصالح والآداب، وفي الدعوة إلى اللّه - سبحانه وتعالى -، فصفحاتهم في الجهاد لا تقل عن تلك، ولا غرابة في ذلك، فهم أهل الجهاد وخاصته، وهم أهل الشجاعة والإقدام.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول اللّه يوم بدر: \"من فعل كذا وكذا فله من النفل[1] كذا وكذا\"، قال: فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات، فلم يبرحوها، فلما فتح اللّه عليهم، قال المشيخة: كنا رداءكم، لو انهزمتم لفئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى. فأبى الفتيان، وقالوا: جعله رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لنا. فأنزل اللّه: (يَسأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ) إلى قوله: (كَمَا أَخرَجَكَ رَبٌّكَ مِن بَيتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المُؤمِنِينَ لَكَارِهُونَ)[2].
ومن حرص شباب صدر الإسلام على الجهاد أنه لا يكاد يتخلف أحدهم عن غزوة مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، ويعبر عن ذلك صهيب بن سنان - رضي الله عنه - حيث يقول: لم يشهد الرسول مشهداً قط إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضره، ولم يسر سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزاة قط أول الزمان وآخره، إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قط إلا وكنت أمامهم، ولا وراءهم إلا كنت وراءهم، وما جعلت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين العدو قط، حتى توفي رسول اللّه[3].
نعم..أولئك شباب امتلأت قلوبهم بالإيمان بالله، واجتمعت لهم الحيوية والقوة البدنية، فدفعهم إيمانهم لاستخدام قوتهم في سبيل الله، للدفاع عن الحق وأهله، ولنشر راية التوحيد \"لا إله إلا اللّه محمداً رسول الله\"، ولم يغتروا كغيرهم من شباب هذا العصر، برفع رايات باطلة وشعارات زائفة، وصرف طاقاتهم وجهودهم، واستغلال قوتهم في نشاطات لا تغني عنهم ولا عن أمتهم شيئاً، أين هم من قدوتهم شباب صدر الإسلام، أمثال صهيب الرومي - رضي الله عنه - الذي حكى عن نفسه ما سمعنا؟ فليسأل شباب العصر الحاضر أنفسهم، أي نداء يجيبون؟ وإلى أي مكان يذهبون؟ وفي أي مكان يجتمعون؟ وماذا قدموا لنصرة الإسلام وعز المسلمين؟
ولشباب صدر الإسلام في ميادين الجهاد بطولات رائعة ومواقف خالدة، حتى من صغارهم الذين ربما لم يبلغ أحدهم الخامسة عشرة من عمره.
وفي معركة أحد رد رسول اللّه جماعة من الفتيان[4]، لم يبلغوا الخامسة عشرة، وكان ممن رد: رافع بن خديج، وسمرة بن جندب.ولكن لشوقهما للجهاد لم يستسلما للأمر، فأراد كل منهما أن يعرض ما لديه من قدرات، ويثبت كفاءته للقتال، فقيل لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: إن رافعاً رام. فأجازه، عند ذلك برز سمرة بن جندب وقال: لقد أجزت هذا ورددتني، ولو صارعته لصرعته. قال: \"فدونكه\". فصارعه، فصرعه سمرة، فأجازه[5].
وكذلك موقف لشاب آخر من شباب صدر الإسلام، لما خرج الرسول وأصحابه إلى بدر، خرج معهم غلام اسمه عمير بن أبي وقاص، وهو في السادسة عشرة من عمره، وكان يخاف ألاَّ يقبله رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لأنه صغير، فكان يتوارى ويجتهد ألاّ يراه أحد، فلما رآه أخوه سعد على هذه الحالة، سأله قائلاً: مالك يا أخي؟ فأجاب: أخاف أن يستصغرني رسول اللّه فيردني، وأنا أحب الخروج لعل اللّه أن يرزقني الشهادة. وكان كذلك، فأراد الرسول أن يرده لأنه لم يبلغ مبالغ الرجال، فبكى عمير، ورق له قلب رسول اللّه، فأجازه، وقتل شهيداً في هذه الغزوة[6].
وفي معركة بدر أيضاً نجد موقفاً من مواقف الشباب، يتسابق فيه أخوان للفوز بقتل عدو من أعداء الدين، وممن كان ينال من رسول اللّه والمسلمين، يقول عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت عن يميني وعن يساري فإذا فتيان[7] حديثا السن. فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل. فقلت: يا ابن أخي وما تصنع به؟ قال: عاهدت اللّه إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه. فقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله. قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين[8] حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء[9].
عجباً لأولئك الفتيان يتسابقون على الموت، كما يتسابق غيرهم على الحياة، أين هم من حياة الفتيان في هذا الزمان، الذين يتسابقون على ركوب الدراجات، ذات العجلتين، أو الثلاث، أو الأربع، ليستعرضوا عليها قواهم، ويلفتوا الناس إلى مواهبهم، وكذلك شأنهم مع السيارات، لهم شأن عظيم، وخطر جسيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------------------------
[1]) النفل: ما زاد على العطاء على القدر المستحق منه بالقسمة، ومن النافلة وهي الزيادة بالطاعة بعد الفريضة. (الخطابي، معالم السنن، حاشية سنن أبي داود، 3/175).
[2]) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في النفل، 3/175، 176، وقال الألباني في كتابه صحيح سنن أبي داود 2/522: [صحيح].
[3]) أبو نعيم حلية الأولياء، 1/151.
[4]) انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 2/66.
[5]) انظر: ابن ألأثير، أسد الغابة، 2/354، وابن هشام السيرة النبوية، 2/66.
[6]) انظر: بن الأثير، أسد الغابة، 4/148.
[7]) ذكر ابن حجر في الفتح (7/296) الاختلاف فيهما ففي بعض الروايات أنهما \"معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء\" وعفراء والدة معاذ واسم أبيه الحارث، وأما ابن الجموح فليست أمه عفراء، وإنما أطلق عليه تغليباً، وورد أنهما \"معاذ بن عمرو الجموح، ومعوذ بن العفراء\" وأنه لما كان لمعوذ أخ اسمه معاذ باسم الذي شركه في قتل أبي جهل ظنه الراوي أخاه. ويحتمل أن يكون معاذ بن عفراء شد عليه مع معاذ بن عمرو بن الجموح كما في الصحيح، وضربه بعد ذلك معوذ حتى أثبته، ثم حز رأسه ابن مسعود.
[8]) الصقرين: تثنية (الصقر) وهو من سباع الطير وأحد الجوارح الأربعة وهي الصقر والبازي والشاهين والعقاب، وشبههما به لما اشتهر عنه من الشجاعة والشهامة، والإقدام على الصيدº لأنه إذا تشبثت بشيء لم يفارقه حتى يأخذه. (ابن حجر، فتح الباري، 7/308).
[9]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب المغازي، باب في غزوة بدر، 3/88، حديث 3988.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد