تربية السلف لأطفالهم


  

بسم الله الرحمن الرحيم

إن من أعظم النعم أن يُرزق الإنسان ذرية تسعده وتبره في حياته، وتحمل اسمه من بعده بعد مماته، وفي هذه العصور يشتكي كثير من الناس من وجود عناصر خارجية مؤثرة في تربية الصغار كالإعلام والمدارس وغيرها. وفي هذا البحث محاولة لمعرفة بعض الطرق التربوية المستخرجة من التراث الإسلامي والتي أسأل الله - تعالى - أن ينفع بها كاتبها وقارئها.

 

*تعويد الصغار على الالتزام بالشعائر التعبدية:

أولاً: تعويدهم على الصلاة:

يقول الله - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالـحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، قال علي - رضي الله عنه -: «علموهم وأدبوهم» وعن الحسن البصري مثله(1)، وقال - تعالى - مادحاً نبيه إسماعيل - عليه السلام -: {وَكَانَ يَأمُرُ أَهلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرضِيًّا} [مريم: 55]، وقال - تعالى -: {وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِر عَلَيهَا} [طه: 132]، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «حافظوا على أبنائكم في الصلاة، ثم تعوَّدوا الخيرº فإن الخير بالعادة»(2)، و «كان عروة يأمر بنيه بالصيام إذا أطاقوه وبالصلاة إذا عقلوا»(3)، ولا مانع من إعطائهم الهدايا التشجيعية على أداء الصلاةº فقد روت عائشة - رضي الله عنها - أنهم كانوا يأخذون الصبيان من الكُتَّـاب ليقوموا بهم في رمضان، ويرغبوهم في ذلك عن طريق الأطعمة الشهية(4)، وكان بعض السلف يعطون الأطفال الهدايا التشجيعية على أداء الصلاة(5).

 

ثانياً: تعويدهم على الصيام:

روى البخاري ومسلم عن الربيِّع بنت معوذ قالت: «أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد ونصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهنº فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار»(6). وجيء بسكران في رمضان إلى عمـر بن الخطـاب - رضي الله عنه - فقال له موبخاً وزاجراً: «في رمضان ويلك وصبياننا صيام؟! » فضربه(7).

 

القدوة وأثرها في تعبد الصغار:

وذكر ابن الجوزي عن نفسه أنه كان يتأثر ببكاء بعض شيوخه أكثر من تأثره بعلمهم(1)، وكان عبد الله التستري يردد في طفولته قبل أن ينام: الله شاهدي، الله ناظري، الله معي(2)، ولا شك أنه لشيء رآه من والديه أو أحدهما في هذا الأمر.

 

وقال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسكº فإن عيونهم معقودة بكº فالحسن عندهم ما صنعتَ، والقبيح عندهم ما تركتَ، وعلِّمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روِّهم من الشعر أعفَّه، ومن الحديث أشرفه، ولا تُخرجهم من علم إلى غيره حتى يُحكِموهº فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم...»(3).

 

ويحذر ابن مسكويه من ترك التربية للخدم خوفاً عليهم من أن يتأثروا بأخلاقهم وأفعالهم(4).

 

* الحرص على تعليمهم الخير:

وهذا من تمام القيام بالأمانة التي وليها الوالدان. جاء في الأثر: «ما نحل والد ولداً من نِـحَل أفضل من أدب حسن». وجاء الأمر النبوي بتعليم الصغار بعض الآيات لأهميتهاº فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهن وعلموهن نساءكم وأبناءكمº فإنها صلاة وقرآن ودعاء»(5). وروى ابن أبي شيبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم الغلام من بني عبد المطلب إذا أفصح قول الله - تعالى -: {وَقُلِ الـحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي لَم يَتَّخِذ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الـمُلكِ} [الإسراء: 111]، سبع مرات. وكان علي بن الحسين يعلمهم: «قل آمنت بالله وكفرت بالطاغوت»، وكان بعض السلف يعلم الصبيان قول: لا إله إلا الله»(6).

 

كما أن السلف كانوا يقدمون الغالي والرخيص ليرغبوا الأطفال في العلمº فقد روى النضر بن شميل قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: قال لي أبي: يا بنيَّ! اطلب الحديثº فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم. فطلبت الحديث على هذا(7).

 

ولما كان الاختلاط بالأعاجم مظنة لفساد اللسان العربي، حرص السلف على تقويم ألسنة الصغار من اللحنº فقد جاء عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - «أنه كان يضرب بنيه على اللحن»(8).

 

ولم يكن السلف غافلين عن العلوم الأخرى المفيدة كالأنساب والشعرº فقد أرسل معاوية - رضي الله عنه - إلى دغفل فسأله عن العربية وعن أنساب العرب، وسأله عن النجوم فإذا رجل عالم. قال: «يا دغفل! من أين حفظت هذا؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول وإنَّ آفة العلم النسيان. قال: انطلق بين يديَّ ـ يعني ابنه يزيد ـ فعلمه العربية وأنساب قريش والنجوم وأنساب الناس»(9).

 

ولما دفع عبد الملك وُلده إلى الشعبي يؤدبهم قال: علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، وحسِّن شعورهم تشتد رقابهم، وجالس بهم عِلية الرجال يناقضوهم الكلام(10).

 

ولأن السلف أمة مجاهدة، كانوا يربون أبناءهم على حب هذه الشعيرة والتدرب عليها ليكونوا على استعداد تام عند الحاجة إليهمº فقد أوصى عمر بن عبد العزيز مؤدب ولده سهلاً قائلاً: «وليفتح كل غلام فيهم بجزء من القرآن يثبت في قراءتهº فإذا فرغ تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض حافياً فرمى سبعة ارشقة ثم انصرف إلى القائلة»(11).

قال ابن القيم - رحمه الله - : «إذا رأى الصبي وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمــي واللعب بالرمــح وأنــه لا نفاذ له من العلم ولم يخلق له، ومكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها فإنه أنفع له وللمسلمين»(12).

ومن الأساليب التي يحببون بها العلم إلى الصغار الاحتفال بهم. قال أبو خبيب الكرابيسي: كان معنا ابن لأيوب السختياني في الكُتَّاب، فحذق الصبي، فأتينا منزلهم فوُضِعَ له منبر فخطب عليه ونهبوا علينا الجوز وأيوب قائم على الباب يقول لنا: ادخلوا، وهو خاص لنا(13)، وقال يونس: حذق ابن لعبد الله بن الحسن فقال عبد الله: إن فلاناً قد حذق، فقال الحسن - رضي الله عنه -: كان الغلام إذا حذق قبل اليوم نحروا جزوراً وصنعوا طعاماً للناس(14).

 

ومن ذلك أن الصبي إذا كان ذا موهبة خطابية فإن الأولى بمعلمه أن ينمي هذه الموهبة، وقد كان ابن الجوزي الواعظ من ثمار الشيخ أبي القاسم البلخيº فإنه علمه كلمات ثم أصعده المنبر فقالها وكان عمره ثلاث عشرة سنة، قال ابن الجوزي: وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفاً. وهو أول مجالسه - رحمه الله -(15).

 

ومن الأمور التي ينبغي أن يُعلَّمها الصبي: الجرأة على طرح أفكاره، ويكون هذا بمجالسة العقلاء الكبار ليكبر عقله وينضج تفكيرهº فمن الخطأ أن يمنع الصغير من حضور مجالس أهل الخبرة والتجربة، وقد مر عمرو بن العاص - رضي الله عنه - على حلقة مــن قريــش فقال: «ما لكـم قد طـرحتم هــذه الأغيلمــة؟ لا تفعلوا! أوسعوا لهم في المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إياهº فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم فأنتم اليوم كبار قوم»(16)، بل كان ابن شهاب الزهري - رحمه الله - يشجع الصغار ويقول: «لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكمº فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم»(1).

وتعليم الصبي الاعتماد على النفس بتعلم صنعة أو تجارة أمر مهم من أهم واجبات الوليº فقد روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى غلاماً لا يحسن سلخ الشاة، فقال له: تنحَّ حتى أريك، فأدخـل يـده بين الجلد واللحم فدحـس بها حتى توارت إلى الإبط، ثم مضى(2).

 

* الحفاظ على صحتهم:

من ذلك أنه حرص - صلى الله عليه وسلم - على ألا يتعرض ابناه (الحسن والحسين) للشمسº فقد روى الحاكم من حديث فاطمة - رضي الله عنها - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاها يوماً فقال: أين ابناي؟ فقالت: ذهب بهما علي. فتوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدهما يلعبان في مشربة وبين أيديهما فضل من تمر. فقال: أيا علي ألا تقلب ابنيَّ قبل الحر؟ (3).

ومن ذلك تنظيف جروح الصغار حتى لا يحصل تلوث بالجرحº فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «عثر أسامة بعتبة الباب فشج في وجهه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أميطي عنه الأذى، فتقذرته، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمصه ويمجه، ثم قال: لو كان أسامة جارية لحلَّيناه وكسوناه حتى ننفقه(4)، وعنها أيضاً أن أسامة كان بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب يمسح مخاطه، فقالت عائشة - رضي الله عنها - : دعني يا رسول الله دعني! أنا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عائشة! أحبيهº فإني أحبه»(5).

 

كما أن للوقف دوره في هذا الجانبº فقد أيقن المجاهد صلاح الدين أن التغذية السليمة للطفل تجعله قوياً سليم الجسم، والأطفال رجال المستقبلº فلبُعد نظره أوقف صلاح الدين وقفاً لإمداد الأمهات بالحليب اللازم لأطفالهن، وقد جعل في أحد أبواب قلعة دمشق ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً يسيل منه الماء المذاب بالسكر، فتأتي الأمهات يومين في كل أسبوع فيأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر(6).

 

وليعلم أن الصغار كثيراً ما يتعرضون لأذى الشياطين لعدم تعويذهم للهدي النبوي الواقي للصغير من الشيطان والجانº فمما يشرع للصغير أن يعوَّذ من الشيطانº فقد قالت امرأة عمران: {وَإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].

 

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعوِّذ الحسن والحسين وقال: «كان أبوكم إبراهيم يعوذ إسماعيل وإسحاق: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عين لامَّة»(7).

ويمنع الصبي مــن الخروج وقت انتشار الشياطين حتى لا يؤذوهº فقد روى البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اكفتوا صبيانكم عند العشاءº فإن للجن انتشاراً وخطفة»(8)، وفي حديث جابر مرفوعاً: «إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكمº فإن الشياطين تنتشر حينئذº فإذا ذهب ساعة من الليل فحُلٌّوهم... »(9)، وجنح الليل هو إقباله بعد غروب الشمس.

 

* التربيـة بالحـب:

ولهذا النوع من التربية مظاهر منها:

* التقبيل للصغير واحتضانه وشمه:

ومن أعظم مظاهر الحب التقبيل للصغار وضمهم، وهذا من الرحمة التي يؤجر العبد عليها، وقد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبَّل الحسن وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه النبـي - صلى الله عليه وسلم - ثـم قـال: مـن لا يَرحـم لا يُرحم»(10).

وروى مسلم عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، قال أنس: ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين، فانطلق ـ يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ يأتيه واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، وقد امتلأ البيت دخاناً، فأسرعت المشي ب

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply