هل أنَّ التربية والتعليم أمران متلازمان بالضرورة؟
كيف ينعقد هذا التلازم؟
قبل أن أشرع في تناول هذا الموضوع الذي لا يزال مطروحاً على بساط البحث، أجد نفسي مضطراً إلى تقديم مشاهد حقيقية أنقلها من واقع صف دراسي حيث هناك معلم ومتعلمون.
1ـ المعلم الأول: يعتني كلّ العناية بتقديم دروسه مركزاً على الجانب المعرفي المتصل بالمعارف والمفاهيم والمهارات فقط.
2ـ المعلم الثاني: لا يركز كثيراً على المعلومات والمفاهيم بقدر ما يركز على سلوكات المتعلمين وتعاملهم الحيني فيما بينهم.
3ـ المعلم الثالث: يخطط لدروسه، يحدِّد الأهداف المناسبة، يوجه اهتمامات المتعلمين نحو المعلومات والمفاهيم ويركز عليها ولا يغفل عن إيلاء عناية فائقة بسلوكاتهم وأخلاقهم مستغلاً المواقف الأخلاقية الواردة بدروسه وكذلك المواقف الحية بمحيطه المدرسي.
أمامنا ثلاث وضعيات بالإمكان ملاحظتها من خلال المشاهد التعليمية الثلاثة.
فأيهما أنسب وأفضل وأجدر بأن تكون مثالاً يحتذى؟
ـ لا يختلف اثنان في كون الوضعية الثالثة هي الأرقى والأسمى والأنفعº ذلك أنها تحقق أهدافاً معرفية وأخرى سلوكية قيمية في حين واحد.
فالمعلم من خلال تثبيته للمفاهيم العلمية والاجتماعية أو الظواهر اللغوية والتركيز عليها يستغل المواقف الواردة بالنصوص والوثائق أو البحوث الداعمة والتجارب العلمية الهادفة ليستثمرها أخلاقياً وروحياً بما ينفع المتعلمين في تعاملهم وسلوكهم مثلما استثمرها علمياً.
وهكذا يتجلى من خلال هذا الفعل التعليمي اقتران المعرفة بالخلق وتلازم العلم والتربية تلازماً يجعل التربية بالضرورة ضمن العملية التعليمية وملتحمة بها كل الالتحام ومحتواة فيها، رغم أنَّ التربية في مفهومها الواسع والشامل تتضمَّن الهاجس التعليمي وتوظفه \"قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً * قال إنك لن تستطيع معي صبراً * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً * قال ستجدني إن شاء الله صابراً * ولا أعصي لك أمراً\". وكذلك أيضاً يمكن القول أنَّ التعليم يتضمن بالضرورة الهاجس التربوي. فالمعلم الكفء هو المعلم ذو الخلق الأفضل يربي من خلال الفعل التعليمي تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه جلّ من قائل: \"وإنك لعلى خلق عظيم\".
يتضح جلياً من خلال ما تقدَّم أنَّ العلاقة بين التربية والتعليم علاقة جدلية تلازمية احتوائية متكاملة الأهداف والغايات، يشقّ على الباحث في شؤونهما أن يفصل بينهما إلا لضرورة البحث المعمَّق، رغم أنَّ لكل من التربية والتعليم أهدافاً خاصة ومميزة. ولا يمكن أن يجرنا مثل هذا الطرح إلى القول بأنَّ هذه الثنائية المتلازمة ثنائية معقدة تحول دون تحقيق أهداف معرفية وأخرى سلوكية خلال فترة دراسية واحدة وضمن مادة لغوية أو علمية أو اجتماعية. وليس هذا بعسير على معلم ذكي كيّس فطن حريص على التخطيط المسبق لدروسه فيسعى بوعي وجدّية إلى بثّ وإدماج مفاهيم سلوكية وأخلاقية تربوية من خلال المواد المبرمجة بعمله اليومي كلما سنح الموقف التعليمي بذلك. أعني عدم التعسف على المادة العلمية أو اللغوية أو الاجتماعية.
ولا أغالي إن قلت هي كثيرة نصوص القراءة التي تتضمَّن مواقف أخلاقية وعلائقية تجدر دراستها والوقوف عندها لدقائق محدودة إضافة إلى الشرح العادي والاستثمار اللغوي والفكري للنص. ومثل هذا التوجه يمكن أن ينسحب على الوضعيات والمسائل الحسابية التي ينبغي أن تتضمَّن مواقف وملامح أخلاقية وتربوية سلوكية إن أحسنّا اختيارها وأحكمنا استغلالها ووفقنا في اعتمادها ضمن المنهج الدراسي.
وبمثل هذا التعامل مع مواد التدريس نكون قد حققنا أمرين هامين، وهما المعرفة والتربية، العلم والأخلاق ـ أي أننا تمكنا بفضل الله وعونه من قرن التعليم والتعلم بالتربية ومن وصلهما ببعضهما مندمجين متآلفين متلازمين (وبذلك يكون مثل العصفورين واقعاً: أي ضرب عصفورين بحجر واحد).
وبمثل هذا النّفس التربوي الجاد المتواصل يمتلك الطلاب المعرفة، ويتعلمون في الوقت نفسه كيف يكبحون جماح النفس وكيف يسيطرون على غرائزهم ليرتقوا بذواتهم إلى عالم الفضيلة والمثل متسلحين بالعلم ومحاطين برعاية روحية وعناية ربانية.. وهكذا يتكرر هذا النسق التعليمي المبني على الوعيº الوعي بما هو روحي ومعرفي كلّما تهيأت الفرص والمناسبات لمثل هذا التدامج والتكامل بين ما هو تعليمي وما هو تربوي.
ـ هذا إضافة إلى ما يمكن استثماره تربوياً وأخلاقياً من خلال وحدة المواد الإسلامية من توحيد وفقه وحديث.. مما يمكِّن المتعلم من تشرّب وتمثّل مفاهيم أخلاقية واجتماعية سامية يتكيَّف مع مضامينها وأهدافها تدريجياً إلى أن تستحيل سلوكاً ينشأ عليه نشأة عقلية روحية متوازنة، فيغدو قادراً على التمييز بين الخير والشر وبين الحق والباطل فيتبع الخير والحق ويتجنَّب كلّ ما هو شر وباطل، وبذلك يسلك طريق الفضيلة مستنيراً بالقدوة الصالحة، قدوة المربي الصالح النافع لناشئته ولبلده ولأمته.
وإنه لينشرح الصدر وتطمئن النفس عندما نتابع مشهداً تعليمياً تعلمياً يُخلِّل أو يُذيَّل ويعزّز بآية قرآنية تواكب وتدعم مضمون الموضوع المبرمج أو بحديث نبوي شريف أو بحكمة بليغة، أو بأمثلة أخلاقية هادفة عن السلف الصالح.
ويمكنني القول وكلي اطمئنان وثقة أنَّ هذه الخطوات التي يجدر أن تتبع ضمن هذا المسار التعليمي لتُفضي بكل تأكيد واقتناع إلى تحقيق مردود تربوي وحاصل معرفي متميزين مشرفين. وعلى هذا النحو من التعامل الواعي مع البرامج والمناهج نُخضع بكلّ ما أوتينا من قدرات تعليمية وذكاء وكياسة مواد التدريس إلى المنطق الشمولي في تنشئة طلابنا المتعلمين تنشئة شاملة متكاملة لا تقف عند حدود المعرفة فحسب، ولا تقف أيضاً عند حدود التربية فحسب، وإنما تحققهما معاً ومعاً لفائدة جيل عربي مسلم ينبغي أن يعيش قلباً وقالباً إنسانية الإنسان.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد