بسم الله الرحمن الرحيم
المشهد الأول:
معلم يسأل وطلاب يجيبون..
هذا المشهد يتكرر تباعاً في كلّ حصة تعليمية وبشكل عفوي رتيب، ورغم ما يتضمَّنه من سلبيات فإنه يظل الأفضل حسب رأي العديد من المعلمين المباشرين، فهو يقترب في نظرهم من الواقع التعليمي الحيّ، على نقيض المشهد الجامد الذي لا نرى فيه بين جدران أربعة غيرَ معلّم ملقّن يحاضر وطلاّب كأنَّ على رؤوسهم الطير يستمعون، تتساقط عليهم المعلومة متناثرة هنا وهناك مصطدمة بشحمة الأذن لكنهم لا يستوعبون..ولئن كانت الأولوية تحتّم البدء بالكشف عن طبيعة هذا النوع من التعليم التقليدي وآثاره السلبية على تشكيل شخصية الطالبº فإنَّ الاستجواب السائد في الصفوف الدراسية يضطرني أمره إلى مخالفة مسار البحث واستراتيجية الاستقصاء من حيث اعتماد الأولويات في حلّ الإشكاليات العالقة بسلبيات التعلم والتعليم في عالمنا العربي والإسلامي، لما لهذا الوضع من خطورة على الناشئة وانعكاسات سلبية على اجتماعية الطالب وحياته النفسية والإحباطات التي تلاحقه وتنتظره.
عملية الاستجواب هذه التي يمكن أن نعتبرها سيفاً ذا حدين بالنسبة لمن لا يحسن التعامل معها، تمثل أسلوباً تعليمياً يمكن أن يتحقق بواسطته الأهداف التالية:
ـ توليد المعرفة لغاية دفع عجلة الحوار وبلوغ عتبة الاستكشاف.
ـ تمكين الطالب من الإسهام بشكل تدريجي في بناء المعرفة.
ـ الاستفسار عن معلومة لا تزال محتجبة.
ـ تقييم معرفة مختزنة يتوقف التصريح بها على مدى قدرة الطالب على الاستذكار ومدى تمثله التمثّل الصحيح للمعرفة التي هيأتها الفرص المتاحة لإنجاز الدرس.
والذي يلفت النظر هنا هو الجانب الأول من الأسئلة التوليدية أسئلة الاستكشاف والاستنتاج والتي يتخذها السواد الأعظم من المعلمين والمعلمات منطلقات للدروس، فترد أسئلتهم فوقية عمودية دون أن تستند إلى تمهيد أو أيّ معين أو تهيئة مناسبة، ودون أيّ ربط محكم يراعي البناء التسلسلي للبنات المعرفة، كما أنها تأتي ضمن صياغات تفتقر إلى الوضوح والدقة، لا تتفاعل معها إلا القلة القليلة من النخبة، ولا يستوعبها إلا المتميز الملهم، مما يُحدث إحراجاً لدى الفئة الضعيفة المتعثرة، ومردٌّ ذلك أنَّ طارح هذه الأسئلة لا يُبالي بالفروق الفردية ولا يقيم لها وزناً، بينما كان بوسعه أن يكيّفها تكييفاً يتوافق وأنساق الفهم لدى كلّ طالب، ويحسن صياغتها ويتقن طرحها في وضوح وبيان وبشكل نفعيّ يخاطب الجميع دون استثناء، لكن وبكلّ أسف يتأزم الموقف التعليمي جرَّاء انعدام هذا الإجراء الواعي اليقظ، فتحدث المفاجأة، يُباغت هؤلاء الطلاب بأسئلة غير منتظرة ويدوّي صوت المعلم ثانية وثالثة ولا إجابة: أنت يا (..... ) أنت يا (....... ) أنت يا (........ ).. مشيراً إلى بعضهم ممَّن عجزت ألسنتهم عن أن تفترّ ولو بجزء من إجابة صحيحة، عندئذٍ, تقرع آذانهم كلماتٌ شتى من قاموس التجريح والاستفزاز تُلقى تترى وتختلف نوعاً ولوناً وشكلاً استصغاراً وسخرية وهزءاً (.. كرتون، حجرة، حمار، متخلف.. ) هذا غيض من فيض.. فلا تسل آنذاك عمَّا يُصيب الطلاب من وجوم وحيرة واحتقان واختناق.. فهذا تسمَّر في مكانه متمنياً لو انشقت به الأرض لتبتلعه وذاك أخفى كلّ جسده تحت طاولة، وازداد حقده على معلمه وكرهه له.. إنه موقف رهيب في أسوأ تجلياته وأدق جزئياته وأحطّ أبعاده، فلا الفكر فكر ولا الوجدان وجدان ولا العقل عقل، والكل تحوَّل إلى جمود وسكون وارتباك.. ولحق بالجميع ما يلحق بذي الأمل المشرق من إحباط وتثبيط للعزائم وإخفاق متلاحق.. وهيهات هيهات أن يقع تدارك الأمر في مثل هذه الحال وقد سبق السيف العذل وقضي الأمر بما لا يمكن تداركه.
فكم من طالب بعد سنين طوال وبعد استكماله لوعيه تفيق لديه الذاكرة فيثني خيراً على جميل معلمه في إخلاصه وحسن معاملته وطرق تشجيعه، ونقيضاً لذلك كم من طالب يسترجع صور ومشاهد جرحت كرامته أيّام كان طالباً يعلمه زيدٌ ذاك الرجل الذي لن ينسى قسوته وتقريعه اللاذع له ولغيره من الطلاب ممَّا جعله ينفر من المدرسة بمن فيها وما فيها.
وإنَّ ما يمكن أن نذكّر به استناداً إلى هذه المشاهد هو أنَّ لشرعية العمل التربوي حدوداً تحدّ من سطوة المعلم ذكراً كان أو أنثى، وموانع تمنع من التسلط على نفوس بريئة مترشدة بالتجريح والإمعان في السخرية والاتهام بالتخلف الذهني.
يقيني أنَّ إجراءات التعسف هذه لتبرهن على عجز تام عن توفير علاقات الدفء والمحبة بالبيئة الصفية، ولتدلّ بوضوح دلالة قاطعة على بوار الطرق السلبية العقيمة التي تساهم في تجميد الفكر وزعزعة مقومات الحياة النفسية والانفعالية للطلاب نحو السلبية وسوء المنقلب.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد