فقه الصياغة في العقيدة ( 1 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تمهيـــد:

التدين بالإسلام يكون بكيفيتين متلازمتين: أولاهما، الإيمان بحقّانية المنظومة النظرية، التي جاء بها البيان الديني، في شرحه للوجود القائم على إقرار توحيد الألوهية، وفي إخباره بالرسل الهداة، وإخباره بالحياة الأخرى، التي يتم فيها حساب الإنسان وجزاؤه. والإيمان كذلك بحقانية جملة التعاليم، التي بشر بها الوحي المحمدي، كما جاءت في القرآن الكريم وفي السنة الثابتة. والثانية التطبيق العملي لما جاء في هدي الدين، من الأوامر والنواهي، المتعلقة بالسلوك في معناه الشامل. وقد وقع الاصطلاح على تسمية ما يُتديّن به بالكيفية الأولى بالعقيدة، وتسمية ما يُتديّن به بالكيفية الثانية بالشريعة.

والتدين بالعقيدة هو الأصل، الذي ينبني عليه التدين بالشريعةº إذ الإيمان بالله وبالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي حمّله الرسالة المشتملة على الشريعة هو المبرر لأصل التدين بالشريعة أساساًº ولذلك فإن العلاقة بينهما علاقة تلازم، يفضي انفصالها إلى انخرام في التدين، كما أشرنا إليه آنفاً.

وإذا كان التدين بالشريعة يتمثل في إجراء السلوك الفردي والاجتماعي، على حسب مقتضيات الوحي، في الأمر والنهي، كما هو ظاهر، فإن التدين بالعقيدة يكون بالاستيقان الثابت بحقانية التعاليم العقدية، استيقاناً لا يراوده الشك بأي حال، ثم اتخاذ تلك التعاليم المستيقنة مرجعاً في التصرفات السلوكية كلها، سواء من حيث صياغتها أحكاماً شرعية، أو من حيث تنزيلها في واقع الحياة. فالتدين بالعقيدة يشمل إذن التحمل التصديقي لها بالإيمان، والصدور عنها في كل تفكير وسلوك، وأيّما قصور في هذين الوجهين، يعتبر إخلالاً بالتدين في جانب العقيدة.

 وصياغة الشريعة، بالمعنى الذي حدّدناه في هذا البحث، يبرره أن الأحكام الشرعية، فيها مجال واسع للاجتهاد العقلي، بالترجيح بين الاحتمالات، فيما هو ظني من نصوص الأحكام، وباستحداث أحكام شرعية، فيما لم يرد فيه حكم، من مستحدثات النوازل، في حياة الإنسان، فبهذا الاجتهاد، يمكن صياغة الحلول الشرعية للأوضاع الواقعية، بحسب ظروفها الزمنية، ترجيحاً واستثناءً واستحداثاً، بحيث تحصل من الأحكام المجردة خطة واقعية للتدين. أما العقيدة فهي حقائق مكتملة، لأنها تبين ما هو واقع من حقيقة الوجود، فلا مجال فيها لاستحداث أحكام بالعقل، كما أنها وردت في النصوص على سبيل القطع، فلا مجال فيها للترجيح. إنها منظومة مكتملة ثابتة مهما تغيّرت أوضاع الحياة الواقعية، فكيف يمكن أن تكون فيها صياغة تهدف إلى ترقية التدين في مجالها؟ وما هي طبيعة تلك الصياغة؟

إن الصياغة في مجال العقيدة تتناسب في طبيعتها مع طبيعة العقيدة نفسها. فلما كانت العقيدة الإسلامية مكتملة ثابتة في ذاتها، والتدين بها يكون باستيقانها في التصور الذهني، والصدور عنها في التفكير والسلوك، فإن الاجتهاد في صياغتها يكون هادفاً إلى تحقيق هذه الغاية، وذلك يتم بوجهين اثنين:

الأول: تقديم العقيدة للناس بطريقة من شأنها أن تقنع من لا يكون مقتنعاً بها، وأن تعمّ الفهم والاقتناع، بالنسبة لمن يكون موقفه منها موقف القبول الجملي، الذي ينقصه الوعي بأبعادها الحقيقية لسبب أو لآخر من الأسباب. فطريقة التقديم هي ضرب من الصياغة، التي نقصدها في بحثنا، لأنها تمثل خطة تشتق من واقع العقول المخاطبة، في كيفيات اقتناعها المتغيرة بتغير الثقافات، وتهدف إلى أن تصيّر أحكام العقيدة المجردة واقعاً تصديقيًّا في أذهان المخاطبين.

والثاني: تقديم العقيدة للناس بحيث تكون - بعد الاقتناع بحقانيتها - مرجعاً أصليّا يصدرون عنه في الفكر والسلوك، وموجهاً للحياة في مظاهرها كلها، وذلك بترتيب قضاياها بحسب ما يتطلبه مجرى الأحداث في حياة الأمة، وإبراز الأبعاد العملية لحقائقها مهما كانت نظرية مجردة، وربطها بالمشاكل الواقعية الناجمة في الحياة، بما يظهر أنها الفرقان المصحح لكل انحراف، في سير الحياة عن وجهة الدين. وتقديم العقيدة على هذا النحو، يحتاج إلى صياغة تُعدّ المنظومة العقدية، بما يناسب الظروف الواقعية المتغيرة، ليقع التدين بها على الوجه المطلوب.

وللفكر الإسلامي تجربة ثرية في صياغة العقيدة مثل تجربته في صياغة الشريعة، وهي تجربة تراوحت بين ازدهار ناجع، وبين ضعف مخلّ. وسنحاول في هذا الفصل أن نستعرض هذه التجربة مستفيدين من ازدهارها، ومعتبرين بضعفها، في سبيل تبيّن أسس فقهية في صياغة العقيدة، يمكن أن تؤسس عليها في الواقع الراهن للمسلمين صياغة للعقيدة، تساعد على ترقية تدينهم، في الاستيقان بحقيقتها، والوعي بأبعادها، وفي الصدور عنها مرجعاً أساسيًّا في كل فكر وسلوك. كما يمكن أن تؤسس عليها صياغة للعقيدة، تساعد في إقناع الجاهلين بها، والمتشككين فيها.

1- تجربة الفكر الإسلامي في صياغة العقيدة:

أولى الفكر الإسلامي عناية كبيرة لصياغة العقيدة، بقصد الإقناع بها في مضمار الدعوة إلى التدين، والمحافظة عليها قواماً صحيحًا صافيًا يضمن استمرارية الدين، دون أن يصيبه انحراف كما أصاب أديانًا قبله، والمحافظة عليها أيضاً إطاراً مرجعيًّا، يتم فيه كل اجتهاد ديني في توجيه الحياة. وقد خصص لهذه الصياغة علم بأكمله هو علم العقيدة، الذي سمي أيضاً بعلم الكلام، كما سمي بعلم التوحيد.

إن العقيدة الإسلامية لمّا جاءت أحكامها في نصوص الوحي قطعية في أكثرها، فإن البحث الاجتهادي فيها، لم يغلب عليه طابع الاجتهاد الفهمي، لضيق مجال العمل العقلي، بسبب قطعية النصوص، وإنما غلب عليه طابع الاجتهاد الصياغي، عملاً على حفظ العقيدة، صافية في الأذهان، مؤثرة في توجيه السلوك، ومن ثمّة فقد كان علم العقيدة يغلب عليه طابع الصياغة، على عكس علم الفقه الذي غلب عليه طابع التقرير للأحكام الشرعية، كحصيلة للفهم المتأتي من المجال الواسع لاستعمال العقل في الفهم المجرد، نتيجة لظنّية كثير من النصوص المتعلقة بالشريعة من جهة، ولانفساح المجال لما لم تنله النصوص بالبيان من جهة أخرى.

وقد كان علم القعيدة من حيث هو صياغة لها، عرضة لتقويم صارم فيما سلكه من طرق، وما توصل إليه من نتائج، في تحقيق غايته في التدين بالعقيدة، وهو تقويم واكب هذا العلم منذ نشأته إلى هذا العهد، دون انقطاع عبر مراحله المختلفة، وتراوحت المواقف فيه بين اتهام بالعقم والإفلاس، في التأدية إلى الغرض الذي من أجله وضع، وبين التزكية والثناء، على ما قام به من دور، في حفظ العقيدة واستمرارية سلامتها وفعاليتها. (1)

والمتأمل في تجربة الفكر العقدي، بصفة موضوعية، بحيث يقع تنزيلها في ظروفها الزمنية، ومحاكمتها على أساس تنوّع المراحل التي انقلبت فيها، وما حققته في كل مرحلة منها، يجد أن هذه التجربة تتمايز فيها مرحلتان أساسيتان:

مرحلة اتصفت فيها بالنضج والعطاء، فأدت فيها شطراً كبيراً من مهمة الدفع إلى التدين، بما قدمت من صياغة ناجعة في ذلك، ولكنها لم تخل من بعض العيوب، التي كانت لها آثارها السلبية على كفاءة الأداء لتلك المهمة.

ومرحلة أصيبت فيها بالانتكاس تجاوباً مع الانحدار العام للفكر الإسلامي بعد القرن الخامس، فانكفأت عن أداء مهمتها في ترشيد التدين، بما سقطت فيه، من تجريد وحرفية وابتعاد عن الواقع، ولكنها لم تخل أيضاً من بعض الومضات، التي كان لها أثرها الإيجابي في سياق السلبية العامة، التي سقطت فيها. وسنحاول فيما يلي تبيّن الفقه الذي كانت به ناجعة في مرحلة النضج، والأسباب التي آلت بها إلى العقم في مرحلة الضعف.

(أ) فقه الصياغة في مرحلة النضج:

يمكن أن نحدد هذه المرحلة على وجه العموم، بما قبل القرن الخامس للهجرة. ففي هذه المرحلة كان الفكر العقدي يقدّم صياغة للعقيدة، ترشّد التدين بها: محافظة عليها من عاديات الثقافات الغازية، واتخاذاً لها موجّهاً إيديولوجيًّا، يرشد المسيرة السلوكية، ويصحح الأخطاء الناجمة فيها.

والمبدأ الأساسي الذي بني عليه فقه الصياغة في هذه المرحلة، والذي كان سبباً رئيساً في نجاحها في ترشيد التدين، هو مبدأ الواقعية. فقد ظل الفكر العقدي طيلة هذه المرحلة يصوغ العقيدة على ضوء الواقع، الذي يعيشه المسلمون، فيما يتعرّضون له من تحديات، دينية وفلسفية، وفيما ينجم بين أيديهم من مشاكل ذاتية، نتيجة النمو الحضاري المتسارع. فكلُّ من هذه التحديات الواردة من أهل الفلسفات والأديان، وهذه المشاكل الناجمة في المجتمع الإسلامي، أحدثت فيه توتراً، على نحو أو على أخر، وهو توتر نشأ من المفارقة، بين إفرازات الثقافات الوافدة، والمشاكل الناجمة في الداخل، وبين مثالية المرجعية الشاملة، التي اتخذها المجتمع الإسلامي، وهي مرجعية الوحي، فنشأ الفكر العقدي يعالج ذلك التوتر في حياة المسلمين، ويهدف إلى توجيه الحياة بحسب ما يلائم مرجعية الوحي المثالية.

والمتتبع للفكر العقدي في هذا الطور يقف على خاصية الواقعية، فيما صاغه من مسائل العقيدة، على مستويات مختلفة، فيجدها في نشأة الصياغة وتطورها، كما يجدها في المواضيع العقدية نفسها، وفي المنهج الذي قدمت به، لأداء غرضها في علاج الوقائع.

 

أولاً- واقعية النشأة والتطور في صياغة العقيدة.

لقد ظلت أجيال القرن الأول من المسلمين، تتحمل العقيدة الإسلامية، بأثر من التربية النبوية، التي جعلتهم يستيقنون حقائقها، ويتصرفون بحسبها، بصفة تلقائية، دون حاجة إلى صياغتها في مرجع نظري، كعلم متميز. ولم تنشأ هذه الصياغة النظرية في صفة علم مستقل، إلاّ أوائل القرن الثاني، مع نشوء الفكر الاعتزالي، وإن كانت المطارحة العقلية، في مسائل ذات صبغة عقدية، مثل القدر والإيمان، قد ظهرت قبل ذلك ببعض العقود، ولكنها لم ترق إلى درجة التنظير المتميز.

ولم تكن هذه النشأة إلا استجابة لضرورة واقعية ملحة، تمثلت في مشكلات سياسية واجتماعية، نجمت في حياة المسلمين، وباتت تهدد باستفحالها المطرد البناء الديني، الذي قام عليه المجتمع الإسلامي، كما تمثلت في تحديات دينية وفلسفية من أهل الأديان والفلسفات القديمة، باتت تروج بين المسلمين، وتعدد بنية العقيدة الإسلامية. فهذه المشكلات والتحديات، دفعت الفكر الإسلامي، في سبيل الدفاع عن مرجعيته العقدية، إلى أن يتجه إلى معالجتها معالجة تنظيرية، فكانت نشأة علم العقيدة، بمنزلة الاستجابة، لتحديات ناجمة من صميم واقع المسلمين.

وإذا كنا سنتعرض بعد حين إلى شرح أمثلة، للتناسب بين القضايا الكلامية، وبين منابتها الواقعية، فإننا في هذا الموطن نود أن ندعم واقعية النشأة بحادثة لها دلالة عميقة في هذا الشأن، وهي الحادثة التي تناقلتها كتب الفرق الإسلامية، على أنها تمثل المنطلق الأول لنشأة فرقة المعتزلة.

وإذا كنا نعتبر أن الجذور الأساسية لنشأة هذه الفرقة تضرب بأسبابها إلى ما هو أعمق من هذه الحادثة(2)، إلاّ أنه يمكن حسبانها النقطة الأخيرة، التي لخصت تلك الأسباب الماضية، وأفاضت الكأس، فأفرزت تيّاراً فكريًّا هو التيار الاعتزالي، الذي يمثل نشأة علم العقيدة، ومن ثمّة اعتبرناها ذات دلالة عميقة، في هذه النشأة من حيث صلتها بالواقع.

وهذه الحادثة كما رواها الشهرستاني هي أنه: \"دخل واحد على الحسن البصري فقال له: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج. وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان… وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ فتفكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول: إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن، ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد، يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه معتزلة \". (3)

ويبدو من هذه الحادثة، أن نشوء المعتزلة، كان بسبب حل مشكلة عملية، تتعلق بتحديد حقيقة الإيمان، وتعيين منزلة مرتكب الكبيرة منه، وقد كان هذا الأمر منشأً لفتنة كبيرة في المجتمع الإسلامي، اتخذت لها وجهين: التذرع بالإرجاء في إتيان الآثام والمعاصي، حيث لا تضر مع الإيمان معصية، والتذرع بتكفير المذنبين لإعمال القتل فيهم، كما فعل الأزارقة من الخوارج. وقد ربط البغدادي بين هذا الواقع، وبين خروج واصل بن عطاء، بقوله بالمنزلة بين المنزلتين ربطاً سببيًّا حيث يقول: \"فلما ظهرت فتنة الأزارقة، بالبصرة والأهواز، واختلف الناس عند ذلك في أصحاب الذنوب، على الوجه الخمسة التي ذكرناها، خرج واصل بن عطاء عن قول جميع الفرق المتقدمة، وزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، وجعل الفسق منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان\". (4) وبذلك يتأكد أن ظهور علم الكلام مترافقاً مع الاعتزال كان معالجة تنظيرية عقدية لمشاكل واقعية سياسية واجتماعية. (5)

وكما كان الفكر العقدي واقعيًّا في نشأته، كان أيضاً واقعيًّا في تطوره، فقد كان تناميه، في الموضوع وفي المنهج، محكوماً بمقتضيات الأحوال الاجتماعية والثقافية، كما كان ترتيب مسائله في الظهور، بحسب ذلك أيضًا، وهو ما تعكسه الكتب العقدية الأولى التي وصلتنا، رغم أنها تعود إلى القرن الثالث، مثل مؤلفات الأشعري والماتريدي، فقد كانت المسائل تعرض فيها عرضاً أقرب إلى نسقها التاريخي، وليس الترتيب الذي نجده في الكتب المتأخرة بعد القرن الخامس، إلا صنعة عقلية منطقية، لنظم المحصول الكلامي، في سياق مدرسي.

وإذا أردنا التمثيل لذلك، فإننا نجد أول ا لمسائل الكلامية ظهوراً، هي تلك المسائل، ذات الصلة الوطيدة بالواقع الاجتماعي، وعلى رأس هذه المسائل مسألتا \"الفعل الإنساني \" \"ومرتكب الكبيرة \"، فقد كانت لهما جذور في أحداث الفتنة منتصف القرن الأول، ثم آل البحث فيهما إلى التنظير العقدي، أواخر القرن، من قبل القدرية، والمرجئة، والخوارج، لتصبحا النواة الأولى في الفكر الكلامي لدى المعتزلة.

ومسألة الألوهية المتقوّمة بما عرف بقضية \"الذات والصفات\" لم ينشأ البحث فيها إلا في القرن الثاني، حينما طرحها واصل بن عطاء رأس المعتزلة، طرحاً غير نضيج، كما وصفه الشهرستاني، وإنما أصبحت مسألة مهمة في المداولة، أواخر القرن الثاني، وكان نشوؤها مُتأخراً نسبيًّا، بسبب أن القرن الأول لم يظهر فيه التحدي لعقيدة الألوهية، في المنظور الإسلامي، مثلما ظهر في القرن الثاني، متمثلاً في عمل اليهود على نشر تجسيمهم، والنصارى على إشاعة تثليثهم، والمجوس على تسريب ثنائيتهم.

وقد كانت قضية النبوة أكثر تأخراً في ظهورها قضية كلامية، وذلك لأن التحدي الوارد فيها، إنما جاء من أصحاب ديانات الهند، في الأكثر، وخاصة السٌّمنية والبراهمية، ولم يكن لهذه الأديان رواج ظاهر بالبلاد الإسلامية، إلا أواخر القرن الثانيº إذ أن \"يحيى بن خالد البرمكي [ت 190هـ] بعث برجل إلى الهند، ليأتيه بعقاقير موجودة ببلادهم، وأن يكتب له أديانهم في كتاب، فكتب له \" (6) في ذلك كتابº ولذلك فإن القرن الثالث، شهد البحث المستفيض في قضية النبوة، من قبل المتكلمين، دفعاً لما روجه منكرو النبوة وخاصة منهم ابن الروندي (ت 298هـ) وأبو بكر الرازي ـ 311هـ.

والمسائل الطبيعية، التي أصبحت جزءاً من الفكر الكلامي، لم ينشأ البحث فيها، إلا حينما تفشت الفلسفة اليونانية، في المجال الثقافي الإسلامي، من قبل الفلاسفة الإسلاميين، وخاصة منهم الفارابي (ت 339هـ)، فحينئذ أصبح علماء العقيدة يبحثون المسائل الطبيعية، لاستخدامها مقدمات في إثبات العقيدة، ردًّا على المقولات الفلسفية اليونانية، المخالفة للعقيدة الإسلامية. وهكذا يبدو أن الفكر الكلامي كان ينمو ويتطور بالمعالجة المستجدة، لما يطرأ من مشكلات واقعية بتنظير عقدي، ولم يكن متولدا من فكر فلسفي مجرد.

 

ثانيًا: واقعية الصياغة في الموضوع:

نعني بها أن الموضوعات التي بحثها الفكر العقدي، كانت موضوعات ذات صلة متينة بما يجري في واقع الحياة الإسلامية، وليس شأنها في ذلك شأن الموضوعات الفلسفية، التي كانت تطرح على المنهج اليوناني، فليس من مسألة من المسائل العقدية إلاّ تمثل رد فعل دفاعيًّ على حادثة ناشبة في الحياة الاجتماعية، تخل بأغراض الدين فيها، أو مقولة طارئة من أهل المذاهب والأديان، تنال بصفة مباشرة من العقيدة الإسلامية، ولا يند عن ذلك ما يبدو لنا اليوم من مسائل موغلة في التجريد، لا تمت إلى الواقع بصلة.

 

ولو أردنا تأييد ذلك، ببعض الشواهد من المسائل العقدية، التي تبدو أكثر تجرّداً من غيرها، لرأينا على سبيل المثال، أن قضية \"الفعل الإنساني بين الحرية والجبرية\" قد أصبحت قضية كلامية، لمّا تفشى في المجتمع الإسلامي، أواخر القرن الأول، التعلل بالقدر المقدور، في إتيان المعاصي، واقتراف الآثام، من قبل كثير من المتحللين من قيود الشريعة، وهو ما جاء يشكوه أحد المخلصين من المسلمين لعبد الله بن عمر قائلاً: \"ظهر في زماننا رجال يزنون، ويسرقون، ويشربون الخمر، التي حرم الله، ثم يحتجون علينا ويقولون: كان ذلك في علم الله \". (7) وكذلك لما أصبح بعض حكام بني أمية يتعللون بالقدر، في تبرير ظلمهم وبغيهم على الناس، مثلما ذكر، من أنه لما قتل عمرو بن سعيد بن العاص، على عهد عبد الملك بن مروان، طرحت رأسه من أعلى القصر بين يدي جمع من أصحابه، كانوا يترقبونه، وقال الذي طرحها لمترقبين: إن أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ. (8) فهذه الظاهرة الخطيرة في سلوك الناس نشأت لمعالجتها مسألة \"الفعل الإنساني\" متمثلة في القول بحرية الإنسان، في فعله ومسئوليته عليه، وهو ما ابتدأه القرية الأوائل: معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، ثم طوره المعتزلة، فأصبح أصلاً من أصولهم الخمسة، سموه بأصل العدل.

ولو انتقلنا إلى قضيتي \"الذات والصفات \"، \"وخلق القرآن \"، لوجدنا أنهما على ما يبدو في الظاهر، من افتقادهما للمبرر الواقعي، قد كان البحث فيهما ردًّا على محاولات مسيحية ومجوسية، كانت غايتها التشويش على التوحيد الإسلامي الخالص، وجره إلى ضرب من التعددية، التي قد تؤول به بمرور الزمن، إلى عقيدة تعدد الإله.

وهكذا يبدو أن موضوعات الفكر الكلامي، مهما بدت في ظاهرها عقلية مجردة، فإنها في حقيقة نشأتها، وفي سيرورتها طيلة قرون ثلاثة على الأقل، كانت تعالج مشاكل واقعية حية، تروم حلها على أساس عقدي، بقطع النظر عما حف بتلك المعالجة من ملابسات. وعما شابها أحياناً من مغالاة وشطط.

 

ثالثاً: واقعية الصياغة في المنهج:

كما كان الفكر العقدي واقعيًّا في نشأته وتطوره وموضوعه، كان أيضاً واقعيًا في منهجه، فقد كان يستعمل الأساليب الاستدلالية، التي تناسب التحديات المطروحة، ويطور من تلك الأساليب بحسب تطور التحديات.

وقد كان الاستدلال النقلي أول الأساليب، التي استعملت في الفكر الكلامي، حيث يتخذ من نصوص القرآن والحديث شواهد على الآراء العقدية، في الحوار الدائر بين الفرق الإسلامية، تأصيلاً لهذه الآراء في أصول الوحي، بطريق التأويل، أو ردًّا للشواهد المخالفة لها، بطريق النقد، لما هو ضعيف منها أو منحول. وقد ظل هذا الاستدلال النقلي مواكباً للفكر الكلامي طيلة مسيرته في الحوار الداخلي بين المسلمين. (9)

ولما نجمت تحدّيات أهل الأديان والمذاهب، في القرن الثاني، نشأ لدى المتكلمين الأسلوب العقلي في الاحتجاجº ذلك أن هذه التحديات كان أهلها من النصارى والمجوس، متمرسين بالفلسفة اليونانية، ومنطقها الصوري، فاستخدموا آليات هذه الفلسفة للاحتجاج، نصرةً لمعتقداتهم، ونقداً للعقيدة الإسلامية، ولذلك بادر الفكر العقدي باستعمال الحجة العقلية، في مقابلة هذا التحدي، وأصبح هذا الأسلوب هو الأسلوب الغالب على الفكر ا لكلامي.

ولما استفحلت الفلسفة اليونانية، في الساحة الإسلامية، في القرن الثالث، وانتشرت مقولاتها مختلطة فيها المسائل الميتافيزيقية بالمسائل الطبيعية، في تفاعل تناصري بينهما، طور الفكر العقدي من منهجه، فأدخل في دائرة اهتمامه المسائل الفلسفية والطبيعية، مثل قضايا \"العلة والمعلول \" و \"الجوهر والعرض \" و \"الجوهر الفرد \" وأمثالها، واستخدمها مقدمات، في الاستدلال على العقيدة الإسلامية، ورد الشبه الواردة عليها، وأصبح ذلك سنة ماضية في هذا الفكر، بعد القرن الثالث.

إن هذه الصياغة الواقعية، للعقيدة في الموضوع والمنهج، كان لها دور مهم، في معالجة حادثات المشاكل الاجتماعية والثقافية، في المجتمع الإسلامي، كما كان لها دور مهم في رد الغزو العقدي والفلسفي، وهي بهذا وذاك حافظت على درجة عالية من التدين بالعقيدة، في زمن تعرضت فيه الأمة لعاديات قاطعة، من مشاكل النمو الحضاري الداخلية، وغازيات الأديان والفلسفات الخارجية.

ولكن هذه الصياغة لم تخل من عيوب، تمثلت بالأخص في جموح عقلي، في التنظير للعقيدة، صبغها بشيء غير قليل من الجفاف المنطقي الصارم، والحال أنها كما وردت في القرآن والحديث، كانت لينة سهلة، تخاطب مجامع الإنسان، من عقل وضمير وعاطفة، فتفعل أثرها فيه، على نحو شامل مؤثر. وقد كانت هذه العيوب سبباً في أحكام نقدية قاسية، من قبل كثيرين في القديم والحديث، إلا أن هذه الأحكام كانت في الغالب لا تنزل الصياغة المنتقدة في ظروفها التاريخية، وأسبابها الموضوعية، من واقع التحديات الداخلية والخارجية التي واجهتها، فكانت في كثير منها أحكاماً مسقطة من مواقع مثالية في التقدير.

 

[ب] صياغة العقيدة في مرحلة الضعف:

إن الانحدار العام الذي أصاب الفكر الإسلامي بعد القرن الخامس، أصاب أيضاً الفكر العقدي في صياغته للعقيدة، فقد آل هذا الفكر إلى نزوع تجريدي في مباحث العقيدة، انشغل به عن مجريات الواقائع، المتعلقة بالأصول العقدية بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وسقط في مجالات نظرية في المسائل القديمة. واحتجاجات تتعلق بتحديات ماضية، وميل إلى التأليف والترتيب للآراء والمقولات السابقة، في نسق منطقي مدرسي. حتى إنه ليمكن القول: إن الصلة كادت تفقد بين هذا الفكر، وبين واقع المسلمين، فيما يواجه تدينهم بالعقيدة من تحديات.

وكلما تقدم الزمن بعد القرن الخامس، كلما فقدت صياغة العقيدة من نجاعتها في ترقية التدين، أو المحافظة على ما كان عليه من قبل، بما تبتعد عن واقع المشكلات، فلم تعد توجه الحلول فيها توجيهاً عقديًّ، بما تُدرج فيه من إطار مرجعي، محكوم بأصول العقيدة. وبهذا الابتعاد عن واقع المشكلات، أصبح الفكر العقيدي تجريديًّا اجتراريًّا، يكتفي أو يكاد بالتعقيب على فوائت الآراء، في مناظرات غير منتجة، لما فيه معالجة لواقع التدين، وهو ما وصفه الإمام محمد عبده في قوله: \"لم يعد بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ، أو تناظر في الأساليب. على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف، وفضلها القصور \". (10)

وإننا لنرى ابن خلدون قد جانب الصواب، لما توهم أن الفكر العقدي قد استنفد أغراضه، فلم تعد للأمة حاجة فيه: إذ العقيدة قد وقعت صياغتها بصفة دائمة، غير قابلة للتجديد، لانتهاء عوامل التجديد في عرض العقيدة، والاستدلال عليها. إنه على رأيه \"الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم، فيما كتبوا ودونوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا، وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير من إيهاماته وإطلاقه \". (11)

لقد كان حكم ابن خلدون على دور الفكر العقدي بالانتهاء على عهده، من خلال ما آل إليه من وضع الجمود في الصياغة، ولكنه لم يتنبه، إلى أن الواقع الجاري يستلزم إحياء ذلك الفكر، ليستأنف الصياغة الفاعلة، بالمناهج الملائمة لمستجدات التحديات المخلة بالتدين، تلك التحديات التي لم يكن العصر الذي عاش فيه ابن خلدون خلواً منها، بل كان المد النصراني مستفحلاً بالأندلس، والمد الصوفي الباطني مستفحلاً بالمشرق والمغرب، إضافة إلى الأمراض الداخلية، التي كانت تعاني منها الأمة الإسلامية، بسبب من خلل عقدي مثل التواكل، ومظاهر الشرك، وأفكار الإلحاد، والحلول، وما ما ثلها. وقد وجدت هذه الأمراض طريقها إلى المسلمين، بأسباب تعود في أكثرها إلى الفشل في صياغة العقيدة، الصياغة الملائمة، التي تزكي التدين بها، وتحول دون طروء الإخلال عليها.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply