بسم الله الرحمن الرحيم
الشكوى والتبرم والتأفف من واقع الصحوة الإسلامية، وانتقاد أوضاع الدعاة في بعدهم عن منهجهم الأصيل، وتفريطهم في التمسك به، والحديث عن الضعف الذي اعترانا واعترى أمتنا.. ظواهر أصبح لها في مجالس الدعاة رواج وانتشار، وأصبح الكل يشكو ويشكو حتى تبلغ بالسامع الحيرة.. مَنِ الشاكي؟ ومَنِ المشكو منه؟
وحيال هذه الظواهر لي وقفات ثلاث أحب أن نقف سوياً في تأملها:
الوقفة الأولى: لماذا الشكوى؟
لابد لكل من يشكو من أوضاع للدعاة غير سوية أن يقف مع نفسه وقفة محاسبة، يسأل فيها نفسه: لماذا الشكوى؟! ألأنه رأى أوضاعاً آلمت مشاعره، وأحرقت فؤاده فأحب أن ينقدها نقداً بناءً عند من بيده المساهمة في إصلاحها وسد خللها، محباً في ذلك أن تكون له يد طولى في العلاج والإصلاح، أم أنه بحديثه هذا أحب أن يملأ فراغاً من وقته مُضَيَّعاًَ ظانّاً أنه بمثل هذا الكلام قد استغل وقته أحسن استغلال، وقد أصلح في الأوضاع أفضل إصلاح بمجرد كلمات خرجت من فيه إلى أذن سامعه، ثم نام كليهما عليها وكأن شيئاً لم يكن؟
ومن سلك هذا المسلك الثاني فعليه أن يحذر على نفسه من آفتين قلبيتين خطيرتين هما: العجب، والقنوط، وقد ذكرهما الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قال الرجل: هلك الناسº فهو أهلكهم) (1)، قال أبو إسحاق - رحمه الله تعالى -: \"لا أدري (أهلَكَهُم) بالنصب، أو (أهلَكُهُم) بالرفع! \"، وقال الإمام مالك - رحمه الله تعالى - شارحاً لهذا الحديث: \" إذا قال ذلك تحزناً لما يرى في الناس يعني في أمر دينهم فلا أرى به بأساً، وإذا قال ذلك عجباً بنفسه وتصاغراً للناس فهو المكروه الذي نهي عنه \".
وتفسيره هذا على رواية الرفع للكاف (اسم التفضيل)، أما رواية النصب للكاف (الفعل الماضي)º فإن معناها كما ذكر العلماء عليهم رحمة الله - تعالى -: أن الغالين الذين ييئسون الناس من رحمة الله - عز وجل -، يقولون: هلك الناس، أي استوجبوا النار بسوء أعمالهم، فهذا حكم من عندهم لا من عند الله - عز وجل -، ولا عبرة بإيجابهم النار لهؤلاءº فإن فضل الله واسع ورحمته تعمهم، وذكروا معنى آخر وهو: أنه لما قال لهم ذلك وآيسهم حملهم على ترك الطاعة والانهماك في المعاصيº فهو الذي أوقعهم في الهلاك بهذا (2).
أيها الناقد أعمـال الورى هل أريت الناس ماذا تعمل؟
لا تقل عن عمل: ذا ناقص جىء بأوفى، ثم قل ذا أكمل
إن يغب عن ليلِ سارٍ, قمرُ فحـرام أن يُلام المشعـل!
الوقفة الثانية: {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} (3)
إن مناط التكليف ثم السؤال عند الله - عز وجل - يوم القيامة فرديº فلن يسأل الله عزوجل المرء يوم الحساب إلا عن ماذا عمل هو؟ وماذا قدم؟ وهذا يدعونا إلى نفكر قبل أن نشكو ونتذمر في ما هو المطلوب منا، وماذا عملنا فيه؟ وهل أديناه على الوجه المطلوب؟ وقبل أن ينتقد المرء العاملين، وينتقد أوضاعهم لا بد أن يعلم بأن الله - عز وجل - قد وزّع الجهود والطاقات فما يقدر عليه هو قد لا يقدر عليه غيره، وما يتحمله هو قد لا يطيقه آخرون، ثم إنه قد يكون عند الآخرين من الأعذار ما يمنعهم من العمل والإنتاج بينما هو عنده من القدرة والتحمل والسلامة من الأعذار ما يوقعه في حرج شديد إن انتقد غيره ولم يعمل هو، وهذا يدعونا إلى أن ننصب نبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - قدوة عملية أمام أعينيا نقتدي بهديه ونعمل بعمله دون أن يكون للناس وأعمالهم تأثير عليناº فقد يفتح الله - عز وجل - علينا ما لا يفتحه على غيرنا، ويعطينا من الهمة والقدرة على الإنتاج ما لا يعطيه لغيرنا.
الوقفة الثالثة: الصبر الصبر.. والعمل العمل
اسمع أخي إلى ما يقول نبينا - صلى الله عليه وسلم - في وصف الأزمنة المتأخرة وزماننا منها، وتأمل هذا الكلام النبوي الرائع: (إن من ورائكم أيام الصبر. الصبر فيهن: مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، وفي بعض الروايات: قالوا: منا أو منهم؟ قال: بل منكم)(4).
نعم.. الطريق شاق وطويل، فيه آلام ومحن، ليس لها إلا الصبر، ثم الصدق مع الله - عز وجل - بالعمل والبذل والعطاء.
العمل المطلوب هو: ذاكم العمل الصالح الذي قرنه الله - عز وجل - مع الإيمان في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، ذاكم العمل الذي فسر الله - عز وجل - الإيمان به في مثل قوله - تعالى -: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (5).
أخي الحبيب.. العمل الصالح الدؤوب هو دليل الصدق مع الله - عز وجل -.. واسمع إلى هذا الكلام الجميل لعبد الوهاب عزام - رحمه الله - تعالى - في شوارده: \" تجد الوحدان والجماعات أقربها إلى الصدق والجد: أقلها كلاماً، يشغلها الفعل عن القول، ويغلب فيها الفكر واليد على اللسان، وأقرب الناس إلى البطالة والهزل: أكثرها كلاماً، وأذربهم لساناً، إلا قليلاً.. لو اتصل اللسان بالفكر لقيده الفكر، ولو صحب القولُ العمل لوقره العمل، ولكن اللسان يتقلب في هراء لا ينفد، ويصرّف ألفاظاً لا تحد.. قول بغير حساب، وقشر ليس فيه لباب \".
العمل المُخلَص لهذه الأمة هو المطلوب منا في هذه المرحلة، واسمع إلى ما يقوله الشيخ القرضاوي - حفظه الله تعالى - في كتابه [أين الخلل؟ ] ناصحاً لنا: \" على الحركة الإسلامية أن تنتقل من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل، وأن تتحرر من تلك الآفة التي غدت ظاهرة عامة بيننا نحن المسلمين، والتي غدت تعوق خطانا عن السير، وهي كثرة النواح على الماضي، وقلة العمل للحاضر، والنواح لا يحيي ما مات، ولا يرد ما فات \".
أجل كثرت الشكوى وتكررت الأدواء والمآسي، حتى لم يعد هناك أحد إلا يشكو، فمن المشكو منه إذاً؟ كلنا شاكٍ,، وكلنا مشكوٌ منه.. ولقد حدثوا أن واعظاً بليغاً وعظ الناس يوماً حتى بكوا من تأثير الموعظة، ثم بحث عن كتابه فوجده قد سرق، ونظر إلى الحاضرين، عسى أن يلمح بينهم وجهاً تلوح عليه آثار الجريمة، ولكنه وجد الجميع يبكون، فقال لهم: كلكم يبكي، فمن سرق الكتاب؟!
ــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) رواه مسلم في البر عن أبي هريرة (2623)، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (759)، وأبو داود (4983)، وأحمد 2/272، 342، 465، 517 من طريق سهيل بن أبي صالح.
(2) انظر شرح هذا الحديث في: شرح الإمام النووي على صحيح مسلم، وبذل المجهود في حل أبي داود للسهارنفوري، وعون المعبود لأبي الطيب العظيم آبادي.
(3) سورة مريم آية (95).
(4) رواه أبو داود في الملاحم (4341)، والترمذي في التفسير (3060)، وابن ماجه في الفتن (4014)، كلهم عن أبي ثعلبة الخشني، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(5) سورة المؤمنون الآيات (1-11).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد