ساعات الصفاء الإيمانية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يحتاج المرء في هذه الحياة مع كثرة غدوه ورواحه، وتنقله بين أنشطته المختلفة إلى ساعات صفاء يبتعد فيها عن دنيا الناس ليحلق بروحه إلى الملأ الأعلى..يرفع فيها يديه إلى السماء راغباً وراهباً، راجياً وخائفاً..يطلب ما عند الله - عز وجل - من نعيم وإحسان، ويشتكي ما أظلم روحه وأضعف همته من ذنب وعصيان.. يراجع فيها حساباته، ويزن فيها مفاهيمه وأفكاره.. ساعات معدودة.. ينطلق بعدها في ميادين العمل والعطاء الأيام والليالي، وقد صفت نفسه، وتوقدت همته.

وفي رمضان يجد المرء حظاً عظيماً ونصيباً كبيراً من مثل هذه الساعات، فرمضان بمجموعه هو: محطة صفاء وساعات نقاء، يصفي المرء فيها روحه، وينقي قلبه مما علق به من أكدار وأوضار، ولا أدلَّ على ذلك من تبشير حبيبنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لنا بمقدم هذا الشهر العظيم بإشراقاته وأنواره كما جاء عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر يوم من شعبان قال: (يا أيها الناس: قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، من فطر صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء). قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة، أو على شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار). (1).

وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - مرفوعاً: (أتاكم رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله - تعالى -إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله). (2)

أرأيت أخي.. إنه شهر التجليات والنفحات ونزول الرحمات، إنه شهر الصفاء والنقاء، إنه شهر نستطيع أن نسمه بأنه شهر المراجعة والتزود.. مراجعة أوضاعنا وأحوالنا، والتزود لمآلنا.

وفي هذا الشهر أيام وساعات ندب حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - لنا الاعتكاف فيها، وفي لحظات الاعتكاف هذه يجد المرء بغيته من الصفاء الفكري والنقاء الروحي حين يخلو مع خالقه العظيم ومولاه الكريم في بيت من بيوته يناجيه ويذكره.. يسأله الجنة ويعوذ به من النار.. يتفكر في حاله ومآله، ليخرج بعد ذلك من خلوته هذه بفكر غير الفكر الذي دخل به، وروح غير الروح التي كان يحملها.. يخرج وقد صفا فكره، وامتلأ قلبه بمعرفة الله - عز وجل - وحبه وتعظيمه، وحتى تكتمل فرحة الإنسان بهذه اللحظات، ويحسن استغلاله لها، فإن أمامه ميدانان عظيمان وطريقان مشرعان حظ على سلوكهما سلفنا الأطهار ومن تبعهم من الأبرار خاصة في ساعات الخلوة مع الله - عز وجل - ومناجاته، وذلك حتى يصل الإنسان إلى معرفة الله - عز وجل - والتمتع بلذة القرب منه، وهذان الميدانان هما: ميدانا الذكر والفكر، أو التذكر والتفكر.

واستمع معي إلى ما يقوله الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -في هذا المعنى: \" التذكر والتفكر منزلان يثمران أنواع المعارف، وحقائق الإيمان والإحسان، والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكره، وبتذكره على تفكره، حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم. قال الحسن البصري - رحمه الله تعالى -: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت \". (3)

وها هو ذا الشيخ حسن البنا عليه رحمة الله - عز وجل - جاءه شاب يشكو قسوة قلبه، فكان مما قال له: \" الفكر والذكر في أوقات الصفاء والخلوة والمناجاة والتأمل في هذا الكون البديع العجيب، واستجلاء سر الجمال والجلال منه، وإجالة النظر في هذا القلب واللسان بآثار هذه العظمة الساحرة والحكمة البالغة. كل ذلك مما يمد القلب بالحياة، وينير جوانب النفس بالإيمان، واليقين: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} [سورة آل عمران، الآية 190]\" (4).

دعنا - أخي- في هذه العجالة نتأمل في حقيقة هذين المعنيين العظيمين: الفكر والذكر.

فالأول منهما وهو الفكر أو التفكر ليس محصوراً كما يظن البعض في النظر إلى السماء، والتدبر في آيات القرآن العظيم فقط، وإنما هو كما قال الإمام أبو سليمان الداراني - رحمه الله تعالى -: \" إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة \".

إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة

ومن مجالات الفكر والتفكر التي تكلم فيها العلماء والمربون، ما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -بقوله: \" وأعلى الفكر وأجلها وأنفعها ما كان لله والدار الآخرة فما كان لله فهو أنواع:

الأول: الفكرة في آياته المنزلة وتعقلها وفهمها وفهم مراده منها، ولذلك أنزلها الله - تعالى -لا لمجرد تلاوتها.

الثاني: الفكرة في آياته المشهودة والاعتبار بها والاستدلال بها على أسمائه وصفاته وحكمته وإحسانه وبره وجوده.

الثالث: الفكرة في آلائه وإحسانه وإنعامه على خلقه بأصناف النعم وسعة مغفرته ورحمته وحلمه.

وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه ودوام الفكرة في ذلك مع الذكر يصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة تامة.

الرابع: الفكرة في عيوب النفس وآفاتها وفى عيوب العمل، وهذه الفكرة عظيمة النفع وهي باب كل خير.

الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم كله عليه فالعارف ابن وقته فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها \" (5).

أما المعنى الثاني الذي نريد أن نتأمل فيه، ونستجلي حقيقته فهو الذكر أو التذكر، وهو ميدان عظيم للتعرف على الله - عز وجل -، والوصول إليه، وحتى يكتمل حالنا مع الذكر فلنستمع سوياً إلى هذه الوصية للإمام ابن عطاء الله الاسكندري - رحمه الله تعالى -إذ يقول: \" لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيهº فإن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره.. فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور.. ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور.. وما ذلك على الله بعزيز \". (6)، فكأنه - رحمه الله - يقول: إن إصرار المرء على الذكر وإن كان قلبه في غفلة عنه سبب في ترقيته إلى أعلى المراتب، ولكن لابد من الدوام، وهو يدعونا من خلال كلامه - رحمه الله - إلى أن نصل إلى القمة في الذكر بوصولنا إلى حالة الاستغراق، والمقصود بهذه الحالة: الحالة المعروفة في حياتنا اليومية حين تنادي شخصاً تراه من بعيد مثلاً فلا يجيبك ولا يلتفت إليك لأنه مشغول الذهن غارق في التفكير، فلم يسمع ندائك، يقول الشيخ الغزالي - رحمه الله تعالى -معلقاً على هذه الحالة: \" إن من أهل الصلاح من تصفو سرائرهم، وتزكو بواطنهم، وتتوطّد مع الله علائقهم، ويمسٌّ حبه شغاف قلوبهم، وربما تضطرم مشاعر الذكرى في أنفسهم إثر طائف يمرٌّ بها من الملأ الأعلى، كما تتقد الجذوة نفخت فيها الرياح، فتمر بهؤلاء لحظات ليست من حياة الناس، يذهلون فيها عن أنفسهم ويبقون مع ربهم في استغراق يطول أو يقصر!! أي عجب في هذا؟ إن الإيمان يربو أحياناً كما تربو أمواج البحر، ثم يعود رَهواً، ساكن الصفحة، كأن لم يعره شيء \" (7).

وللذكر مجالات شتى وطرق عدة، منها: ذكر أسماء الله - سبحانه وتعالى - وصفاته والتأمل في معانيها، والثناء عليه بها، وذكر إنعامه وإحسانه، ومنها: التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار وأنواع الأذكار، ومنها: قرآة القرآن، والدعاء، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل لقد عدّ بعضهم طلب العلم من ذكر الله - عز وجل - وجعل بعضهم الآخر كل طاعة لله - عز وجل - ذكر له.

وبعد هذا وذاك.. تأمل معي في قوله - عز وجل - في سورة آل عمران: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض... } [سورة آل عمران، الآيات (190-191)]، وفي حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلاوة هذه الآيات في بداية قيامه لليل وخلوته مع الله - عز وجل - لتعي معي أثر اجتماع هذين المعنيين العظيمين: الذكر والفكر في أوقات الخلوة والمناجاة.

أخي.. ما أحوجنا إلى هذه الساعات.. ساعات الخلوة مع الله - عز وجل -.. ساعات الصفاء والنقاء.. لتقترب أرواحنا من مصدرها العلوي بعد أن التصقت بطين الأرض! ما أحوجنا إلى هذه الساعات لنصحح فيها أفكارنا ونزنها بميزان الشرع والعقل ونحن في زمن قد انعكست فيه الموازين وانقلبت المفاهيم! ما أحوجنا إلى هذه الساعات نتأمل فيها في أخلاقنا وما علق بها من شوائب وأكدار لنسويها ونعدل من عوجها في هذا الزمن الذي أُعلنت فيه الحرب السافرة على القيم والأخلاق! ما أحوجنا إلى هذه الساعات نتأمل فيها في علل أمتنا وما أصابها من خلل وجمود لنرقى بالواقع وننهض بالحال! ما أحوجنا إلى هذه الساعات نرفع فيها أكفنا ضارعين إلى السماء نسأل الله - عز وجل - فيها الرحمة بأمتنا، وبالمنكوبين والبائسين من أبنائها، ونسأله النصر على أعدائنا، وأن يعيد علينا رمضان وقد زالت عنا سحائب الذل والتخلف، وحلت بديارنا سحائب العز والنصر والتقدم، وما ذلك على الله بعزيز!!


----------------------------------------

الهوامش:

(1) رواه ابن خزيمة في صحيحه ثم قال صح الخبر، ورواه من طريق البيهقي، ورواه أبو الشيخ ابن حبان في الثواب باختصار عنهما.

(2) أخرجه الطبراني ورواته ثقات.

(3) انظر منزلة (التذكر) بمدارج السالكين للإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -بتهذيب الشيخ عبد المنعم العزي - حفظه الله - تعالى -.

(4) نقلاً من كتاب (الطريق إلى الربانية منهجاً وسلوكاً) للدكتور/ مجدي الهلالي - حفظه الله - تعالى -.

(5) بتصرف من كتاب (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) للإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -.

(6) الحكم العطائية للإمام ابن عطاء الله الاسكندري.

(7) انظر كتاب (الجانب العاطفي من الإسلام) للشيخ الغزالي - رحمه الله تعالى -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply