رؤى في أحاديث القصص


 

بسم الله الرحمن الرحيم

قصة الذين تكلموا في المهد:

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلي جاءته أمه فدعته فقال أجيبها أو أصلي فقالت اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات وكان جريج في صومعته فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقالت من جريج فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال من أبوك يا غلام قال الراعي قالوا نبني صومعتك من ذهب قال لا إلا من طين.

وكانت امرأة ترضع ابنا لها من بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت اللهم اجعل ابني مثله فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال اللهم لا تجعلني مثله ثم أقبل على ثديها يمصه قال أبو هريرة كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمص إصبعه ثم مر بأمة فقالت اللهم لا تجعل ابني مثل هذه فترك ثديها فقال اللهم اجعلني مثلها فقالت لم ذاك فقال الراكب جبار من الجبابرة وهذه الأمة يقولون سرقت زنيت ولم تفعل)). متفق عليه

رواه الإمام مسلم في كتاب البر و الصلة باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة و غيرها.

و رواه الإمام البخاري في كتاب الأنبياء و في باب و اذكر في الكتاب مريم.

لم يكن عجباً أبداً، أن يوصف - صلى الله عليه وسلم - بأنه أوتى جوامع الكلم....

و هي ميزة امتاز بها - صلى الله عليه وسلم - عن سائر الأنبياء - عليهم السلام -، و هذه الميزة جعلت من كلامه - صلى الله عليه وسلم - لوحة أنيقة.. و تحفة فريدة...

حتى إن الناظر ليحار كيف ينظر إليها و من أي جهة..

فهي كالأحجار الكريمة المسدسة أو المثمنة، من أي جهة نظرت إليها رأيت نفسك تشرف على معان كالدرر و لرأيت هذا الحجر الكريم يعكس لك صوراً من حلول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وهذا ما كان يحصل مع الفقهاء والعلماء الذين كانوا يستنبطون من الحديث الواحد عشرات الأحكام والفوائد.

و هذا الحديث درة كريمة مباركة، خرجت من فم مبارك، فتلقفها الناس و تداولوها حتى وصلت إلى عصورنا فكان فيها هذه النظرات و هذه الفوائد:

 

1- الفائدة الأولى:

تكلم كثير من العلماء عن فقه الأولويات، وأهمية أن يرتب المسلم الأولويات في حياته فيقدم الفرض والواجبات ويؤخر ما عداها، ويقدم الضروريات والحاجيات عن الكماليات والرفاهيات. لكن النبي - عليه السلام - الذي أوتي جوامع الكلم اختصر هذا الفقه الهام في حياة المسلم بكلمتين في هذا الحديث تدلان على موضوع الموازنة بين ما يقدم الإنسان وما يؤخر وهما - أجيبها أو أصلي - و من المعلوم أن إجابة الأباء فرض و صلاة جريج بهذه الصورة نفل ولقد أفرد الإمام مسلم - رحمه الله - بابا خاصا أسماه باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة و غيرها.

إن تقديم النوافل على الفرائض، و تقديم الكماليات على الضروريات و الحاجيات، أوقع المجتمعات الإسلامية في اضطرابات نفسية و اجتماعية و اقتصادية... فلا يعرف المسلم ماذا يفعل ومن أين يبدأ، فتتبعثر جهوده و تخور قواه، فيقدم المفضول على الفاضل، ويؤخر الأهم عن المهم.

وهذا الفقه المهم في حياة المسلم من أهم ما يجب أن يتعلمه المسلم، فهو يشكل الخطوة الأولى لتطور المجتمع المسلم وارتقائه، حيث يضع الأشياء في مكانها، ويجعل الأمور بمقدارها.

 

2- الفائدة الثانية:

قد تكون هذه الفائدة ظاهرة واضحة... لكن تأثيرها في مجتمعنا لا يزال بعيد المنال.. و هي أن يغضب الإنسان لنفسه فينسى فلذات كبده فينهال عليهم سواءً ضرباً أو دعاءً.

و هذه المرأة و لحظٍ, نفسي هو أن ولدها لم يستجب لها، انهالت عليه بالدعاء و الدعاء الشديد اللهجة.. و يا لحظها التعس كانت ساعة الإجابة التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله تبارك و- تعالى - ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم \" أبو داود عن جابر بن عبد الله فابتلي ولدها بوجوه المومسات التي ذكرت، واستجاب الله دعاءها، ووقع ولدها بما لا ترضاه له، لأنها في لحظة غضب ألقت عليه ذلك الدعاء.

إن من أخطر الأمور في الحياة الأسرية أن نتعامل مع خطأ الأولاد بالدعاء عليهم، لما في ذلك من آثاره النفسية الخطيرة عليهم بالإضافة إلى الخوف من كون الساعة ساعة إجابة فبدلا من تصحيح الخطأ ومعالجته، يصبح لدينا خطأ آخر ارتكبه الأب أو الأم، وكم هو أثر ذلك من الناحية النفسية على الأم التي ترى ولدها أصيب بما دعت عليه وكم هو أثر ذلك أيضا عل الولد الذي يرى أنه أصيب بما توجه لسان أمه عليه من الدعاء.

 

3- الفائدة الثالثة:

جريج هذا... عابد زاهد.. اعتزل الناس و تفرغ للعبادة..

لكن ما الذي حصل لهؤلاء الناس حتى أغاروا عليه و ضربوه و هدموا صومعته.

ألم يكن معروفاً بينهم بالصلاة و الزهد.!!

فلماذا نسوا كل هذا المعروف، و أقبلوا عليه يضربونه ألم تشفع له صلاته،

و رهبانيته، وزهده، واعتزاله للناس.. ؟.

إن الجواب عن هذا السؤال يجعلنا نوقن تماماً أنه في مجتمع الفسق تقبل شهادة الفاسق و يضرب بعرض الحائط بالمتقين و الصالحين ولا يعتبر بصدقهم ولا بآرائهم.

إن أخطر ما يصيب المجتمعات اليوم أن يوضع الصالحون و المتقون على هامش الحياة و لا يقبل كلامهم و لا شهادتهم، بينما يكون الفاسقون في الدرجات العلى و كلامهم مقدم على كلام غيرهم و هذا ما حصل في مجتمع جريج حيث استشهدت الزانية / طلبت الشهادة منها / و قبلت شهادتها بينما لم يصدق كلام الصالح الراهب المعروف بينهم بالصلاح والعبادة والزهد..

و لذلك احتاجوا إلى معجز ة حتى يصدقوه، وكم هذا خطير في المجتمع، إذا كان الصادق لا يصدق إلا بمعجزة..

إنه الخطر الذي يداهم اليوم حصون المسلمين من الداخل، حيث يترك الفاسد يلهو ويلعب وتقبل شهادته بينما يكون الشريف في حالة خمول واتهام ولا يشفع له صدقه وإيمانه وتقواه.

 

4- الفائدة الرابعة:

في قصة المرأة و هي الشق الثاني من الحديث، ظاهرة خطيرة وقع فيها المجتمع المسلم اليوم. و هي ظاهرة تقصم ظهر المجتمع و تبدد روابطه..

إنها ظاهرة / الالتفات إلى المظهر والاهتمام به وتقديمه على الجوهر /.

فقد رأت المرأة ذلك الرجل ذو الشارة، الراكب، فلم تفكر لأدنى درجة تفكير ما خلفية هذه الشارة و ما خلفية هذا الرجل، ومن يكون وكيف جمع أمواله..

إنما اتجه فكرها و جل اهتمامها إلى مظهره البراق و مركبه الفاخر فتمنت لولدها أن يكون مظهره مثل هذا الرجل ذو الشارة الحسنة دون أدنى رابط بين المظهر والجوهر.

أي خطر أعظم من هذا الخطر أن يصبح تقييم الناس على أشكالهم وأموالهم وما يملكون فيقدمون على غيرهم، ويشغلون قلوب الناس وعقولهم وتفكيرهم، بينما يترك الفقراء والمساكين مهملين في المجتمع وإن كانت فيهم سمات الصلاح وعلامات التقوى.

والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply