الحمد لله الذي خلق الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والصلاة والسلام على رسول الله، أعاذه الله من نزغات الشياطين، فسلم من كيدهم وما يمكرون، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وإليه تُرجعون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم يبعثون، أما بعد:
فالغضب نفخة من نفخات الشيطان الرجيم ـ نعوذ بالله منه ـ ليسيطر به على صاحبه، فيفقده اتزانه، فيقول ويعمل ما يوبق دنياه وأخراه، وكم من عاقل فقد عقله حال غضبه فأرداه الشيطان في داهية، وألقاه في هاوية!
وكم من رجل غضب في لحظة شيطانية، فتكلم بما يوجب له النار، وكان الغضب سبب تلك الخطايا والأوزار!
وكم من رجل حليم، غضب فظلم، وسخط فحرم، وتكلم فندم!
وكم من زوج محبٍ, لزوجته، ملكت عليه لُبَّه، وتمكنت من قلبه، فوقعت فيما يسخطه، فغضب منها غضبة أوقعته فيما كان يحذر، فمدَّ يده عليها بغير حق، وتكلم عليها بباطل، وربما طلَّقها بغير جرم، فندم يوم لا ينفعه الندم، فخرجت من بيته وهو لها محب، وفرَّق بينهما الغضب!
وكم من والد غضب من ولده، فضربه ضرباً مبرحاً، حتى أعطبه وأرداه، وأوقع به من العطب في بدنه، ما جعل الوالد الحزين يندم على ذلك مدى عمره، ولو تأمل بعقله لوجد أن السبب لا يستحق هذا الغضب!
وكم من رجل عاقل تعرض له بالأذى أو الخطأ رجل آخر، فنفخ الشيطان في قفاه، فتقاتلا كالأعداء، فقتله أو جرحه، فكانت السجون من بعد بيته موطن سكنه وحزنه، أو كان السيف الأبتر الذي دُقَّت به عنقه ثمرة من ثمرات الغضب!
وكم، وكم، وكم...
مواقف حزينة، وكلمات مشينة، وكربات جسيمة، ونكبات عظيمة، كان الغضب سبباً فيها، وقائداً إليها، وربما تعرض المرء للحظة غضب أردته في الدنيا قبل الآخرة، وعرضته لمساخط الله وحلول عقابه عليه، ولعاقل أن يسأل:
فما الحل؟ وما وسائل كبح جماح الغضب؟ وكيف نتخلص منه؟ ونبتعد عنه؟ وأيٌّنا لا يغضب!
ولطرح حلول عملية في هذه القضية جاءت هذه الرسالة، بلفظ سهل، وعبارة ميسورة، وكلمات سهلة، فعسى الله أن ينفعني بها وإخواني المسلمين، وبالله نصول ونجول ونستعين:
* فمنهاº أن تعلم أن الغضب إنما هو نفخة من نفخات الشيطان على الإنسان، فلتحذر من عدوك، فإنه يريدك أن تغضب ليتكلم على لسانك، ويبطش بيدك، ويسحق بقدمك.
فعن سليمان بن صرد ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت جالساً مع النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ورجلان يستبان، فأحدهما احمرَّ وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \" إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان. ذهب عنه ما يجد \". فقالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \" تعوذ بالله من الشيطان \" فقال: وهل بي جنون؟ \" [1].
هل رأيت ماذا قال؟!
جربها أنت مع من تراه يخاصم ويهاجم، وقل له: استعذ بالله من الشيطان، فهل تراه يقولها من أول وهلة؟ جرِّب لتعرف الجواب.
* ومنهاº أن تدرك الأجور العظيمة التي أعدها الله - تعالى - لمن كتم غيظه وكف غضبه، ولو شاء لأنفذه، ولكنه تركه لله - تعالى -.
فعن معاذ بن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله عليه وسلم: \" من كظمَ غيظاً وهو يستطيعُ أن ينفِذَه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يُخيره في أي الحور شاء \" [2]
وعن ابن عمر ـ - رضي الله عنهما - ـ قال: قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -: \" ما من جُرعةٍ, أعظم أجراً عند الله من جُرعة غيظٍ, كظمها عبدٌ ابتغاء وجه الله \" [3]
وعن ابن عمر ـ - رضي الله عنهما - ـ قال: قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -: \"... ومن كفَّ غضبه، ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة... \" [4]
* ومنهاº أن تفارق المكان الذي غضبت فيه إلى حين، فيخسأ الشيطان، ويعود إليك الاتزان، فإذا غضبت من زوجتك فلا تقعد معها في البيت بل اخرج من المنزل لبضع ساعات، لتعود إليه وقد ذهب غضبك، وأمعنت الفكر في المشكلة التي وقع عليها الخلاف ومن أجلها الشجار، وكذلك الحال عندما يحدث بينك وبين غيرك شجار أو عراك أو خصومة، اخرجº لتنجُو.
فعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيتَ فاطمةَ - رضي الله عنها - فلم يجد عليّاً ـ رضي الله عنه ـ في البيت، فقال: \" أين ابنُ عمِّكِ؟ \" فقالت: كان بيني وبينَهُ شيءٌ، فغاضبني، فخرج فلم يَقِل عندي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإنسانٍ,: \" انظُر أين هُو؟ \" فجاء، فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقدٌ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُضطجعٌ، قد سقطَ رداؤُهُ عن شِقِّه. فأصابَهُ تُرابٌ، فجعلَ رسولُ الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يمسَحُهُ عنهُ، ويقولُ: \" قُم أبا التٌّرابِ! قُم أبا التٌّرابِ! \" [5]
* ومنها، أن تستعيذ بالله من شرِّه وتلبيسه وتوهيمه وغمزه ولمزه، فإنه القادر - سبحانه - أن يحميك من شرِّ وضُرِّه.
قال - تعالى -: [وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم] [6]
وقوله - تعالى -: [وقل ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوز بك ربِّ أن يحضرون] [7]
* ومنهاº أن تجلس إذا كنت قائما، وتضطجع إذا كنت جالساً، وهو خلاف ما يريده منه عدوك.
وتأمل حالك عندما تغضب! تنتفخ أوداجك، ويحمرّ وجهك، ويتشنَّج بدنك، وتضطرب أطرافك، وتزداد خفقات قلبك، فتقوم من جلستك، وتقعد من رقدتك، وتستعد للعراك والنزال، فعليك بعكس مراده، ومخالفة مقصوده، وهي وصية نبوية من خير البرية - صلى الله عليه وسلم -، وهي عسيرة إلا على من يسَّرها الله عليه.
فعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: \" إذا غَضِبَ أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع \" [8]
* ومنهاº أن تطفئ الغضب بالوضوء، فالشيطان مخلوق من نار، ولا يطفئها إلا الماء، فعليك به تنجو من شروره ـ بإذن الله.
فإنه يُروى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: \" إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تُطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ \" [9]
* ومنهاº أن تصمت حال غضبك فلا تتكلم حتى لا تندم، فغالب الكلام في وقت الغضب لا يسر، ولذلك أرجو أن تقوم بهذه التجربة أو تطلبها من غيرك، فإذا غضبت يوماً من الأيام أدر جهاز تسجيل الأصوات ليسجل كلامك، لتسمع بعد ذلك ما يسوؤك ولا يسرك!
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" علِّموا ويسِّروا (ثلاث مرات)، وإذا غضبت فاسكت (مرتين) \" [10]
فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" من كفَّ غضبه كفَّ الله عنهُ عذابهُ، ومن خزن لسانهُ ستر الله عورته، ومن اعتذر إليه عذره \"[11]
وعن أبي وائلٍ, عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنَّه ارتقى الصَّفا، فأخذَ بلسَانِه، فقال: يا لسانُ! قُل خيراً تغنَم، واسكُت عن شرٍ, تسلَم، مِن قَبلِ أن تندَمَ. ثمَّ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \" أكثرُ خطايا ابن آدم في لسانِه \" [12]
* ومنهاº أن تحذر من دواعيه الجالبة له والمتسببة فيه، فإذا علمت من نفسك أنك غالباً ما تغضب في بعض الأماكن فلا تذهب إليها، وإذا كان في العادة لقاؤك ببعض من تعرف سيثير غضبك، فلا تلقاه إلا في وقت الضرورة أو فيما وجب عليك من الصلة.
* ومنهاº أن تسيطر على نفسك، وتتحكم في قولك وفعلك، وهل الشديد إلا من حكم نفسه قبل أن يحكم غيره؟!
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" ليس الشديدُ بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب \" [13]
فنفسك ميدانك الأول، ومن سنة القتال: [قاتلوا الذين يلونكم]
* ومنهاº قراءة القرآن بصوت مسموع، فإن الشيطان يفرٌّ من القرآن، ويهرب من الذكر، ويولي عند رفع شعائر الله كالأذان.
قال - تعالى - : [قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس] [14]
والخناس هو الشيطان يخنس أي يختبئ ويهرب عند ذكر الله، فإذا غفل العبد عن الذكر حضر العدو فوسوس، والشيطان لا يقرب بيتاً يُقرأ فيه بالبقرة وآل عمران.
* ومنهاº احرص على استقرار حالتك الطبية والنفسية، فإن لبعض الأمراض العضوية تأثير بالغ في الحالة النفسية للمصاب بها، كمرض السكر والضغط، فإن لها أعظم الأثر في كثرة الغضب والتهيج النفسي، فحاول أن لا يرتفع منسوب السكر وكذلك الضغط في الدم، لتسلم!
* ومنهاº انظر بعين فاحصة لأسباب الغضب، فلعل بعضها لا يستحق هذا منك، فهل يحق لك أن تغضب من أجل أمرٍ, تافه؟! أعتقد أنك أكبر من هذا!
وربما تجد أنك غضبت غضباً يُغضب الله عليك!!
فتدبر! حتى لا تخسر.
** سؤال أخير: هل تغضب لله - تعالى -؟ وهل غضبك لله كغضبك لنفسك؟ فإذا رأيت حدود الله تنتهك، وحمى الله يستباح، وفرائض الله تضيَّع، تمعَّر وجهك غيرة وغضباً، وفارت دماء الحمية الإيمانية في أوردتك، أم أن الأمر لا يعنيك، ولا يمتٌّ بصلة إليك؟!
----------
[1] صحيح البخاري (6/337) (3282).
[2] صحيح سنن الترمذي (2/197) (1645) وصحيح سنن أبي داود (3/908) (3997).
[3] صحيح سنن ابن ماجه (2/407) ( 3377).
[4] رواه الطبراني في الكبير، انظر: السلسلة الصحيحة (2/608) (906).
[5] صحيح مسلم (2/1495) (2409).
[6] فصلت: 36
[7] المؤمنون: 97
[8] صحيح سنن أبي داود (3/907) (4000).
[9] ضعيف سنن أبي داود ص (475) رقم (1025) وضعيف الجامع، رقم (1510).
[10] صحيح الأدب المفرد ـ ص (501) رقم (991 /1320) والسلسلة الصحيحة () (1375).
[11] أخرجه أبو يعلى والدولابي، انظر: السلسلة الصحيحة (5/475) (2360).
[12] رواه الطبراني وأبو الشيخ في الثواب والبيهقي، انظر: صحيح الترغيب والترهيب (3/93) (2872).
[13] صحيح البخاري (7/130) (6114).
[14] الناس.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد