المناعة الفِكرِيّة ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 ذكرت في المقال السابق أن أول خطوة علينا أن نخطوها على صعيد فهم الواقع والإلمام به، تتمثل في تحديد التعريفات والمصطلحات بوصف ذلك الركيزة الأساسيّة لكل ما سيأتي بعده من جهد على هذا الصّعيد. ولعلي أتابع في هذا المقال باقي الخُطُوات في هذا الشأن.

أعتقد أن علينا بعد التعريف الجيد للمسألة التي نريد فهمها أن نقوم بتفتيتها إلى أصغر وحدات ممكنة. والحقيقة أن هذا الأسلوب هو ما اتبّعه العالم على مدار التاريخ في التعامل مع الكثير من المعطيات. المعرفة البشريّة مثلاً- كانت واحدة، ونظراً لضخامتها وصعوبة تعامل العقل البشريّ معهاº فإنّه تمَّ تقسيمها إلى علوم متباينة من أجل أفضل استيعاب لها. إذا أردنا فهم أو (تقييم) الوضع التربوي في بلد من البلدان مثلاً- فإن علينا أن نقوم بالآتي:

1- فصل وضع التربية في الأسر عن وضع التربية في المدارس، وعن وضع التربية في الأُطُر الخاصة مثل الجماعات الإسلاميّة. وعليك أن تقوم باستقصاء منهجي داخل كل قطاع من هذه القطاعات لفهم الأداء التربوي فيها على أفضل وجه ممكن.

2- في المدارس لا بد في سبيل العلاج وفي سبيل (التقييم) قبل ذلك من القيام بعملية تفتيت للقوى والأدوات المستخدمة في التربية والتعليمº فيتمّ النظر في كلٍّ, منها على حدة. إن حُسنَ التربية في مدرسة من المدارس لا يأتي من الكتب المقررةº لأنها موحدَّة على مستوى البلاد في غالب الأمر. ولذا فإن الجودة فيها قد تأتي بسبب تفوق إدارتها، أو الهيئة التدريسيّة، أو الأنشطة اللاصفيّة، أو بسبب حُسن اختيار الطلاب ووضع شروط لقبولهم لا تضعها مدارس أخرى. وقد يكون بسبب البيئة السكانية للمدرسة. وقد يكون تفوق تلك المدرسة بسبب جودة مبانيها وتجهيزاتها المعمليّة والمخبريّة... وقد يكون بسبب حسن كل ذلك. ويمكن القيام على صعيد التفتيت بنحو ذلك في المجال الأسريّ وفي المجالات التربويّة الأخرى.

من غير هذا التفتيت لن نستطيع معرفة أسباب حسن أو سوء التربية في أي مدرسة من المدارس. وعلينا أن نلاحظ أننا هنا لا نمارس إصدار الأحكام على كل مدارس الدولة ولا المنطقة ولا المدينة. فإذا أردنا شيئًا من ذلك فإن علينا -بعد فهم واقع المدارس في منطقة- أن نقوم بعملية حسابيّة من أجل التوصل إلى المعدل الوسطي لحال التربية المدرسيّة في تلك المنطقةº حيث يمكن من خلال الدرجات التي تمنحها كل مدرسة أن نقول: إن 80% من مدارس تلك المنطقة ممتازة أو جيدة أو سيئة. ومن غير القيام بهذا فإن أحكامنا ستكون تقديرية وجزافية إلى حد بعيد. ومن هنا ندرك كم تكون درجة تعميمنا عالية وكبيرة حين نقول: إنّ التعليم في العالم الإسلاميّ هو أسوأ تعليم في العالم أو هو أحسن تعليم في العالم أو... وبسبب هذا التعميم نُتِيح دائماً مجالاً للفهم المتعدّد وللتأويل الخاطئ والحكم البعيد عن الصّواب. إنّ تجزئة أية مشكلة إلى أصغر وحدات ممكنة يُعَدٌّ خطوة أساسيّة ضمن خطوات البحث المنهجي الموثوق. البحث المنهجي مكلف جداً وشاقّ جداً. وفي العالم اليوم عشرات الألوف من مراكز البحث التربوي، وكلها يهدف إلى فهم الواقع التربوي على حقيقته، ثم العثور على وسائل لإصلاحه. ونستطيع أن نقول بناءً على هذا: إنّ الدول التي لا تملك وكذلك الجماعات والمؤسسات- مراكز بحوث تربويّة جيّدة، لا تستطيع التعرف على واقعها التربويّ على النحو المطلوب.

3- بما أنّه ليس هناك تفوق تربويّ مطلق ولا تخلف تربويّ مطلق، بمعنى أنه ليس هناك مؤسسة تربويّة كاملة ولا مؤسسة تربويّة كلّها عيوب وسيئات- فإن علينا في سبيل رؤية عقلانيّة لواقع المدارس أن نستخدم (المقارنة) أداة لمعرفة ما عندنا. وقد يكون أفضل ما نُجري فيه المقارنة هو مستوى الخريجين. وفي اعتقادي أن على كل دولة إسلاميّة أن تبلور معايير دقيقة وممتازة لمعرفة مستويات الخريجين لديها. وعلى مستوى الأمة وعلى مستوى العالم يجب أن تكون هناك مقارنات تتعرف من خلالها كل دولة على سويّة مُخرَجات التعليم لديها. وأذكر في هذا السياق أنّه أقيم امتحان عالميّ منذ بضع سنوات لطلاب الصف الثاني في المرحلة المتوسطة في مادّتي الرياضيات والعلوم. وقد شارك في ذلك الامتحان طلبة مختارون بعناية من أربعين دولة. ولم يشارك في ذلك المؤتمر من العالم الإسلاميّ سوى إيران والكويت. وكان ترتيب طلابهما قريباً من المؤخرة أي بعد السادسة والثلاثين فيما أذكر- وهذا يعطي مؤشراً غير حاسم لوضع تعليم الرياضيات والعلوم لدى نموذجين في بلدين مسلمين!

ولا أريد هنا أن أشعَّب البحث أكثر فأكثر فيما تتم فيه المقارنةº فذاك حديث طويل وشائكº لكن وجود مراكز أبحاث تربوية جيدة لتذلل الكثير من الصعوبات.

يمكن لهذه المنهجيّة في التفتيت أن تُؤتي ثمارها في أي مجال أو جزء من الواقع الذي نود التعرف عليه. وعلينا ألا ننسى في كل مرحلة أننا لن نخرج من وراء كل ذلك إلا بنتائج ظنية تقديريةº لأنّ كل أدوات البحث وكل مفردات منهجيّته لا تتمتع بالصّلابة الكافية، لكن مع هذا نرضى بما نحصل عليه من ذلك بوصفه مساعداً لنا على اتخاذ القرار الراشد.

من الأدوات الأساسية في اكتشاف الواقع (الإحصاء) والاعتماد على الأرقام. والحقيقة أن دلالة الأرقام تتمتع ببلاغة عالية جدًا. وهذا يعود أساسًا- إلى أنّ البنية العقليّة للإنسان تتعامل بكفاءة جيدة مع كل ما هو من قبيل (الكم) كما أنها ترتبك ارتباكاً شديداً مع كل ما هو من قبيل (الكيف). وقد قال أحدهم: \"أَعطني رقمًا أُعطِك كتابًا\" فالرقم حين يقع في يد خبير يشكل بالنسبة إليه محورًا هامًّا لاستدعاء الكثير من المعطيات والدلالات والتحليلات. حين نقول لاقتصاديّ مثلاً- ماذا تفهم من قولنا: إنّ دخل الفرد في أفغانستان لا يتجاوز خمسمائة دولار في السنة؟ وذلك الاقتصادي يعرف أنّ دخل الفرد في سويسرا يتجاوز (37) ألف دولار، وفي فرنسا (22) ألف دولار، وفي إسرائيل (18) ألف دولار. إنّه يستطيع أن يستشفّ وجود إدارة سيئة للموارد، ووجود جهل وأميّة وكسل وفوضى لدى الناس هناك. كما يستطيع أن يستشفّ وجود سرقات، ومتاجرة بالممنوعات، وأمورًا سيئة أخرىº لأن كل هذا وذاك يكون عادة من ضمن أسباب الفقر أو لوازمه أو نتائجه.

في حديث في صحيح مسلم ورد قوله - صلى الله عليه وسلم -: \" أحصوا لي من يلفظ الإسلام\" أي اعرفوا عدد من يلفظ بكلمة الإسلام وهي الشهادة. وكان جواب بعض الصحابة: \"أتخاف علينا ونحن ما بين الستمئة إلى السبعمئة\". إنّ هذا الطلب منه - صلى الله عليه وسلم - ينطوي على إشارة هامّة علينا أن نلتقطها بذكاء ووعي.

أمريكا أول دولة في العالم على مستوى توفر الأرقام والإحصاءات. وهذه الوضعية أدت إلى حضورها المتميز في كل الدراسات العالمية، حيث إن الباحثين يحتاجون إلى أرقام تساعدهم في عملهم، وهم كثيراً ما يجدون بُغيتهم لدى الأمريكيين. في العالم المتخلف ليس هناك أرقام كافية، حيث يكون الغموضُ والإبهام وسيلةً جيدة لستر الفضائح! والأرقام المتوفرة كثيراً ما تفتقر إلى الدقة والمصداقية. وفي تصوري أن على كل مؤسسة إسلامية مهما كان حجمها ومهما كان شأنها أن تحاول القيام بمسح دقيق لأوضاعها وأنشطتها وحاجاتها وميادين عملها حتى تستطيع أن توفر شرطاً هامّا لتفوقها واطّراد تقدمها.

ولا بدّ لي من الإشارة هنا إلى أن الأرقام ربما بسبب أهمتها وحساسيتها- كثيراً ما تتعرض للتزوير والتزييف والمتاجرة. وعلينا أن نكون على وعي من ذلك.

لدينا ملايين الشباب المسلم العاطل عن العمل، وملايين بل مئات الملايين من الناس الذين لا يجدون عملاً نافعاً يملؤون به أوقات فراغهم. لماذا لا يقوم هؤلاء بتشكيل دوائر تطوّعيّة بسيطة لإجراء مسوحات واستطلاعات للواقع المسلم في بيئتهم الخاصّة من أجل توفير الأرقام الضروريّة لفهم أوضاعنا وإصلاحها؟!

إني لآمل أن ندرك -قبل فوات الأوان - أنّ هناك ضرورات منهجيّة وبحثيّة تجب مراعاتها بكل شفافية إذا ما أردنا - فعلاً - أن نعيش عصرنا بكرامة وكفاءة. وإنّ عمل شيء ما في الاتجاه الصحيح أنفع لنا وللأمة من التّفرغ للتّشكي وتوزيع الاتهامات ولَطم الخدود وإطلاق الأُمنيات. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه ا لله-: إنّ بعض المسلمين يشكو وينوح كما تنوح الثّكلى إذا رأَوا تغيّر أحوال المسلمين وما هم فيه من كَرب. وذلك مَنهِيُّ عنه. وإنّ الواجب على المسلم أن يصبر ويحتسب ويعمل ويتّكل على الله - تعالى -.

وللحديث صلة

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply