إدارة التعانف (1 ـ 2)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الله - سبحانه - قد فطر الإنسان على الاستئناس بأخيه الإنسان كما فطر الخلق ورتّب شؤونهم على الاحتياج العام بعضهم لبعض، لكن من الثابت أيضاً أن اجتماع الناس يولّد العديد من التوترات والصداماتº وذلك بسبب اختلاف أمزجتهم وأفهامهم وأهوائهم ومصالحهم... ومن وجه آخر فإن من الثابت أيضاً أن التقدم الحضاري الذي يشهده العالم اليوم لم يهذِّب الطباع على النحو المأمول، ولم يقرِّب المسافات العقلية والروحية والنفسية الفاصلة بين الناسº حتى إن أحد الباحثين يرى أن التقدم الحضاري هو تقدم في الطلاء والشكل أما في الأعماق فإن هناك وحشاً كاسراً يتربص وينتظر للفتك والافتراس، والحقـيقة أن لـديـنا شـواهد لا تحصى وفي كل مكان من العالم على صحة ذلك.

 

ويبدو لي أن الناس على مستوى العامة كانوا يدركون هذه الحقيقة أفضل من إدراك بعض الخاصة لهاº حيث إننا نجد أن الهمّ الذي يسيطر على (الثقافة الشعبية) ليس الإنجاز ولا الرؤية أو الموضوعية أو وضع الأمور في نصابها... وإنما تحقيق أعلى درجة من التضامن الأهلي والتلاحم الأخويº وذلك بغية سد الطرق والأبواب في وجه الصدام والتعانف والعدوان.

 

انطلاقاً من كل ما سبق فإنّ مصطلح (إدارة العنف) يعني الاعتراف بوجوده كامناً وظاهراً، كما يعني نوعاً من الاعتراف بالعجز عن محوه والقضاء عليهº حيث لا سبيل سوى إدارته والتعامل معه، والسعي إلى التخفيف منه قدر الإمكان وإلى إبقائه تحت السيطرة. وإذا أردنا أن نستقصي التشريعات والآداب والإجراءات التي أقرها الإسلام وحفَّز عليها من أجل إدارة العنف ـ فإننا سنجد أمامنا الكثير الكثير مما يمكن أن نتحدث عنهº فلا بأس إذاً أن أشير على نحو خاطف إلى ما هو مهم منه، وذلك عبر النقاط الآتية:

 

امتنَّ الله - تعالى -على قريش بما حباها به من الأمن بسبب مجاورتها لبيته العتيقº فقال - سبحانه -: {لإيلافِ قُرَيشٍ, * إيلافِهِم رِحلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيفِ * فَليَعبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيتِ * الَّذِي أَطعَمَهُم مِّن جُوعٍ, وَآمَنَهُم مِّن خَوفٍ, *} [قريش: 1 - 4].

 

والأمـن يوم القـيامة وفـي الجـنة أحــد مـوعـودات الـله - تعالى -لعباده المؤمنين: {مَن جَاءَ بِالـحَسَنَةِ فَلَهُ خَيرٌ مِّنهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ, يَومَئِذٍ, آمِنُونَ} [النمل: 89].

 

إن شرح قيمة الأمن والاستقرار والشعور بالهدوء والسكينة يفتح وعي الناس عليها ويحفِّزهم على المحافظة عليها، ويحمِّلهم مسؤولية رعايتها من خلال الاستقامة على أمر الله - تعالى -والتأدب بآداب الشريعة الغراء.

 

مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - الرفقَº والذي يعني: اللطف وسهولة الخلق ويسر التعاملº فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه»(1). واللطيف اسم من أسماء الله - تعالى -والرفق من محابِّهº قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله رفيق يحب الرفق ويرضاه، ويعين عليه ما لا يعين على العنف»(2). إن كل الأشياء يمكن أن تؤدَّى بطريقـة خشـنة وعـسرة وجافة، ويمكن أن تؤدَّى بطريقة لينة وسهلـة وجميلة، وإن عـلى المسلـم أن يجـنح إلى الثانيـةº لأنها هي التـي ترضي الله - سبحانه -، وهـي التي تدل على سُموِّ الخلق ورُقي النفس. ودعا ـ - عليه الصلاة والسلام - ـ لأصحاب الأخلاق والمعاملات والمواقف السهلة والسمحة بـقوله: «رحـم اللـه عبـداًº سمـحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى»(3).

 

ـ إن من المتوقع دائماً أن يقع الناس في الأخطاء والتجاوزات من كل الأشكال والأنواع، وهذا يحفِّزهم على مقابلة الإساءة بالإساءة والعدوان بالعدوان.. º لكن الله ـ - جل وعلا - ـ يريد من عباده أن يكسروا هذه المعادلة الرديئة حتى لا يدخلوا في دوائر العنفº التي قد لا يعرفون كيف يخرجون منها، ومن هنا جاء قوله ـ - تعالى -ـ: {وَلا يَأتَلِ أُولُوا الفَضلِ مِنكُم وَالسَّعَةِ أَن يُؤتُوا أُولِي القُربَى وَالـمَسَاكِينَ وَالـمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَليَعفُوا وَليَصفَحُوا أَلا تُحِبـٌّونَ أَن يَغفِرَ اللَّهُ لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22].

 

وقال ـ - سبحانه - ـ: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِن أَزوَاجِكُم وَأَولادِكُم عَدُوًّا لَّكُم فَاحذَرُوهُم وَإن تَعفُوا وَتَصفَحُوا وَتَغفِرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التغابن: 14].

 

ـ إن الزحام يثير حـفائـظ النـاس، ويزعجهـم، ويُظـهر ما لديهم من سوء كامنº وهذا بسبب أن كل واحد مِنّا يرسم فضاءً وهمياً لنفسه على مستوى النظر وعلى مستوى اللمسº فإذا اعتدى أحد على ذلك الفضاء فإنه يشعر بالخطـر، ولهـذا فـإنه يـنزعج ويـتأهب للـدفعº الذي يصل إلى القتل عند الحاجة. ويبدو أن رسم الفضاء الخاص والحـيِّز الشخصي ليـس خـاصـاً بالإنسان، بل إن الحيوان ـ أو بعضه ـ يفعل ذلكº فقد دلّت بعض الدراسات على أن بعض أنواع الأسماك تطلق روائح كريهة من أجل طرد الأسماك التي تدخل على ما تعده مجالاً حيوياً لها!

 

ومن هذا الأفق نفقه مغزى قول الله ـ - عز وجل - ـ: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُم تَفَسَّحُوا فِي الـمَجَالِسِ فَافسَحُوا يَفسَحِ اللَّهُ لَكُم وَإذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ, وَاللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

..وللحديث صلة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply