إدارة التعانف ( 2 )


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تحدثت في المقال الماضي عن بعض الآداب والتشريعات والإجراءات التي أقرها الإسلام وحث عليها، من أجل تخفيـف (التعـانف) وإدارتـه والسـيطرة علـيه داخل المجتمع الإسلامي، وسأذكر اليوم المزيد من ذلك بغية اكتمال الصورة:

ـ بما أن الذي يسبق كل تعانف بدني هو الكلام الذي يحمـل طـابـع التـحدي، أو الإسـاءة، أو السـبّ والشتم، أو الاستهزاء..فإن الله -جل وعلا - حرّم ذلك على المؤمنين وشنّع على فاعلهº وذلك بغية سد الذرائع وقطع الأسباب التي تحدث الجفاء وتثير روح الانتقام، ولك أن تتأمل النصوص الكريمة الآتية:

يقول الله -تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسخَر قَومٌ مِّن قَومٍ, عَسَى أَن يَكُونُوا خَيرًا مِّنهُم وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ, عَسَى أَن يَكُنَّ خَيرًا مِّنهُنَّ وَلا تَلمِزُوا أَنفُسَكُم وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلقَابِ بِئسَ الاسمُ الفُسُوقُ بَعدَ الإيمَانِ وَمَن لَّم يَتُب فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [الحـجـرات: 11].وقــال - صلى الله عليه وسلم -: «ليــس المــؤمــن بالطـعّان ولا اللعّان ولا البذيء»(1)، وقال أيضاً: «ما كان الفحش في شـيء قـط إلا شـانه، ومـا كان الحـياء فـي شـيء قـط إلا زانه»(2) وقد تجاوز النهي ما يثير التعانف من الأذى المباشر إلى أمور تتم عادة في غيبة الناس أو تتم بطريقة سرية، أو تكون عبارة عن شيء يتردد في الصدور على نحو ما نجده في التجسس والغيبة والنميمة وسوء الظن..، إن كل ذلك يفسد العلاقات بين الناس ويكدّر قلوبهم، ويدفعهم إلى أن يكونوا في وضعية عنيفة وعدوانية، والنصوص في كل هذا معروفة مشهورة.

ـ يلاحظ أن التعاليم الإسلامية تحذر من أن ينزلق المسلم إلى حالة يمكنه فيها إيقاع الأذى البدني بأخيه المسلم، ونجد مثل هذا التحذير في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُشر أحدكم إلى أخيه بالسلاحº فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار»(3). وفي رواية لمسلم: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه».

وفي حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه -: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُتعاطى السيف مسلولاً»(4). ويدخل في إطار الاحتراز من إيقاع الأذى البدني بالآخرين ما ورد من أحاديث وآثار في التعامل مع الغضب، حيث إن على الغاضب أن يخفف من غضـبه من خلال الوضـوء، أو الاغتسال، ومن خلال السكوت إذا كان يتحدث وهو غاضب، ومن خلال الوقوف إن كان ماشياً، والجلوس إن كان واقفاً.

 

ـ إن كثيراً من التعانف الذي يقع بين الناس يعود إلى التعصب للرأي والمذهب والاتجاه، وإذا استعرضنا التاريخ الإسلامي فإننا سنقف على حقيقة محزنةº هي أن الناس أراقـوا الكثـير مـن الدماء انطـلاقاً مـن تكفـير أو تسـفـيـه أو تفسيق خصومهم ومخالفيهم من أهل القبلة، ولو أنهم وقفوا الموقف الشرعي كما يصوّره الفقيه لكفّوا عن كثير مما فعلوه. وقد قام بعض أئمة الهدى بكسر حدة التعصب من خلال محاولة عرض كل أجزاء الصورة وبيان كل جوانب القضية أو الحقيقة، على نحو ما نجده في سيرة سفيان الثوري -رحمه الله -حيث إن من المعروف تاريخياً أن (البصـرة) كانت تتعـصب على المسـتوى السـياسي لعثمان -رضي الله عنه -أما (الكـوفـة) فإنها كانت تتعصب لعلي -رضي الله عنه -وقد كان سفيان يقول: «إذا ذهبتُ إلى البصرة حدَّثت الناس بمحاسن علي، وإذا ذهبتُ إلى الكوفة حدَّثت الناس بمحاسن عثمان»!

ـ إن الخلاف في أمور ظنية وفرعية واجتهادية هو أمر طبيعي وواقع في كل العصور، والذي يتعصب لرأي اجتهادي جاهلٌ يحتاج إلى تعليم. أما إذا كان بعض المسلمين على الحق الواضح القطعي الذي لا لبس فيه فإن هذا البعض يشكّل الفئة التي ينبغي أن يؤوب إليها مَن خالفهاº لأن مخالفتها ضلالة، وقد ورد في هذا السياق قول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه -: «الجماعة أن تكون على الحق ولو كنت وحدك» وقد صدق، فإنه إذا كان أهل حي أو قريـة معرضين جمـيعاً عـن إقـامة الصلاة ـ مثلاً ـ إلا واحداً منهم، فإن ذلك الواحد هو الجماعة وأهل القرية أو الحي مفارقون للجماعة، وما ذاك إلا لأن ذلك الرجل على الحق القطعي الصريح.

ـ الظلـم وهضم الحقوق والعدوان على الناس من أكثر ما يثير التعانف بين الناس. إن كثيراً من الناس مستعد لارتكاب جريمة قتل، وخيانة وطن، وخذلان أهل.. إذا شعر أنه وقـع علـيه ظلم فادح وعدوان صارخ على نفسه أو ماله أو عرضه، والقاعدة في هذا أنه لا يبقى مع الظلم شيء مقدَّسº ومن هنا جاءت النصوص الكثيرة التي تأمر بإقامة موازين العدل، وتنهى عن الظلم وتحذِّر من عواقبه. وقد قال أحد المفكرين: صلاح الأمم بصلاح جهتين أو قطاعين: التعليم والقضاء، وفسادها بفسادهما. ونحن نلاحظ أن كثيراً من البلدان الإسلامية عطّلت إقامة الحدود، فأدى ذلك إلى اقتتال الناس وكثرة حوادث القتل بدافع الثأر، وما ذاك إلا لأن القضاء هناك لا يحقق العدالة التي يريدها الناس والتي شرعها الله -تعالى - لهم.

 

--------------------------------------- -

(1) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

(2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

(3) أخرجه الشيخان.

(4) رواه أبو داود والترمذي.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply