الفراغ طريق الانحراف


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الاتجاهات والعوامل الاجتماعية المفسرة للانحراف:

إن أوقات الفراغ إذا لم يُخطط لها بشكل صحيح، بحيث يكون عطاؤها إيجابيًا، يضمن سلامة الفرد والمجتمع، فسوف تنتهي إلى مسالك الانحراف التي يدمر الإنسان فيها ذاته ومجتمعه، لذلك فالعلاقة قد تكون تلازمية بين أوقات الفراغ وما قد تنتهي إليه من الضياع الذي يؤدي إلى الانحراف.

وقد عزت بعض الأدبيات التي تناولت الانحراف بشكل عام وانحراف الأحداث بشكل خاص، أسباب ذلك إلى البيئة الأسرية وما يكون فيها من تفكك أسري، أو سوء تنشئة.. إلى غير ذلك. وهناك من عزاها إلى جماعة الرفاق وأثرها على الحدث، وما ينتج عنها من مخالطة واكتساب لقيم ومعايير تلك الجماعة، ومدى تقمص الحدث لتلك المعايير، ومن ثم ترجمتها إلى سلوك عملي.. في حين أرجعت أدبيات أخرى أسباب الانحراف إلى الظروف الاقتصادية لأسر الأحداث، بينما أكد آخرون أن انحراف الأحداث إنما يعود بدرجة كبيرة إلى (وقت الفراغ) الذي يعيشه الحدث، باعتبار أن ذلك الوقت يهيئ المناخ المناسب للانحراف من خلال ما يمارس فيه من أنشطة قد تكون سلبية، أو انحرافية.

وذكر بعض الباحثين أن مكان قضاء وقت الفراغ ونوعية المشاركين للحدث في قضاء ذلك الوقت، يعدان عاملين من عوامل الانحراف، فقد أشارت بعض الدراسات التي أجريت في بعض الدول العربية عن متعاطي المخدرات، إلى أن أغلبهم كانوا يشغلون وقت فراغهم، إما في الطرقات العامة، أو في الجلوس في المقاهي الشعبية عندما كانوا في مرحلة الشباب من عمرهم(1).

وخلصت دراسات أخرى أجريت حول علاقة وقت الفراغ بالانحراف إلى النتائج التالية:

أ- أن أغلبية الأفعال الانحرافية يرتكبها الفرد أثناء وقت الفراغ.

ب- أن نسبة كبيرة من الانحرافات ترتكب بقصد الاستمتاع بوقت الفــراغ أو الحصــول على وسائل تهيئ الاستمتاع بهذا الوقت(2).

ويؤكد باحثون آخرون أن كثيرًا من المشكلات السلوكية يرتبط بوقت الفراغ، وأن نسبة كبيرة من انحراف الأحداث تحدث خلال ذلك الوقت(3).

ويملك الحدث في السعودية -على سبيل المثال- وقت فراغ كبيرًا في حياته اليومية، ذلك أن المهمات الأساسية في حياته اليوميــة (الــدراســـة، النــــوم، الأكــل، الحــاجيات الـضـروريــة) لا تتطلب منه أكثر من (20) ساعة بأي حال من الأحوال، وهذا يوفر للحدث أربع ساعات فراغ يوميًا(4)يقضيها بطرق مختلفة (اللعب; اللهو; المطالعة; الأنشطة الرياضية.. إلى غير ذلك)، وينطبق هذا التقدير على الحدث المنتظم في الدراسة، أما نظيره غير المنتظم في دراسته، فسيتوفر لديه وقت فراغ أكبر بكثير.

وقد لاحظت من واقع خبرتي العملية في إدارة رعاية الأحداث بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية في المملكة العربية السعودية أن أكثر من خمس الأحداث المودعين بدور الملاحظة الاجتماعية بالمملكة العربية السعودية خلال الأعوام (1409، 1410، 1411هـ) غير منتظمين في الدراسة(5)، وهذا مما يثير ويؤكد أهمية التساؤل حول علاقة وقت فراغهم بانحرافهم.

ومن هنا تأتي أهمية هذا المبحث في محاولة لإلقاء بعض الضوء على العلاقة بين كيفية قضاء وقت الفراغ والانحراف، والاتجاهات والعوامل الاجتماعية المفسرة للانحراف.

 الاتجاهات والعوامل الاجتماعية المفسرة للانحراف*

أولاً: الاتجاهات الاجتماعية المفسرة للسلوك المنحرف:

يتــجه الــدارســون للســلوك المنــحرف لتفســيره انطـــلاقًا مــن تخصصاتهم العلمية، فعالم النفس ينظر ويفسر ذلك السلوك من الزاوية النفسية البحتة، وكذا عالم القانون في تفسيره للسلوك المنحرف، إذ ينظر إليه من الزاوية القانونية، وكذا كل متخصص.

وحيث إن دراستنا هذه اجتماعية بالدرجة الأولى فإن منطلقها لتفسير السلوك المنحرف هو الجوانب والاتجاهات الاجتماعية التي حاولت أن تفسر هذا السلوك.. وكما هو معلوم فإن الاجتماعيين اهتموا بدراسة الجريمة بوصفها ظاهرة من الظواهر الاجتماعية، فالسلوك الإجرامي ما هو إلا إفراز من إفرازات المجتمع، ولقد تتابعت تلك الدراسات التي تربط بين ذلك السلوك الإجرامي وبين مكونات البيئة الاجتماعية المحيطة به، حتى تكوّن ما يسمى بالمدرسة الاجتماعية، على غرار المدرسة النفسية والمدرسة البيولوجية... إلخ.

ولقد كتب للمدرسة الاجتماعية أن تسود، ويصبح لها الأثر الواضح في تفسير السلوك المنحرف أكثر من غيرها من المدارس الأخرى، فهي أكثر انتشارًا بين علماء الإجرام المعاصرين، خاصة في المدرستين الأمريكية والسوفيتية(6)، وهذا الانتشار الواسع لتلك المدرسة جعلها تفرز أكثر من اتجاه يتناول ظاهرة السلوك المنحرف بالتفسير، وأبرز تلك الاتجاهات:

1- الاتجاه الثقافي (الاختلاط التفاضلي).

2- الاتجاه الاقتصادي.

3- الاتجاه البيئي (الأيكولوجي).

4- الاتجاه التفاعلي (الوصم).

(1) الاتجاه الثقافي (الاختلاط التفاضلي):

يعتبر العالم الأمريكي (أدوين سذرلاند) رائد الاتجاه الثقافي بنظريته التي أخرجها في عام 1939م، في كتابه مبادئ علم الإجرام، وتعد تلك النظرية من أكثر النظريات الاجتماعية شهرة في علم الإجرام، ذلك أن النظرية بنيت على تحليل نفسي اجتماعي لطبيعة بيئة الجماعة وأثرها على سلوك أفرادها، إضافة إلى أنها تتضمن صياغة منطقية ترتيبية لسلسلة من العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الأفراد(7).

فهذه النظرية تنظر للفرد على أنه جزء من جماعته التي ينتمي إليها، وبالتالي فهو يتبنى كل مواقفها وتصرفاتها واتجاهاتها، ومن هنا فهو يتعلم كراهية القانون أو عدم احترامه من خلال نظرته لموقف جماعته من هذا القانون، فكراهية جماعته للقانون أو عدم احترامها له تجعل الفرد يخالف القانون كلما سنحت له الفرصة، انطلاقًا من تصوره أن هذا الفعل مألوف لدى جماعته وغير مستهجن.. وعلى العكس من ذلك قد يتربى الفرد على احترام القانون وعدم مخالفته إذا كانت جماعته التي ينتمي إليها تحترم ذلك القانون ولا تخالفه، ومن هنا تتضح حالة التفاضل بين احترام القانون أو عدم احترامه.. وتتوقف تلك الحالة التفاضلية من قبل الفرد على نوعية وماهية التركيب الاجتماعي الخاص بكل جماعة، ومواقفها بالنسبة للقانون، ومدى احترامها له من عدمه(8).

ويقدم (أدوين سذرلاند) نظريته على صورة تفسيرية للعملية التي تؤدي بالفرد إلى السلوك الانحرافي، من خلال تسعة منطلقات أساسية، هي(9):

1- السلوك الانحـرافــي يكتسبه الفرد بالتعليم ولا يورث، فالفرد الذي لم يتــدرب عــلى الجريمــة لا يفــعل الجــريمة ابتداءً مــن نفسه، مثله مثل الفرد الذي لا يتعلم الميــكانيكا فإنــه لا يستطيع أن ينتج أي مخترع ميكانيكي.

2- تتم عملية تعلم السلوك الانحرافي بالاتصال الاجتماعي وبالتفاعل بين الفرد وأشخاص آخرين في المجتمع، وقد يكون هذا الاتصال لفظيًا بالقول، وقد يكون بالإشارات أو الحركات ذات الدلالات المتعارف عليها.

3- تتم عملية تعلم السلوك الانحرافي في وسط الجماعات التي يكون بين بعضها بعضًا علاقات متينة، تهيئ الاتصال الشخصي المباشر بين أفرادها بدرجة كبيرة. وفي هذا إشارة إلى أن وسائل الاتصال العامة لا تؤدي دورًا كبيرًا في تكوين السلوك الانحرافي، باعتبار أنها ليست وسائل اتصال شخصية مباشرة، بل وسائل اتصال عامة.

4 - عملية تعلم السلوك الانحرافي لدى الفرد تشمل جانبين اثنين:

أ- فن ارتكاب الجريمة ويشمل: التخطيط، التحضير، وطرق ارتكابها، ووسائل إخفائها، بغض النظر عن تعقيد تلك العملية أو بساطتها.

ب- الاتجاهات الخاصة للدوافع والميول التي تقود الفرد إلى السلوك المنحرف، وإلى التصرفات الإجرامية، والتبريرات التي تعطى لهذه التصرفات.

5 - تتم عملية تعلم الاتجاه الخاص للدوافع والميول من الأشخاص الذين يحيطون بالفرد، واتجاهاتهم نحو نصوص القانون من حيث مناسبتها أو عدم مناسبتها، ففي بعض المجتمعات قد يحاط الفرد بأشخاص يرون وجوب احترام نصوص القانون، وقد يحاط في مجتمع آخر بأشخاص يرون عدم الغضاضة في انتهاك القانون، والفرد في كلا الموقفين يتعلم ممن يختلط بهم، أما إذا كان هناك انقسام في الرأي بين الجماعة التي تحوط الفرد تجاه القانون، فهنا يبدأ الفرد يعيش الصراع الثقافي حول مدى مناسبة نصوص القانون من عدمه.

6 - يبدأ الفرد بالانحراف حينما تترجح لديه كفة آراء الجماعة التي لا ترى غضاضة في انتهاك القانون على كفة آراء الجماعة التي ترى احترام القانون.

7 - تتباين العلاقات التفاضلية نسبيًا بحسب أربع عمليات:

التكرار، الاستمرارية، الأسبقية، والعمق.

فالتكرار: يعني كمية التعرض للموقف.

والاستمرار: يعني مدة ووقت التعرض للموقف.

والأسبقية: تعني الأقدمية عمريًا في التعرض لذلك الموقف.

والعمق: ويرتبط بعدة أمور، مثل مكانة وأهمية النمط الذي يتعلم منه الفرد سلوكه.

8 - تتضمن عملية تعلم السلوك المنحرف كل الآليات التي يتضمنها أي تعلم آخر، وذلك يعني أنها ليست عملية تقليد مجرد.

9 - يعبر السلوك المنحرف عن حاجات وقيم عامة، ومع ذلك فإنه لا يفسر بهذه الحاجات والقيم، لأن السلوك السوي هو أيضًا يعبر عن الحاجات والقيم نفسها.

ورغم أهمية تلك النظرية وما حظيت به من اهتمام من قبل العلماء بشكل لم تنله أية نظرية أخرى، إلا أنه وجِّه لها بعض الانتقادات من قبل العلماء، حيث طالب بعضهم بإدخال تعديلات أو إضافات إليها.

ومن أبرز هذه الانتقادات:

1- أنها أغفلت الإرادة الحرة للفرد، واعتبرته عاجزًا عن التحكم في أفعاله، وأنه مجرد ترس داخل المجتمع الكبير الذي يعيش فيه، لا حول له ولا قوة.

2- توقفت عند حد القول: بأن الاختلاط بالمجرمين يقود إلى الجريمة، ولم تحفل بدراسة العوامل التي تدفع الشخص إلى ذلك الاختلاط، في الوقت الذي لم ينزلق غيره إلى عين السبيل(10).

3- منطق النظرية مؤداه اعتبار رجال الشرطة والقضاة والباحثين في علم الإجرام أشد الناس إجرامًا، بسبب اختلاطهم المستمر بأولئك المجرمين.

4- تستخدم النظرية عددًا من المتغيرات مثل العمق، والتكرار، والاستمرار، المخالطة، والأسبقية، وهذه يتعذر قياسها علميًا أو اختبارها تجريبيًا(11).

5- تعجز النظــرية عن تفسير بعض أنــواع السـلـوك الإجـرامي، أو بمعنى آخر هي تصلح لتفسير الجرائم العادية أو المعروفة والتي يلـعب فيها التفكيـر والاعتقاد دورًا أســاسيًا، ولكنها لا تصلح لتفسير الجرائم التي يلعب فيها الانفعال والصدفة الآنية دورًا أساسيًا(12).

6- لا تدخل النظرية في اعتبارها الاختلافات بين الأفراد في الصفات الشخصية أو النواحي العضوية والنفسية والعقلية، وأثر ذلك على اختلاف تأثر الفرد بالمؤثرات الخارجية.

7- ارتكازها على عامل واحد في تفسير السلوك المنحرف.

2- الاتجاه الاقتصادي:

يعتبر الجانب الاقتصادي في حياة الأمم المعاصرة عاملاً أساسيًا في تقدم أو تأخر الأمم، ولأهمية ذلك الجانب عده بعض الباحثين من أمثال (كيتليه) و(ميشيل فري) و(بونجر) و(سيرك بيرت) عاملاً من العوامل المهمة الموجهة للسلوك الإنساني، ويؤثر عليه تأثيرًا يلمسه كل دارس للسلوك الإنساني.

لذا لا غرابة أن يظهر من العلماء من يربط بين الانحراف السلوكي وبين التغيرات الاقتصادية المختلفة، مثل الغنى أو الفقر، وفترة الرخاء أو فترة الكساد الاقتصادي، أو البطالة.

وهناك من يرى أن الظروف الاقتصادية للمجتمع هي من أول الظواهر الاجتماعية التي وقف عندها المفكرون قديمًا وحديثًا حين دراستهم لظاهرة الجريمة، ابتداءً من فلاسفة اليونان وحتى العصر الحديث، إذ نالت الظروف الاقتصادية الحظ الأوفر من اهتمام الباحثين ودراساتهم.. ومن أوائل الدراسات الإحصائية لتأثير الظروف الاقتصادية على الجريمة تلك الدراسة التي قام بها (أدولف كيتليه) (Adolf Quetelet) (13).

ويفترض هذا الاتجاه أن هناك ارتباطًا بين السلوك المنحرف والظروف الاقتصادية المختلفة، مثل حالة الفرد الاقتصادية، سواء الغنى أو الفقر وكذلك البطالة، وخروج الأحداث للعمل في سن مبكرة، وخروج الأم للعمل، وطبيعة النظام الاقتصادي في البلاد، إضافة إلى أنه مع تطور الأمم اقتصاديًا وتنوع الجوانب الاقتصادية، يقوم المجتمع بفرض قوانين تحفظ النظام الاقتصادي وتوقـع العقـوبات على مخالفيها، وهذا مما يؤدي إلى ظهور جرائم جديدة(14).

وسنذكر كل جانب من جوانب الظاهرة الاقتصادية والعلاقة بينها وبين السلوك المنحرف:

فأصحاب هذا الاتجاه يرون أن للفقر دورًا في رفع معدلات انحراف السلوك، خاصة في جرائم الأموال، والتسول، والتشرد، والدعارة في بعض صورها.. ويعتمد أصحاب هذا الاتجاه فيما ذهبوا إليه على نتائج العديد من الدراسات التي ظهر فيها أن غالبية مرتكبي السلوك المنحرف هم من ذوي المستويات الاقتصادية المتدنية.. ومن أبرز الدراسات في هذا المجال الدراسة التي قام بها العالم الإيطالي (فورنساري دي فيرس) عام 1894م، وشملت إيطاليا وإنجلترا وإيرلندا وجنوب ويلز، وشملت العديد من أنواع الجرائم، وانتهت إلى القول: بأن الفقر هو البيئة التي تتهيأ فيها كل الدوافع لارتكاب الجريمة(15).

وكذلك دراسة (سيرل برت) في إنجلترا عام 1933م، التي انتهت إلى أن غالبية العينة التي أجريت عليها الدراسة من الأحداث الجانحين كـــانت تعيــش إمــا في أســر شديــدة الفــقر أو فقيرة(16).

ويعزو أصحاب هذا الرأي السلوك المنحرف للفقر، من حيث إنه ينتج عنه عدم توفير المتطلبات الضرورية للفرد والأسرة، وكذلك انعدم العناية الصحية، وانقطاع الأبناء عن مواصلة التعليم، إضافة إلى (حرمان الأولاد من أسباب اللعب والتسلية في المنزل، وخروجهم إلى الشوارع لقضاء الوقت وقتله، والاختلاط بكثير من رفاق السوء، كما أنه قد يرغم الأطفال على ترك مقاعد الدراسة.. ونتيجة لهذا تتفشى الأمية بينهم، فيشبوا جهلاء لا يقدرون على تمييز النافع من الضار، والخير من الشر، والفضيلة من الرذيلة، وبذلك يكونون لقمة سائغة لتيار الانحراف والجنوح)(17).

وعلى الرغم مما سبق ذكره من ربط الفقر بالسلوك المنحرف، إلا أننا لا نستطيع أن نسلم بأن الفقر عامل رئيس لارتكاب السلوك المنحرف، بل هو عامل من العوامل المتعددة التي تؤدي إلى السلوك المنحرف، بدليل وجود الملايين من الفقراء يسلكون الطريق السوي رغم فقرهم، إضافة إلى وجود سلوك منحرف بين أفراد الفئة الغنية، وكما يذكر العالم (بيرت): (إذا كان أغلبية المجرمين من الفقراء، فإن أغلبية الفقراء ليسوا من المجرمين)(18).

يضاف إلى ذلك ظهور بعض الدراسات التي أثبتت عدم وجود علاقة بين الفقر والسلوك المنحرف، مثل دراسة الباحثة الإنجليزية (ماري كاربنتر) عام 1853م، التي انتهت إلى القول: بأن تأثير الفقر على الأحداث أقل بكثير من تأثير التكوين الثقافي والاجتماعي لآبائهم عليهم، ودراسة (شليدون والينور غلوريك) عام 1950م، التي أجريت على (1000) حدث (500 منحـــرف، و500 غير منحـــرف)، وظــــهر فيــها أن عــدد الفقراء من أســـر غير المنحرفين لا يختلف كثيرًا عنه في أسر المنحرفين(19).

ويعتبر (سذرلاند) من أشد الناس الذين انتقدوا ربط الانحراف بالفقر، بل على العكس من ذلك يرى أن الانحراف مرتبط بالثـــراء، إذ الأثريــاء لديــهم قــدرة على ارتـكاب الجريمة بما يملكون من نفوذ في المجتمع بسبب ثرائهم، وذلك مما يعينهم على إخفاء أمرهم عن السلطات.

كما يربط أصحاب هذا الاتجاه بين البطالة من جانب والسلوك المنحرف من جانب آخر، ويقصد بالبطالة هنا توقف الإنســان عن العـمل ســواء أكان ذلك بسبـــب أزمـة اقتصـــادية أو صناعية طارئة، أو أن يكون السبب عائدًا للفرد نفسه كأن يكون الفرد عاجزًا أو غير مؤهل للعمل، ففي هذه الحالة نجد الفرد قد يتجه لارتكاب السلوك المنحرف نتيجة لعدم وجود مورد مالي يفي باحتياجــاته واحتياجات أســرته، زد على ذلك ما تهيؤه البطالة للفرد من زيادة في وقت الفراغ لديه، بما يجعله مهيأ أكثر للانحراف والانزلاق في طريق الجريمة.

كما أنه قد يتجه أبناء مثل هذا الفرد للانحراف، (إذ يقل إجلالهم لأبيهم وقد صار عاجزًا عن إشباع مطالبهم، وقد يعزفون عن الدراسة لعدم القدرة على شراء الكتب والنهوض بكافة متطلباتها، فلا يجدون غير أبواب العصابات يقرعونها بحثًا عن كساء أو غذاء) (20)، كما أن البطالة تولد مشاعر الإحباط المتلاحقة نتيجة للعجز عن إشباع الحاجات الضرورية للفرد أو من يعولــهم، وتتــزايد تلك المشاعـر كلــما طــالت فتــرة البطـــالة التي يعيشها.

ويربط أصحاب هذا الاتجاه كذلك بين خروج الحدث للعمل مبكرًا والسلوك المنحرف، ذلك أن خروج الحدث للعمل مبكرًا يعني حرمانه من الدراسة، وحرمانه بالتالي من الآثار الإيجابية التي يمكن أن تعود عليه من العملية التعليمية. كما أن العمل في بعض المهن كالعمل في المقاهي أودور اللهو، يؤدي إلى انحراف الحدث، بسبب احتكاك الحدث برواد تلك الأماكن التي تعتبر في الغالب أوكارًا لتجمع المنحرفين.. وهناك بعض الدراسات التي توصلت إلى أن نسبة الجناح بين الأحداث الذين يعملون تفوق نسبته بين الأحداث الذين لا يعملون.

كما يربط أصحاب هذا الاتجاه بين خروج الأم للعمل وارتكاب الأبناء للسلوك المنحرف، وما يلي ذلك من إهمال الأم لدورها الأساس في هذه الحياة وهي تنشئة أولادها وتربيتهم; إذ أن خروجها إلى العمل سيقطع جزءًا ليس باليسير من وقتها لأولادها، ويضعف من دورها المذكور مما يؤدي إلى تهيئة الظروف والبيئة المناسبة لقيام الأطفال بأعمال منحرفة، بالإضافة إلى أن خروج الأم للعمل قد يؤدي إلى الصراع والشجار بين الزوجين نتيجة لإهمال دورها الاجتماعي الأساس، وهذا الصراع والشجار يفسد جو الأسرة والعلاقات الزوجية مما يؤثر على الأطفال في تلك الأسرة.

ولهذا يؤكد (ناي) بعد دراسة ميدانية، أن هناك علاقة بين اشتغال الأم والسلوك الجانح.. كذلك أوضحت الدراسات التي أجريت في مصر أن نسبة المشتغلات من أمهات الجانحين أعلى منها بالنسبة للمشتغلات من أمهات غير الجانحين(21).

3- الاتجاه البيئي (الأيكولوجي):

استعار الدارسون لعلم الإجرام مصطلح الأيكولوجيا من علم البيولوجيا، وهو يعني صلة الكائن الحي بالبيئة المحيطة به.. ولقد بدأ استخدم هذا المصطلح كاتجاه في علم الاجتماع على يد العالم (بارك) وأتباعه في جامعة شيكاغو، فلقد تصور (بارك) المدينة، والمجتمع المحلي، والمنطقة، على أنها نوع من الكائنات الاجتماعية وليست مجرد ظواهر جغرافية مجردة.. فاهتم (بارك) بدراسة التغير الاجتماعي وسرعة حدوثه واتساع نطاقه وما ينشأ عنه من مشكلات وصراع ثقافي(22).

وعليه فإن هذا الاتجاه يدرس صلة الإنسان ببيئته الاجتماعية بجميع جوانبها الجغرافية والحضارية، وخاصة عند دراسة السلوك المنحرف وارتباطه بنمو المدن وتوسعها.. ومن هنا، فهذا الاتجاه يفسر السلوك المنحرف تفسيرًا عمرانيًا على أساس ارتباط السلوك الجانح بأوضاع تنشأ مع نمو المدن وتوسعها، نتيجة لهجرة الناس إلى تلك المدن من جميع الجهات، فيتكون فيها خليط من الثقافات، ومستويات مختلفة من الناحية الاقتصادية، وتنمو المدينة على أساس ذلك الاختلاف وذلك التباين بين النازحين، بل إن بعض العلماء أمثال العالم (كليفوردشو)، ينظر إلى الجانح والجريمة على أنها نتيجة لا مفر منها مع توسع المدينة وامتدادها.. ويرى الأيكولوجيون أن المدينة تتوسع لتكون في النهاية خمس حلقات، أو أحزمة هي(23):

1- الحلقة الأولى: الوسط والمركز، حيث المؤسسات التجارية والمرافق الحيوية، ومقر أول مجموعة نزحت لتكون المدينة.

2- الحلقة الثانية: وتسمى المنطقة الانتقالية، وهي منطقة تدهورت بعد انتعاش ويعيش فيها الطلاب، والعمال، والمهاجرون الجدد، والمنحرفون، والمدمنون، وتجار المخدرات واللصوص.

3- الحلقة الثالثة: وتشمل أحياء بيوتها متشابهة، ويقطنها الموظفون وبعض أصحاب المهن.

4- الحلقة الرابعة: وتسمى ضواحي المدينة، وهي أقل ازدحامًا ويقطنها أفراد الطبقة الوسطى في بيوت يملكونها.

5- الحلقة الأخيرة: ما بعـــد الضواحي ويقطـــنها الأثرياء في فلل واسعة.

ويحدد (كليفوردشو) منطقة الجنوح في المنطقة الثانية، والتي توصف بأنها المنطقة الانتقالية، وهي التي تكونت بعد انسحاب الأثرياء منها إلى الضواحي، ونزوح الفقراء إلى الداخل لانخفاض الإيجارات إضافة إلى تميز تلك المنطقة بكثرة الزحام، وقدم المباني، وعدم استقرار السكان.. كما قام (كليفوردشو) بتسجيل ثلاث ملاحظات عن منطقة الجنوح (الحلقة الثانية) وهي(24):

1- تظل معدلات الجنوح عالية رغم التغير السكاني السريع، وهذا يعني أن الجنوح جزء من التراث الأيكولوجي.

2- انخفاض معدلات الجنوح كلما ابتعدنا عن وسط المدينة.

3- تختص كل منطقة بنوع أو أنواع معينة من الجنح.

وأشار (كليفوردشو) - بعد دراسته الشهيرة مع بعض زملائه حول ظاهرة الجناح في مدينة شيكاغو- إلى أن (الظروف القائمة داخل هذه المنطقة -مناطق الجنوح- تجعل سيطرة المجتمع على أبنائه ضعيفة أو تُضعف من أساليب الضبط الاجتماعي إلى درجة عدم

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply