يا شباب:
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ورفع الله به رؤوسنا وكانت مخفوضة، وشرح به صدورنا وكانت ضيقة، وأسمع به آذاننا وكانت صماً، وبصَّر به عيوننا وكانت عمياً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إن أمة بلا إيمان قطيع من البهائم، ومدرسة بلا إيمان ثكنة متهدّمة خاوية، وقلباً بلا إيمان كتلة من لحم ميتة، وأستاذاً بلا إيمان جثمان هامد لا حراك فيه، وكتاباً بلا إيمان أوراق مصففة، وخطبة بلا إيمان كلام ملفف.
فما هو الإيمان؟
يقول - سبحانه وتعالى-: \" أوَ مَن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كَمَن مثله في الظلمات ليسَ بخارج منها \" (الأنعام: الآية 122).
كانت هذه الأمة قبل الإسلام، أمة لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً، أمة بلا حضارة أو تقدم، أو تاريخ أو ثقافة.
فلما بعث الله فينا هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابتعثنا من جديد: \" هو الذي بعث في الأمِّيين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويُزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين \" (الجمعة: الآية 2).
ولما حصر مفهوم الإيمان في مسائل ضيقة أصبح الجيل كما ترون إلا من رحم ربي-.
قالوا: الإيمان معناه: أن تصلي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر.
والإيمان: أن تغتسل من الجنابة.
والإيمان: أن تتوضأ.
والإيمان: أن تضحي يوم الأضحى، وأن تحج وأن تعتمر.
ثم تركوا السلوك والأدبيات في شخصية المسلم، فلم يتعرضوا لها.
تركوا البيوت، والمجتمعات تخوض في المحرمات، وكأن لا علاقة للإيمان فيهما.
وهذا من أكبر الخطأ والخلل، لأنه لا تأثير للإيمان، إذا كان مجرد طقوس تعبدية فحسب.
فما وجدت الأغنية الماجنة في المجتمع المسلم، وأبعد القرآن من البيت إلا خرج الإيمان من القلوب.
وما دخلت المجلة الخليعة إلى البيوت إلا يوم اضمحل الإيمان في القلوب.
وما جلس مع رفقة السوء، وأهديت السجائر في الجلسات، وقضيت الليالي الحمراء في السهرات، وكثر الذهاب والإياب فيما يغضب الواحد الأحد، وما خولفت سنته - صلى الله عليه وسلم - إلا يوم ضعف الإيمان في القلب.
فالحل الوحيد لجميع مشكلاتنا هو: الإيمان.
والإيمان معناه: أن تكون مؤمناً بالله خلال يومك وليلك، وفي قيامك وقعودك، وحلّك وترحالك.
الإيمان بالله هو: أن يكون الله رقيباً عليك في حركاتك وسكناتك.
الإيمان بالله: أن تجلس على الكرسي، وأن تستمع للكلمة وللدرس، وقد سلمت قلبك للحي القيوم.
والإيمان مستويات:
فمثلاً: المدير في مدرسته أو معهده واجبه أن يكون مؤمناً بالله، وأن يرعى هذه الرعية برعاية الله - عز وجل -، وألا يقطع حبله من الله - عز وجل -، يقول - صلى الله عليه وسلم -: \" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته \"(1)، وهذا الجيل أمانة في عنقه، إما أن يهديهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وإما أن يتركهم يتردون في النار على وجوههم، نعوذ بالله من ذلك.
وهذه هي الأمانة: \"إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً \" (الأحزاب: الآية 72).
وأمانة الأستاذ: أن يأتي من بيته صباحاً، وأكبر قضية يحملها في ذهنه، هي: قضية الإيمان، وكيف ينقله إلى قلوب طلابه.
ويعلم أنه وراث محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه خليفة له، وأن المسلمين قد وضعوا أبناءهم أمانة بين يديه، وقد أخرجوا فلذات أكبادهم، وطرحوا قلوبهم، ووجناتهم، ومقلهم، وقالوا: يا عبد الله، اتق الله في أبنائنا.
وليس معنى الإيمان: أنه إذا درس التوحيد أن يكون موحداً، وإذا درس التاريخ أن يكون مؤرخاً، وإذا درس الجغرافيا أن يكون جغرافيّاً.
لا.. إن هذه المواد إذا لم تربط بحبل الإيمان، فإن الله سوف يسأل هذا المعلم عنها يوم القيامة.
إن الإيمان لا بد أن يكون في الدرس وفي المحاضرة، وفي الندوة، وفي الكلمة، بربط جميع جزئيات ما يتحدث عنه بالإيمان بالله، وبقدرته، وبعظمته - سبحانه وتعالى-.
حتى ينشأ الجيل مؤمناً موحداً.
وأما الطلاب والشباب المتعلم فواجباتهم أربع:
أولها وأعظمها: رقابة الله في هذا العلم، وأن تأتي بلهف وشوق وحرص إليه، ونحمد الله - عز وجل - على أن شرّفنا وجعلنا طلبة علم، ثم نسأله - سبحانه وتعالى- دائماً وأبداً أن يفتح علينا من فتوحاته.
وأعظم الفتوحات التي يفتحها الله عليك: أن يجعلك عبداً له.
ولقد رأينا وأبصرنا شباباً ضيعوا الله، فضيعهم الله في الحياة، وسوف يضيعون إن لم يتوبوا في الآخرة.
فهم لما ضيعوا الله في الاستقامة، ضاعوا في الدراسة، وضاعوا في المناهج، وضاعوا في المستقبل.
وأخذوا مرغمين إلى السجون، وحبسوا وضربوا بالسياط، وقيدوا بالحديد، وأصبحوا في ذلة وفي حقارة وفي صغار، لأنهم ما حفظوا الله.
فالزم يديك بحبل الله معتصــماً
فإنه الركن إن خانتك أركـــان
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته
أتعبت جسمك فيما فيه خســران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها
فأنت بالروح لا بالجسم إنســان
إن الذي لا يحفظ الله يضيعه الله، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يوقف الصحابي الواحد من أصحابه ويقول له: \" احفظ الله يحفظك \". (2)
فرغون طاغية، ضيع الله فضيعه الله في اليم.
وأبو لهب طاغية، ضيع الله فرده الله في نار ذات لهب.
وأبو جهل طاغية، لما لم يسلم للا إله إلا الله ضاع.
وأنتم تستقرئون من قرابتكم ومن مجتمعاتكم أن من ضيع الله ضيعه الله - عز وجل -.
فأكبر قضية نريدها هي: حفظ الله - عز وجل -.
إن رقابة الأستاذ، أو الإدارة، أو السلطة لا يمكن أن تنفذ إلى قلبك، إذا لم تراقب الله - عز وجل -.
يقول - سبحانه وتعالى-: \" وذروا ظاهر الإثم وباطنه \" (الأنعام: الآية 120)، فظاهر الإثم قد تتركه خوفاً من السلطة، لكن باطن الإثم لا يترك إلا خوفاً من الله - تعالى -.
الثاني: يا أيها الأحباب، أن نحمل العبودية كطلبة علم.
فهل يرضيكم أن تروا طالب علم يقرأ قال الله، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبين أساتذة أخيار أبرار، ولا تظهر عليه معالم السنة والاستقامة، كأنه خرج من نادٍ, من باريس، أو من لندن، أو من واشطن؟
فأين أثر ما طلب وما درس على محياه وعلى كلامه؟
فلا بد من العمل مع العلم، لأن العلم وحده لا ينجي عند الله يوم القيامة، فإبليس علم ولم يعمل، فعلمتم ما هو مصيره.
ولذلك كثيراً ما يقرن الله - سبحانه وتعالى- بين العلم والإيمان، كما في قوله: \" وقال الذين أوتوا العلم والإيمان \" (الروم: الآية 56). لأن العلم بلا إيمان يؤدي إلى الانحراف وإلى الإلحاد والعياذ بالله.
فلا بد إذن من العبودية بجانب العلم.
والعبودية تكون وتظهر على عدة أعضاء، من أبرزها هذا القلب كتلة اللحم الذي تحمله بين جنبيك، فهو حياتك وموتك، وواجبك أمام الله أن تدخل فيه الإيمان كما قال - سبحانه -: \" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدًّاً \" (مريم: الآية 96)، \" والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر \" (العصر: الآيات 1-3).
أيضاً: أن تملأه بالإخلاص والنية الطيبة.
ثالثاً: أن نحيي سنته - صلى الله عليه وسلم - في حياتنا المعاصرة.
ولا يتحقق ذلك إلا بدراسة سيرته والتأمل في أحداثها وإيحاءاتها التربوية التي تهم واقع الشباب.
وإن لم تفعل ذلك فما صدقت في حبك له.
يا مدعي حب طه لا تخالفــه
الخلف يحرم في دنيا المحبيـنا
أراك تأخذ شيئاً من شريعتــه
وتترك البعض تدويناً وتهوينـا
خذها جميعاً تجد خيراً تفز بــه
أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
فلا بد للشباب من تحقيق سيرة هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وإقامتها حقاً على سلوكه، وعلى مظهره، دون أن يرد بعضها، أو يهون ناحية من نواحيها كاللحية والثوت مثلاً، لأن الجميع قد جاء به - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكمل إيمان العبد حتى ينشرح صدره بجميع ما جاء به - صلى الله عليه وسلم -.
رابعاً: أن نحرص على أوقاتنا أن تضيع من بين أيدينا هدراً، قال - سبحانه -: \" أفحسبتم أنَّما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ف- تعالى - الله الملكُ الحقٌّ لا إله إلا هو ربٌّ العرش الكريم \" (المؤمنون: الآيات 115-116).
فلا بد لنا أن ننظم أوقاتنا تنظيماً دقيقاً، لأننا أمة الدقة والنظام.
يقول - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: \" نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ \". (3)
ولا يكون ذلك كما قلت إلا بالتنظيم، بان تقسم أوقاتك إلى أجزاء، وتجعل في كل جزء ما يناسبه، فالصلاة في وقتها جماعة، وتجعل وقتاً للحفظ والتلاوة، ووقتاً للاطلاع والقراءة، ووقتاً للزيارات وصلة الرحم، ووقتاً للأهل ومتطلباتهم، ووقتاً للترويح عن النفس في غير المحرم، وهكذا.
ولن يتم لك الاستفادة من وقتك إلا بمثل هذا التنظيم، وقد جرب الكثير ذلك فعلموا مصداق هذا.
لأن العشوائية في الوقت لا تحقق الاستفادة التامة منه، بل يصبح الإنسان يراوح في مكانه سنوات طويلة دون أن يثمر من وقته شيئاً.
فيا شباب، عليكم قبل هذه المسائل الأربع بالصدق مع الله في الحياة، فإنه من يصدق الله يصدقه.
ولا يكون الصدق إلا بالمبادرة إلى النوافل والطاعات، حتى يتحقق لنا حب الله ومعونته، فإنه القائل كما في الحديث الصحيح: \" ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصره به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه \". (4)
فالنوافل والطاعات الاجتهادية تزيدك قرباً منه - سبحانه -.
واعلم، أنه لن يتم لك تحقيق ما تصبو إليه: من استغلال وقتك، أو التزود بالطاعات والنوافل، إلا بأن تتخلى كلياً عن رفقاء السوء الذين يعيدونك إلى سابق عهدك، ويصرفونك عن الجد والاجتهاد.
فعليك أن تفر منهم فرارك من الأسد.
لأن الجليس يؤثر في جليسه حتماً، لا سيما إذا كان فاسداً، لأن الفساد ينتشر أعظم من انتشار الخير لأنه سهل وله وسائله المغرية.
والهدم كما هو معلوم أسهل من البناء.
فالبناء يحتاج إلى تروٍّ,، وإلى زمن، وإلى اختيار.
وأما الهدم فلا يحتاج إلا إلى عشوائية، ولا يحتاج أكثر من لحظات يبيع فيها المسلم دينه مع أولئك الرفقاء السيئين.
ولا يغررنَّك الشيطان بخطواته عندما يوهمك بأنك أنت المؤثر لا المتأثر، لأنك لو كنت كذلك فترة من الزمن، فإنك لا شك ستنتقل إلى جانب التأثر، والتقبل بعد فترة أخرى، لأن المرء لا يدوم على حال.
كما قال - تعالى -: \" لمن شاء منكم أن يتقدَّم أو يتأخّر \" (المدثر: الآية 37)، فهو إما التقدم للخير، أو التأخر عنه.
هذه بعض الوصايا العاجلة لطائفة الشباب، لعلها أن تنفعهم في حياتهم، فيكونوا خير زاد للإسلام في مرحلته المقبلة.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (893، 5200)، ومسلم (1829) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) الحديث صحيح، أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي (2516)، والحاكم (6304)، وانظر: المشكاة (5302).
(3) رواه البخاري (6412) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(4) أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد