وسائل الثبات أمام المغريات والمتغيرات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
إن من خصائص ديننا الإسلامي الثبات في المقومات وفي القيم، فهي لا تتغير ولا تتطور حينما تتغير ظواهر الحياة الواقعية، وأشكال الأوضاع العلمية، بل إن هذه التغيرات تظل محكومة بالمقومات والقيم الثابتة لهذا الدين.

ولا يعني هذا تجميد حركة الفكر والحياة، لكن على أن تكون حركتها داخل الإطار الثابت لهذا الدين، وحول محوره الثابت، بهذا الميزان تضبط البشرية حركتها فلا تمضي شاردة على غير هدىº كما وقع في الحياة الأوروبية عندما أفلتت من عروة العقيدة، ووقعت في ظلمات التيه لما تركت البشرية هذا الأصل الثابت، ففلت منها الزمام الذي كان يشدها إلى دينها، وأصبحت أشبه بجرم فلكي خرج من مداره، وفارق محوره الذي يدور حوله فيوشك أن يصطدم فيدمر نفسه، ويصيب الكون كله بالدمار.

والعاقل الواعي الذي لم يأخذه الدوار الذي يأخذ البشرية اليوم، حين ينظر إلى هذه البشرية المنكودة يراها تتخبط في تصوراتها، وأنظمتها، وأوضاعها، وتقاليدها، وعاداتها، وحركاتها كلها، تخبطاً منكراً شنيعاً، يراها تغير أزياءها في الفكر والاعتقاد، كما تغير أزياءها في الملابس، يراها تقضي على الهدف السامي من وجود هذا الإنسان لتحوله إلى آلة تضاعف الإنتاج، وتحقق الربح لزمرة من المرابين، وتجار الشهوات، ومنتجي الأفلام السينمائية، وبيوت الأزياء وغيرهم من النفعيين الماديين.

يهتفون لهذه القطعان البشرية التائهة بالتطور والانطلاق، والتجديد، والحرية، والمساواة، وهي في حقيقتها مجرد شعارات زائفة، تدغدغ بها عواطف الأجيال التائهة.

تواجه المسلم اليوم تحديات معاصرة، وتيارات فكرية، وموجات عاتية، ومغريات وشهوات وشبهات، فلا تزال به حتى تدعه في حيرة من أمره، فأضحى المتمسك بالسنة متساهلاً، والمناصر لها مناوئاً، وتخلت الفتاة المسلمة عن حياتها وحشمتها، واستسلمت للدخيل من الأفكار، وحامت حول الحمى، وأوشكت أن تقع فيه.

لقد أضحى الدين غريباً تجاه هذه الرياح - رياح التغيير الوافدة -، حتى أصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، إنها رياح تغيير عاتية وفدت على المسلمين من وراء البحار، من كل حدب وصوب، تريد تغيير كل شيء: ثوابتنا، وعقيدتنا، وسلوكنا، تريد استقطاب شبابنا، ورجالنا، ونسائنا، واستلاب ثقافتنا، إنها رياح تحمل إلينا الدمار.

وقد زاد من عتو هذه الرياح أن لها أناساً من بني جلدتنا يفتحون لها أبواب بيوتنا، وجامعاتنا، ومعاهدنا، ومدارسنا، بل ويرفعون من شأنها عند الناشئة المسلمة، وهذه الرياح تفد إلينا عبر الإذاعة، والتلفاز، والأقمار الصناعية، وعبر المجلة والجريدة، والكتاب، وعبر رجال الفكر من الوافدين، أو من أبناء المسلمين الذين رضوا بها، ورضعوا ألبانها.

هذه الرياح هي رياح التغريب الوافدة، التي تزين الحضارة الغربية، والسلوك الغربي، والقيم الغربية السافلة القذرة، إنها حضارة الغالب في وجه حضارة المغلوب، تلك سنة الله وحكمته يداول الأيام بين الناس، فهي مرة للمؤمن على الكافر، ومرة للكافر على المؤمن (( وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين أمنوا ويمحق الكافرين )).

إن المؤمن الحق هو من يميز بمعرفته أن هذا البلاء من عدوه الكافر والمنافق والفاسق إنما هو بسبب تمسكه بهذا الدين، وصبره عليه، ودعوته إليه، فما يلقاه المؤمن في سبيل هذا الدين إنما هو أثر من آثار الاستقامة على المنهج، وهنا يكون الناس بين موقفين:

الموقف الأول: النكول والتراجع عن هذا الطريق الذي سبب له هذه الآلام والمحن، وعرضه للأذى، وهذا حال صنف من الناس قال الله عنهم في كتابه: ((ومن الناس من يقول أمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ))، وقال فيهم أيضاً: (( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين )).

فتراه يقول: لو كان هذا الدين خيراً لما تسبب في حرماني من وظيفتي، أو مصادرة حريتي، أو فراق زوجتي، أو سجني، أو قحط أرضي، فيترك الاستقامة على هذا الدين وينبطح أمام هذه التحديات ليقع فريسة للشهوات والشبهات.

وأما الموقف الآخر: فهو موقف الثبات على هذا الدين مهما تطلب الأمر من جهود وتضحيات، ولا تزيده المحن إلا إيماناً وتسليماً.

ولا شك عند كل ذي لب أن حاجة المسلم اليوم للثبات أعظم من حاجة أخيه له أيام السلف، ولا يثبت إلا من ثبته الله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: \"لقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياناً\".

والإقبال على كتاب الله - عز وجل - تلاوة وتدبراً، وتفهماً وتحاكماً من أعظم وسائل الثبات، فمن تمسك به عصم، ومن اتبعه نجا، فهو حبل الله المتين، والنور المبين، قال الله عنه: (( لنثبت به فؤادك ))، نعم ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )).

ومن وسائل الثبات تمسك العبد بشرع الله، والعمل الصالح قال تعالى: (( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ))، قال قتادة: في الحياة الدنيا تثبيتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة تثبيتهم في القبر، قال تعالى: (( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً )).

ومن وسائل الثبات التأمل في قصص الأنبياء، وأخذ الدروس والعبر منها قال تعالى: (( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ))، تأمل قوله تعالى: (( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين ))، قال ابن عباس: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل.

ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذابº يدخل نفسك وأنت تتأمل هذه القصة.

وهذا موسى - عليه السلام - في وقت ملاحقة الظالمين له يقول أتباعه: إنا لمدركون، قال: (( إن معي ربي سيهدين ))، ثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين.

ومن وسائل الثبات دعاء الله - عز وجل - تثبيت القلوب، ومن دعاء المؤمنين (( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ))، و(( ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا ))، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )). وكذا ذكر الله - عز وجل - خير معين على الثبات قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله ))، وانظر إلى فارس والروم كيف خانتهم أبدانهم أحوج ما كانوا إليها بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين لله كثيراً، ولما راودت امرأة العزيز يوسف - عليه السلام - التجأ إلى الله فقال: معاذ الله، فتكسرت أمواج الشهوات على أسوار حصن الذكر المنيع.

ومن وسائل الثبات على دين الله سلوك المرء طريق أهل السنة والجماعة، طريق الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية ذي العقيدة الصافية، والمنهج السليم، واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله، ومفاصلة أهل الباطل، وإذا أردت أن تعرف أهمية ذلك الثبات فانظر في تلك الفرق الضالة لماذا تخبط أصحابها، وتنقلوا في منازل البدع والضلال من الفلسفة إلى الكلام والاعتزال إلى التحريف، إلى التصوف والتفويض والإرجاء، بل إنهم عند الموت من أكثر الناس شكاً وتحيراً، وأما من هو على الجادة - طريق أهل السنة والجماعة - فلا يتركه عقله أبداً لكل هوى أو شهوة أو شبهة عرضت، وقد قال هرقل لأبي سفيان: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال أبو سفيان: لا، ثم قال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فمن أراد الثبات فعليه بسبيل المؤمنين وهو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم أجمعين -.

كما أن من عوامل الثبات التربية الإيمانية الواعية، القائمة على الدليل الصحيح، وتعرف سبيل المجرمين، والدراية بخطط أعداء الإسلام، والإحاطة بالواقع علماً، وبالأحداث فهماً وتقويماً، التربية المتدرجة التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً ترتقي به في مدارج كماله، لا ارتجال فيها، ولا تسرع، ولا حماس طائش.

ومن عوامل الثبات الثقة بنصر الله، وأن المستقبل لهذا الدين، وقد كان رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - يثبت أصحابه المعذبين، ويخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن فيقول: ( ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه)، أحاديث كثيرة تبشر بنصرة هذا الدين، فما أشد الحاجة لها في أوقات الفتن، فإنها من أهم عوامل الثبات على الإسلام.

إن الجهل بحقيقة الباطل يقود إلى الاغترار به، لذا فإن معرفة المسلم بمكر عدوه وأهدافه ووسائله من عوامل الثبات على هذا الدين، قال الله: (( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ))، وقال تعالى: (( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين )) وما ذاك إلا لأجل ألا يؤخذ المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام، فكم سمعنا حركات تهاوت، ودعاوى زلت أقدام أصحابها، ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا بسبب جهلهم بأعدائهم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply