تلك أيام قد خلت


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بعد مضي عام على ولايته في حمص، أرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى واليه على حمص بالشام عمير بن سعيد - رضي الله عنه - يستدعيه للمثول بين يديه، فقد مر عام كامل على ولايته، ولم يرسل من الخراج شيئاً.

يصل عمير مجلس أمير المؤمنين، وقد بدت عليه آثار التعب والإعياء، يحمل على كتفيه جراباً وقصعة.. فسأله عمر -رضي الله عنه- وقد آلمه ما رآه من حاله: ما شأنك يا عمير؟!

فأجابه: شأني ما ترى، ألست تراني صحيح البدن، ظاهر الدم، معي الدنيا أجرها بقرنيها؟!

قال عمر: وما الذي معك منها؟!

قال: معي جرابي هذا أحمل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها، وإداوتي (إناء من الجلد) أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدواً إن عرض لي، فو الله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي.

فقال له عمر: ماذا فعلت فيما عهدنا إليك به؟

قال: أتيت البلد الذي بعثتني إليه، فجمعت صلحاء أهله، ووليتهم جباية الأموال، حتى إذا جمعوها، وضعتها في مواضعها، ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به.

عندها قال عمر: جددوا لعمير عهداً.

فقال عمير على الفور: تلك أيام قد خلت، لا عملت لك ولا لأحد بعدك.. ويستأذن وينصرف إلى منزله.

لكن أمير المؤمنين عمر يرسل في أثره من يحمل مائة دينار له، إن لمس فيه حالاً صعبة شديدة، وبعد أن مكث الرجل في بيت عمير ضيفاً ثلاثة أيام، ليس لهم من الطعام إلا قرصة من الشعير، بعدها يستأذن الرجل، ويدفع له بالدنانير، قائلاً له: هذه من أمير المؤمنين.

غير أن عمير يرفضها، ويقول: لا حاجة لي فيها فردها.. وبعد إلحاح.. أخذ الدنانير.. لكنه بعد انصراف الرجل، قام بتقسيمها بين أبناء الشهداء والفقراء.

غير أن عمر - رضي الله عنه - كان حريصاً أن يعرف ماذا فعل بهذه الدنانير، فلم يجد الجواب عند الرسول.. فاستدعاه وسأله، وبعد إلحاح قال عمير: قد قدمتها لنفسي (أي تصدقت بها)..

تلك أيام قد خلت!!.. قالها عمير في معرض رفضه تجديد أيام الولاية، فلسان حاله، يقول: يكفيني يا أمير المؤمنين ما أصبت منها، وما أصابت مني، ولا حاجة بي للمزيد.. إنها مسؤولية تتعب من يحملها بصدق، وتكد من يسعى بها بعزم وجد، وتضني من يرفع فيها شعار الأمانة.

لذلك رأينا جموعاً من الأولين يهربون منها، ويعتذرون عنها، ولما غدت المسؤولية مغانم تكتسب، ومصالح تحتلب، ومنافع مادية ومعنوية تجتلب، رأينا إقبالاً وتنافساً شديداً من جموع الغافلين في ميادينها.

تلك أيام قد خلت!!.. تلك الأيام التي ترجمت معاني الإيمان الحقيقية التي تتجلى بالزهد بالدنيا وما فيها، وعدم الافتتان بها، أو السعي في دروبها، والركض وراء متاعها، بل الحرص على امتهانها، واتخاذها سبيلاً إلى الآخرة، وطريقاً إلى الجنة، وسبباً لمرضاة الله - سبحانه -.

تلك أيام قد خلت!!.. بزهدها وورعها وتقواها ببذلها وعطائها.. لا نكاد نرى في هذه الأيام، إلا نادراً من آثارها، وبعضاً من رسومها، التي تستوقفنا أخبارها، ويشدنا أريجها، ويسعدنا شذاها.. ولسان كل واحد فينا يقول: أين نحن من هؤلاء؟! بل كيف أصبح هؤلاء بهذه المكانة.. إنه الإيمان.. الذي تشربته نفوسهم.. أفعالاً وسلوكاً.. لا محاضرات أو أقوالاً مجردة، تخلو من الروح والمعنى.

إننا بحاجة لتلك الأيام التي خلت.. بحاجة ماسة إلى رجالها ونسائها وحتى أطفالها.. بحاجة إلى مواقفهم.. التي سمت فيها الآخرة، وعلت منزلة التقوى، وتقدم القوم على أساسها، ووزن الجميع في ميزانها..

تلك أيام قد خلت!!

من لها يعيد سيرتها، ويضحي في سبيلها، ويحيي ما اندثر من معالمها، واندرس من آثارها؟!.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

نعم تلك أيام خلت

-

بشير أحمد علي

14:07:10 2015-08-29

قد لا يعيد التاريخ نفسه