ما هي العبادة، وما هو مفهومها، وما هو كنه هذا الأمر الذي أمرنا به الله - تعالى - حتى يأتينا اليقين، وجعله مهمة الإنسان الأولي في الوجود؟.
إن أصل معنى العبادة هو الإذعان الكلي والخضوع الكامل، والطاعة المطلقة ويتساوى في ذلك الجسد والقلب. ولا يغيبَنَّ عن بالنا أن المحبة جزء لا يتجزأ من حقيقة العبودية. وهذا ما أكده ابن تيمية في غير موضع من رسالته \"العبودية\" إذا يقول: \"فهي تتضمن غاية الذل لله - تعالى - بغاية المحبة له\". تلك هي العبودية الحقة، عنصران: عنصر الخضوع، وعنصر المحبة. لا ينفصل أحدهما عن الآخر. ولهذا قال ابن تيمية: \"ومَن خضع لإنسان من بغضه له لا يكون عابداً له، ومن أحب شيئاً ولم يخضع له، لم يكن عابداً له، ومن أحب شيئاً ولم يخضع له، لم يكن عابداً له\". وحقيقة العبودية هذه هي التي جعلت بعض السلف يتهم من يعبد الله بالحب وحده، دون الخضوع، بالزندقة.
فإذا كانت هذه هي العبودية، فكيف نطبقها؟.
لا تطبّق العبودية إلا بعبادة الله، ولا تكون إلا بالتزام شرع الله أمراً ونهياً وتحليلاً وتحريماً، وبهذا المعنى يقول ابن تيمية: \"وإنما عبد الله من يُرضيه ما يُرضي الله، ويُسخطه ما يُسخط الله، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، يوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله - تعالى -\".
إذن فالعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة. ولكن بعض الناس لا يفهم من كلمة \"العبادة\" إذا ذُكرت إلا الفرائض والأركان الشعائرية من صلاة وصيام وزكاة وحج، وبعض النوافل كالعمرة والأدعية والأذكار. ويحسب كثير من المتدينين أنهم إذا قاموا بهذه الشعائر فقد وفَّوا الإلهية حقها، وقاموا بواجب العبودية لله كاملاً. وهنا يجب أن نلقي الأضواء على حقيقة هامة لا يزال يجهلها الكثير من المسلمين وهي أن هذه الشعائر العظيمة والأركان الأساسية في بناء الإسلام ـ على منزلتها وأهميتها ـ إنما هي جزء من العبادة لله وليست كل العبادة.
والحق أن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة ومهمته في الأرض، دائرة رحبة واسعةº إنها تشمل شؤون الإنسان كلها وتستوعب حياته جميعاً.
فالصدق، والأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد ضد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، وأمثال ذلك من العبادة.
وقراءة القرآن، وحب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله.
وأكثر من ذلك، إن كل عمل اجتماعي نافع يعدٌّه الإسلام عبادة من أفضل العبادات ما دام قصد فاعله الخير، لا تصيٌّد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس:
كل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمّد جراح منكوب، أو يسد به رمق محروم، أو يشد به أزر مظلوم، أو يَقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي به دَين غارم مثقل، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يهدي حائراً، أو يعلّم جاهلاً، أو يؤوي غريباً، أو يدفع شراً عن مخلوق، أو أذى عن الطريق، أو يسوق نفعاً إلى ذي كبد رطبة (أي فيها حياة) فهو عبادة وقربة إلى الله إذا صحت فيه النية.
وإصلاح ذات البين، وعيادة المريض، والعدل بين الاثنين، وإعانة الرجل في دابته، والكلمة الطيبة، وتبسم المرء في وجه أخيه عبادة.
وعمل الإنسان في معاشه بما يرضي الله بشرط مصاحبة النية الصالحة له عبادة. وحتى الأكل والشرب وقضاء الشهوة هي ضمن دائرة العبادة بشرط صحة النية وشرعية العمل.
وهكذا فإن العبادة تسع الحياة كلها: من أدب الأكل والشرب، وقضاء الحاجة، إلى بناء الدولة، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وشؤون المعاملات، والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد