دعوة إلى اكتشاف الذات


 
من المعلوم أن الإنسان مسؤول عن نفسه فهي أمانة عنده، ولعل الكثير من الناس يظن أن الذمة تبرأ بالاهتمام بالظاهر، أعني الاهتمام بالجسم والبدن، فيهتم بصحته ويتغذى الغذاء الدافع عنه ما يؤذيه، وهذا أمر يشكر عليه، إلا أنه ينبغي أن نعرف أن الإنسان مكون من شيئين (البدن والروح) وعلى كليهما يقع السؤال، والملاحظ من الناس ترك الجانب الآخر وهو الروح (النفس) فلا إشكال عنده أن يكون على دينٍ, غير دين الإسلام أو على منهج آخر غير منهج الإسلام أو يكون عربيداً فاجراً ينتهك حدود الله، ونوع آخر من الناس من يعيش في هذه الدنيا كعيشة الحيوانات، ويظن أنه خلق لأن يأكل ويشرب فحسب، وهؤلاء وغيرهم في حقيقة الأمر لم يعرفوا قيمة أنفسهم إلى الآن.

ولو قلبت ناظريك في أوساط شريحة من معينة من الخلق لوجدتهم يائسين من أنفسهم، محبطين من أعمالهم، يتمنون أن تنطبق عليهم الدنيا، فهم قد استسلموا لعدوهم وشياطينهم، لاحظ - أخي - هؤلاء إنهم أيضاً لم ينقبوا عن كنوز نفوسهم ومهاراتهم مع أنهم يملكون الكثير.

دعني - أخي القارئ - استعرض معك أقسام الناس في اكتشاف ذواتهم:

القسم الأول: اللامبالي:

وهو ذلك الشخص الذي لا يهمه أمر نفسه ارتقت أم انحطت، ولا يهتم بتقسيم معاملته مع الناس أو لا يهتم بمعرفة صفاته وتمحيصها، فهذا الصنف قد دفن نفسه حية، وربما تمثل هذا الشخص برجل يحمل الجواهر الثمينة وهو لا يدري أنه يحملها، مع أن هذا الشخص بإمكانه - لو استيقظ من غفلته - أن يجعل من نفسه قائداً رائداً ذا قيمة وذا شخصية فذة.

القسم الثاني: المغالي:

ونعني به ذلك الشخص المعتز بنفسه، المرتفع بذاته، الذي يظن أنه قد بلغ المنزلة، أو أنه قد عرف خبايا نفسه، ولما يصل إلى شيء بعد، ويدخل فيه ذلك الرجل الذي يغلو في اكتشاف ذاته بحيث أنه يتبع الوسائل غير المشروعة لذلك كالصوفية برياضات نفوسهم، وهكذا العقلانيون الذين يعيشون بخيالاتهم، وبعض المثقفين الذي يزعمون أنهم مستنيرون، وهذا الصنف أراد أمراً نافعاً ومطلوباَ ولكنه لم يوفق في وسائل اكتشاف ذاته لسلوكه طريقاً مسدوداً، ولهذا يبقى أن يسبح في لجة يحاول الخروج منها دون جدوى.

القسم الثالث: الوسط بين الصنفين السابقين:

فركز اهتمامه بأصل القضية وهو نفسه، ومعرفة صفاتها وخبايها، ونفض الغبار المتراكمة على ما عنده من طاقات ومواهب وصفات جميلة، ثم سلك الوسائل المتاحة والمشروعة لتشغيلها واستغلالها في النافع والمفيد.

من وسائل اكتشاف الذات:

بعد ذلك العرض الموجز الذي ذكرناه في الأسطر الماضية يبقى للقارئ علينا حق في أن نبين له شيئاً من العلاج الذي يتمثل في وسائل اكتشاف الذات والوسائل كثيرة إلا أنني أردت أن أذكر أهمها:

1- تحديد الهدف والغاية من اكتشاف الذات:

لكل واحد منا هدف يسعى للوصول إليه سواءً كان هذا الهدف عظيماً أو حقيراً، ولكن صاحب الهمة العالية لا يختار إلا الغاية العظيمة السامية حتى يتميز بها عن غيره من البطالين والخاملين، فهدفه الوصول إلى استخراج ما في النفس من المواهب لكي ينفع الآخرين، ويخدم بهذه الطاقات الأمة ويرفع من قدرها، ويهش عنها كل ما يؤذيها، لأنه يعرف أن لهذه الأمة حق عليه ما دام أنه يمتلك هذه الوسائل النافعة، ربما يكون هدفك طلب العلم ولكن ينبغي أن تجنده في خدمة دينك، وتزيل به ظلمات الجهل عن الناس، ربما يكون هدفك أن تكون مهندساً أو طبيباً أو جندياً أو مدرساً.. فاحرص - أخي الحبيب - أن تجعلها أدوات لهذه الأمة ترتقي بواسطتها إلى أن تكون في مقدمة الأمم، وما يقال للرجل يقال للمرأة إلا أنه ينبغي أن تعلم أن محافظتها على نفسها من الاستسلام للشهوات وما تهوى النفس من أعظم النفع للأمة، وهذه الأم المربية لأبنائها أيضاً مشاركة في بناء هذه الأمة بناء جيداً فلماذا لا يكون هذا هدفها.

2- ومن الوسائل نقد الذات:

وهذا ما يسمى عند علماء التزكية بـ (المحاسبة)، النقد البناء للذات من غير إفراط أو تفريط، مما يعين على تنمية مقدرة الذات على العطاء والإنجاز والبذل.

ونقد الذات \"كلمة أُفَضِّلها على قولهم (جلد الذات) لأن الجلد يحوي من الشدة والقسوة والغلظة الكثير ولكن لا مشاحة في الاصطلاح، المهم أن يقف الإنسان مع نفسه يعاتبها على ما فعلت من السوء، ويقوي من عزيمتها إن عملت الخير، ويقف للبحث عما يصلحها ويرفع من قدرها في الدنيا والآخرة.

وما الجرد السنوي الذي يقوم بها التجار إلا لأجل استدراك الوضع، وزيادة الربح، وتصحيح المسار.

3- النظر في سير العظماء والمبدعين:

وقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في هذه القضية مقتدين بالرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - فهو القدوة الحسنة، وسار من بعده صحابته على منواله، والناظر في حياة الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - يرى ذلك جلياً وخاصة عمر الفاروق - رضي الله عنه -  وحفيده عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد - رحمه الله ورضي عنه -.

فقس نفسك بما كانوا عليه، وإياك أن تجعل قدوتك الفلاسفة أو الغربيين أو المنصّرين أو الخارجين عن نهج الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ويكفينا في ذلك الأنبياء والمصلحين فهم نور الدجى، وبهم يهتدي الساري.

4- اكتشف نفسك من خلال إخوانك المخلصين الناصحين:

والمؤمن مرآة أخيه، وإذا استنصحك فانصح له، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاًَ، فإذا أردت أن تعرف نفسك جيداً فاستكشف آراء إخوانك فيك بطريقة أو بأخرى حتى تصل إلى مرادك، ونظرك إلى نفسك يعتريه النقص وحب الذات وكبريائها، فأحس تقييم لنفسك هو أن تعرف نفسك من خلال الناس، وفي الصحيح أن جنازةً مرت فأثنى الناس عليها خيراً، ومرت جنازةٌ أخرى فأثنى الناس عليها شراً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( أنتم شهداء الله في الأرض، أما التي أثنيتم عليها خيراً فهو من أهل الجنة، وأما التي أثنيتم عليها شراً فهو من أهل النار ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

5- العزيمة الصادقة، والاجتهاد الذي لا يعرف الكلل، والصدق في التغيير:

((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) ولا يكون التغيير الحقيقي إلا بالجدية والهمة العالية، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من الكسل وسوء الكبر والعجز فهو بئس مطية الرجل.

وبقدر الجـــــــــد تكتسب المعالي          ومن طلب العلى سهر الليالي

على قدر أهل العزم تأتي العزائم            وتأتي على قدر الكرام المكارم

وصلى الله على محمد وآله وصحبه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply