إلى أرباب الفكر وحملة المنهج ( 4 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

ومن المعالم في تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه

 

ثامنا: المشاركة العملية.

فقد اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصراً على إعطاء الأوامر ومراقبة التنفيذ، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول - صلى الله عليه وسلم -، الذي كان يعيش مع أصحابه ويشاركهم أعمالهم وهمومهم ولذلك تجد النبي - صلى الله عليه وسلم - شارك تلامذته في أمور، فها هو يشاركهم في بناء المسجد، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم أربع عشرة ليلة... وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي - صلى الله عليه وسلم - معهم وهو يقول اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة \" [رواه البخاري (428) ومسلم (524)] وشاركهم في حفر الخندق، فعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب ويمر بنا فجعل يقول \" اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة \" [رواه البخاري (6414) ومسلم (1804)] وكان يشاركهم في الفزع للصوت، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبي طلحة عُري وفي عنقه السيف وهو يقول: لم تراعوا لم تراعوا، ثم قال: وجدناه بحراً أو قال إنه لبحر \" [رواه البخاري (2908) ومسلم (2307)] وأما مشاركته لهم في الجهاد فحدث ولا حرج، فقد خرج - صلى الله عليه وسلم - في (19) غزوة [رواه البخاري (3949) ومسلم (1254)] بل قال عن نفسه \" ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية \" [رواه البخاري (36) ومسلم (1876)] وهي مشاركة لا تلغي دورهم وتحولهم إلى مجرد آلات صماء، بل هي تدفع للتوازن بين هذا وبين تعويدهم على العمل والمشاركة، إن مجرد إصدار الأوامر والتوجيه أمر يجيده الجميع، لكن الدخول مع الناس في الميدان ومشاركتهم يرفع قيمة المربي لديهم ويعلي شأنه ويشعرون أنه واحد منهم، وذلك أيضاً يدفعهم لمزيد من البذل والهمة والحماس عكس أولئك الذين يدعون للعمل ويربيهم بعيد عنهم، وقد عبر عن هذا المعنى ذاك الحداء الذي كان يردده أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -:

لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منا العمل المضلل

ثم إنه بتعامله هذا وتعليمه يشيع - عليه الصلاة والسلام - روح الود والإخاء، ويسهم في بناء علاقة إنسانية وطيدة بين المربي ومن يربيهم.

 

تاسعا: التربية بالأحداث.

فمن السهل أن نحدث الناس كثيراً عن معاني عدة، وأن ننظر لجوانب متعددة، لكن ذلك وإن أثرَّ يبقى أثره باهتاً محدوداً، أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فمع توجيهه لأصحابه في كل موطن، إلا أن تربيته كانت تتم من خلال الأحداث، فكان يضع الناس في الموقع والميدان ويأتي التوجيه حينها، فهاهو يشكوا إليه الحال أبو بكر - رضي الله عنه - وهما في الغار، فيقول - صلى الله عليه وسلم - \"ما ظنك باثنين الله ثالثهما \" ويسأله رجل في الميدان والمعركة: أرأيت إن قُتلت؟ فيجيبه إجابة تصل إلى شغاف قلبه فيتقدم حتى يستشهد، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل [رواه البخاري (4046)] وأوصى علياً - رضي الله عنه - بالدعوة ويذكره بفضلها، وقال: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها حتى أصبحوا فغدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجوا أن يعطاها فقال: أين علي؟ فقيل: يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه ثم قال له: أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من الله - تعالى - فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم \" [رواه البخاري (3009) ومسلم] أترى أن تلك التوجيهات لو تلقاها أصحابها وهم جالسون قاعدون في بيوتهم ستترك أثرها؟ إن مثل هذه التربية هي التي خرّجت الجيل الجاد العملي، لم يكن ذلك الجيل يتربى على مجرد التوجيه الجاف البارد، إنما كان يعيش العلم والعمل معاً.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply