جنوداً نريد لا أتباعاً:
يسعى بل ويتحمس بعض الإسلاميين لتوسيع رقعة انتشار العمل الإسلامي، زيادة قاعدة المؤيدين.
قد يكون لهم العذر في ذلك، فهامش الحرية المتاح يؤتى من أطرافه، وهم يحاولون استغلاله لأقصى درجة ممكنة، ولا يخفى أن الإسلاميين هدف للملاحقات المستمرة داخلياً وخارجياً، من اعتقال وفصل من العمل ومحاكمات عسكرية، مما يجعلهم في حاجة لتسريع الانتشار وتفعيله للتأثير في المجموع العام للناس وتبليغهم دعوتهم إلى الله.
وفي المقابل يبرز السؤال:
أليس الأولى أن نعمل على تأصيل وتجذير وتثبيت التواجد الإسلامي على الساحة بأشخاص قادرين على تحمل أعباء العمل، مؤهلين إيمانياً وتربوياً ونفسياً وعلمياً وعملياً، فهؤلاء هم الذين سيصمدون أمام المحن: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت: 2].
إن الابتلاء للمؤمن سنة من سُنن الكون - وإن كان لا يتمناه - ولكن عليه الإعداد له، ولن يصمد لهذا البلاء إلا أصحاب الدرجة العالية من الإيمان والتربية.
وبعد التمكين سيكون النصر وتبعاته، فلن تنتهي المعركة بمجرد الانتصار، ولكن هناك جولات للنفس فيما بعد الانتصار، قليلون من يصمدون لها.
يقول الأستاذ سيد قطب: \"فالنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان، وبين الحق والضلال، فللنصر تكاليفه من ذوات النفس، وواقع الحياة، للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر، وفي عدم التراخي بعده والتهاون، وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء، ولكن قليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء، وصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة أخرى وراء النصر\".
لابد إذن من تأصيل المفاهيم الإسلامية والتربوية في النفوس وترسيخها وتثبيتها، أعني مفاهيم الإيمان الصادق: الإخلاص - التجرد - الأخوَّة - العمل الجماعي - نكران الذات.. إلخ.
فمجتمع ترسخ فيه هذه المفاهيم هو الأقدر على تحمل تبعات وتكاليف ما قبل النصر وما بعده، فعندما يشعر الإنسان أنه يعيش لهدفٍ, سامٍ,، وغاية عظيمة - وهي أستاذية العالم - تصغر أمامه كل الغايات الدنيوية، ويتمكن ذلك من قلبه، فيتحرك بها تلقائياً، ودون أدنى إبطاء، ولنا في مؤمن آل فرعون وهدهد سليمان - عليه السلام - مثل رائع على ذاتية المؤمن، عندما يختمر الإيمان والعلم في النفس.
الإيمان أساس النصر:
لقد أرسى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسس التربية الصحيحة في نفوس أصحابه في مدرسة الأرقم بن أبي الأرقم، ورسّخ في نفوسهم الإيمان والإخلاص والتجرد، فواجهوا الدنيا بأسرها، وفتحوا مغاليق القلوب قبل مغاليق القلاع.
لقد انتصر المؤمنون ببدر - على قلتهم - بإيمانهم الراسخ وتربيتهم الفريدة، وذلك لأنه صِنفٌ رُبِّـيَّ على أسس عقدية قوية رسَّخت في نفوسهم المعاني السامية والتربية الإسلامية القويمة.
بينما انهزم المسلمون في حُنين وهم كثرة عندما خالط النفوس بعض الشوائب فكان لابد من درس قاسٍ, لتنقيتها وتثبيتها على ما تربت عليه.
اتبع الإمام الشهيد حسن البنا نهج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حين ربى إخوانه تربية عالية المستوى، رفيعة القدر، فصمدوا وأبلوا بلاءً حسناً أعاد للنفوس قصص أسلافهم من الصحابة والتابعين في الصبر، والاحتساب، وصدق الإمام البنا حين قال: \"إني لا أخشى عليكم الدنيا مجتمعة، ولكني أخشى عليكم أنفسكم\"، فهنا مناط الأمر، ألا وهو تربية النفس تربية رفيعة المستوى، وهـو ما يجب أن نوليه جُل اهتمامنا.
علينا أن نهتم بترسيخ المعاني في النفوس وألا نغتر بكثرة العدد، فساعة الجد لن يصمد إلا الذين تمكّنت في نفوسهم التربية السليمة والمعاني الرفيعة، أما الكثرة غير المؤهلة فستصير عبئاً ثقيلاً.
التربية أولاً:
لا يعني ذلك ألا نهتم بنشر تعاليم الإسلام ومفاهيمه، فذلك فرض على كل مسلم، ولكن يكون هذا الانتشار بعد ترسيخ تلك المفاهيم في النفوس، فلا يعقل أن يكون المستهدف هو ضم عناصر جديدة للدعوة ثم تركها تتفلت بعد ذلك، وإلا سنكون كمن يدور في حلقة مفرغة.
إن الدعوة الفردية لا يمكن إغفالها وهي من أنجح وسائل الدعوة إلى الله وأمضاها، ولكن لا ينبغي أن تشغلنا عن تأصيل المفاهيم السابق ذكرها في النفوس، عندها سنكون خير صورة عملية للإسلام.
المسألة إذن تدور في إطار ترتيب الأولويات، فالأولى والأهم في ظروفنا الحالية هو تأصيل الجوانب التربوية والعلمية والعملية، والارتقاء بمستوى الجميع، فلا يظن أحد أنه فوق التربية أو أن التربية أقل منه.
يقول د. فتحي يكن: \"المستوى التربوي في هبوط بسبب اتساع دائرة الهم السياسي والاستغراق في الهموم الحياتية والدنيوية، وبسبب ضعف فاعلية المحاضن التربوية وعدم خضوع \"الكبار\" لها بصورة خاصة، وبذلك تنعدم القدوة ويصبح تفلت من هم في المقدمة والقيادة أشد ممن هم في المؤخرة والقاعدة\" [مجلة المجتمع عدد 1313].
فلا يصح أن نترك التربية من أجل أن نتوسع وننتشر ثم يتفلت من يأتي للعمل لعدم وجود المحاضن التربوية السليمة، ولعدم وضوح الهدف، ولغياب الرؤى الصحيحة، فكم من طاقات في العمل الإسلامي معطلة أو لم يحسن استغلالها، وهي أولى بالرعاية والعناية والنهوض بها لأنها الأقرب لحمل العبء.
يقول د. عصام العريان في معرض حديثه عن دروس من التجربة السودانية: \"إن الحل الوقائي يتم بالأخذ بالمنهج النبوي المتكامل في تغيير النفوس وتزكية الأرواح، وتقوية الروابطة الأخويّة، واستشعار المسؤولية مع التجرد لله - تعالى -\" [مجلة المجتمع العدد 1395].
فلننتبه للحل الوقائي ولنعمل على ترسيخه مع عدم الإفراط أو التقليل من شأن الانتشار حتى لا نتقوقع على أنفسنا بأيدينا.
من هنا نرى أولوية التأصيل والتجذير على الانتشار غير المحسوب.. والله أعلم
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد