كلمات في نقد الذات ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تكلمنا في الحلقة السابقة عن أحد الأدواء المنتشرة بيننا، وهو: الفتنة بالأشخاص، بمعنى ولوع شخص بشخصية رجل آخر إلى حد الفتنة به، بحيث يأخذ منه بلا تمييز، ويقلده بلا تحفظ ويسلم له في كل موقف. وحديثنا اليوم عن نوع من مقابل من الفتنة، وهو الفتنة من الأشخاص، بمعنى: مبالغة إنسان في بغض إنسان آخر من المسلمين حتى يخرجه بهذا البغض من نطاق الولاء الواجب للمسلمين فيعامله معاملة غير المسلمين، هذا مع احتمال أن يكون المبغوض رجلاً فاضلاً، داعية أو عالماً أو مجاهداً ممن أبلوا لدين الله وأوذوا في سبيله، ومع احتمال أن يكون أيضاً ممن لا يتلبسون بشبهة بدعة أو فجور تجرئ عليهم المفتشين عن العيوب.

إنك لن تحتاج إلى جهد كي تستخرج من ذاكرتك أنماطاً من هذا السلوك المعوج الذي يتخلل بين ذواتنا فيفسد ذات بيننا. ذلك السلوك الذي يطيح بمفهوم الحب في الله والبغض في الله، ويهدد سلامة معتقد صاحبه لإخلاله العملي بعقيدة الولاء والبراء.

كم رأينا إنساناً مسلماً يبغض إنساناً مسلماً آخر، أو اتجاهاً أو جماعة أو هيئة بغضاً لا ينبغي إلا لأعداء الله من الكافرين والمحاربين، فترى هذا الإنسان المفتون ببغض أخيه يتحدث عنه بمرارة لا يتحدث بها عن اليهود والنصارى، إنه مفتون بكره مخالِفِه في الفكر أو المنهج أو الاتجاه فتنة أربكت تفكيره، وأفقدته توازنه، واضطربت بسببها عواطفه، بل وغيبت في كثير من الأحيان عقله، حتى لقد تراه يتعمد الكذب من أجل تشويه صورة مبغضه، ويستحل بعض المحرمات من الغيبة والنميمة والوشاية من أجل الإضرار به، ويتمنى أن يتشهى برؤيته في مصاب أو معاينته في ابتلاء أو عقاب.

ولم يدر هذا المسكين المفتون ببغض بعض المسلمين، أنه قد أساء إلى نفسه قبل غيره، عندما تورط في عدد من الموبقات والكبائر والمعاصي القلبية قبل وأثناء وبعد قيامه بالتعبير عن مشاعره الجياشة بالضغائن تجاه إخوانه، فهو يقارف كل يوم عدداً من الكبائر وهو لا يدري مثل الغيبة والنميمة والحقد والحسد والشماتة واحتقار وازدراء المسلم، وتسليمه وخذلانه وعدم نصرته وعدم التعاون معه على البر والتقوى والتعاون ضده بالإثم والعدوان، واقتراف الكذب أو الخيانة أو التجسس أو التلصص أو التحسس، إلى غير ذلك من هذه المسالك الوعرة التي يسير فيها من يرضى لنفسه أن يقع فريسة الفتنة من الأشخاص.

ولسنا نبالغ عندما نقول أن بين صفوفنا عدداً لا بأس به من هؤلاء المفتونين نعاين أفعالهم ونسمع أقوالهم ونشتكي إلى الله من أحوالهم.

- ألم تر يوماً رجلاً مسلماً يسعى بالوشاية ضد مسلم عند الطغاة الظالمين لا لشيء إلا لأنه يبغضه؟! أو يختلف معه في الفكر أو المنهج؟.

- ألم تسمع يوماً عبارات بعض المفتونين من قبيل قولهم: (فلان شر من إبليس)..! (الجماعة الفلانية أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى)!!.. (ما نكب الإسلام إلا بمثل فلان وأتباعه)..؟!!

- ألم تقابل يوماً من يقول لك: احذر من فلان، وكن محتاطاً من فلان وتأمل أقوال فلان فإنه مغرض، وتحركات فلان فإنه غامض... واختبر عقيدة فلان فإنه جهمي أو أشعري أو معتزلي أو... أو...؟!

نعم نرى هذه النماذج ونعايش بعضاً من تلك الأنماط، وعلى الصف الإسلامي أن يطهر نفسه أولاً بأول من هذا الداء وهذا الوباء، فلا يسمع لهؤلاء أو يسمح لهم بأن يمارسوا هواية فتنة النفس والغير في كل مكان. فلنرد الغيبة ولنصحح المعلومة، ولنحسن الظن، ولنتق الله في القول، ولنرشد وننصح أو نزجر ونقوم، فما من داء إلا أنزل الله له دواء، وأدواء المفتونين علاجها في كتاب الله لمن أراد الشفاء. قال - تعالى -: ((وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً)) [الإسراء/82].

 

فمن أدوية القرآن وشفائه لما في الصدور:

ما جاء في سورة الحجرات من هدي قرآني أخلاقي:

- ((إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم)).

- ((لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم)).

- ((ولا تلمزوا أنفسكم)).

- ((ولا تنابزوا بالألقاب)).

- ((اجتنبوا كثيراً من الظن)).

- ((إن بعض الظن إثم)).

- ((ولا تجسسوا)).

- ((ولا يغتب بعضكم بعضاً)).

- ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم)).

إنها أدوية في متناول الجميع، فلنداو قلوبنا بها، فما أيسر مأخذها وما ألطف أثرها، وما أعظم ثوابها لمن كان صادقاً، فلنكن صادقين في ولائنا لله ولرسوله وللمؤمنين، ولنتراحم حتى يرحمنا الله، ولنتق الله، فإن تقوى الله إصلاح ذات البين. قال - تعالى -: ((فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)) [الأنفال/1]، إن بعض الناس يظنون أن تقوى الله يكفي فيها إطالة الصلاة أو إدامة الصيام أو كثرة الذكر، أو التظاهر ببعض المستحبات وتقديمها على الواجبات، التي منها كف الأذى وبذل الندى وإحسان القول والفعل للناس. فالتقوى الصادقة لابد أن يقترن معها حسن الخلق. يقول ابن القيم - رحمه الله -: \"طالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيرة وطلبه إلا بحبسين: حبس قلبه في طلبه ومطلوبه، وحبسه عن الالتفات إلى غيره وحبس لسانه عما لا يفيد\". ويقول: \"جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين تقوى الله وحسن الخلق، لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه: فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته\". [1]

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply