1- بين يدي الموضوع:
يتطلع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربـها إلى ذلك اليوم الذي يعز فيه جنده بالتمكين والإيواء ويخذل أعداءه بالدحر وكسر الشوكة، فيتفيأ الناس في ظلال حكم قائم على المنهج الرباني لا سيادة ولا فضل فيه لأحد إلا على أساس معيار التقوى، ولا غلبة أو قهر يمارسه أحد مهما علا منصبه أو نسبه وحسبه، بل الكل سواء لأنـهم عبيد لقيوم السماوات والأرض.
بينما المسلمون على هذه الحال من انشداد الأفئدة واشرئباب الأعناق ظهرت فيهم حركات تنشد التغيير الذي يتطلعون له من خلال الشعارات التي يرفعونـها، فاستبشر الناس خيراً وعادت لهم بارقة الأمل التي كادت تخبو في زمن الهزائم المرة، وأضحى حديث الناس العودة للخلافة، ودولة الإسلام، والاحتكام إلى شرع الله وغيرها من اللافتات التي تمثل مكسباً في حد ذاته حتى وإن لم يتجسد على أرض الواقع، لأن الهجمة التي تعرض لها المسلمون عبر القرون أريد منها محو مثل هذه المفاهيم من الأفئدة والصدور.
غير أن الذي يتتبع مسيرة هذه الحركات على اختلاف مشاربـها ومناهجها يدرك بأن أخطاء قاتلة قد ارتكبت، رغم الإيجابيات العديدة التي لا ينكرها إلا جاحد معاند، مما جعل المسيرة تتقدم خطوة وتتراجع خطوات، بل إن المدقق في السنين الأخيرة يدرك بأن حدوث هذه النكبات أظهر ثغرات كبيرة وولدت محناً وإحناً جعلت العمل الإسلامي يراوح مكانه، بل ويتراجع القهقرى في كثير من الميادين والدول، مما تسبب في أن يصرف كثير من الجهود وأن توجه كثير من السهام إلى داخل الصف لتفت عضده، وتنفر الناس من مسألة العمل الجماعي المنظم الذي لا يمكن تحقيق ما نصبو إليه إلا من خلاله كوسيلة وليس غاية، بدل من أن تصرف تلك الجهود والسهام إلى ما هو أجدى ومن هو أحق.
انطلاقاً من هذا الواقع المر انبرى كاتب هذه السطور لتناول هذا الموضوع - من مواصفات جيل التمكين - وذلك لقناعته من أنه كما أن للنصر أسباباً وسنناً يجب توافرها ومراعاتـها فإن أمر تحقيقه لا يستحقه كل أحد مهما ادعى الانتساب إلى الإسلام الصفي النقي الذي بينه لنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وبلغه لنا صحابته الكرام بكل أمانة واعتزاز أو رفع من شعارات، وإنما يحقق النصر من اتصف بصفات وتحلى بخلال حتى يراها الناس واقعاً يحياه من يدعيها لا يافطة أو شعاراً يرفعه للمزايدة أو التباهي والتسلط على غيره من العاملين بغير حق.
ومما هو جدير بالأخذ في عين الاعتبار في هذا المضمار أن أمر تحقيق التمكين والتحلي بـهذه الصفات إنما هو منة من الله - عز وجل -: [وليتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين]، [ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم]، وكلا النصين جاء في معرض الحديث عن أمر قد يطرأ على الجماعة المسلمة وهو الهزيمة أو الارتداد عن دين الإسلام والعياذ بالله، لكن أمر اكتساب هذه الصفات منوط بأن يكون لدى الذين يسعون إلى تحقيقها إخلاص وصدق في الطلب مع بذل الجهد المطلوب: [والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين]، وهذه مسألة في غاية الدقة والخطورة يجب الانتباه لها وأخذها في الحسبان في كل الأحوال والاعتبارات حتى لا نتعلق بمنة الله دون بذل للجهد، فنظلم تلك المنة، أو نركن إلى الجهد والسعي، تاركين وراءنا ظهرياً أمر الاعتماد واللجأ إلى الله - سبحانه وتعالى-.
أسأل الله أن يهيئ للمسلمين أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية، كما أسأله أن يوفقنا إلى الالتزام بما نقول أو نكتب إنه سميع مجيب. والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
2- التمكين في القرآن الكريم:
عند العودة إلى كتاب الله نجد أن كلمة مكَّن ومشتقاتـها وردت في ما يقرب من (16 آية)، اثنتا عشرة آية منها دار مدلول الكلمة فيها حول المعنى الذي نريدهº وهو أن يجعل الله - سبحانه - الممكن لهم خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم، ولهم تخضع البلاد والعباد، وتصلح في حال تولي المؤمنين[1].
ومن شأن هذا الأمر أن يسمح للممكن لهم أن تكون لهم اليد الطولى وبسط نفوذهم على من يقع تحت إمرتـهم أو إشرافهم، فيستطيعوا من خلال ذلك الموقع فرض أنظمتهم وسن قوانينهم فيسايرهم في ذلك إما طوعاً أو كرهاً من يقع تحت دائرة تأثيرهم.
ومن خلال استعراض الآيات في كتاب الله يتضح هذا الأمر بكل جلاء، ويمكن تقسيم هذا الاستعراض إلى أربعة أقسام:
1 - التمكين لنبي الله يوسف - عليه السلام -، قال - تعالى -: [وكذلك مكنا ليوسف في الأرض][يوسف: 21]، وقال عز من قائل: [وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين][يوسف: 56]. تمكين يوسف - عليه السلام - كان في بلاد مصر، كما ذكر ذلك ابن كثير - رحمه الله -.
2 - التمكين لذي القرنين، قال - تعالى -: [ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً، إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً][الكهف: 84]، وقال - سبحانه -: [قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً][الكهف: 95]. قال ابن كثير: أي أعطيناه ملكاً عظيماً متمكناً فيه، له من جميع ما يؤتى الملوك، من التمكين والجنود، وآلات الحرب والحصاراتº ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم.
3 - التمكين للذين كفروا، نذكر منه على سبيل المثال بعض الآيات، قال - سبحانه وتعالى- في سورة الأعراف، الآية العاشرة بعد أن أقسم - جل وعلا - أنه سيسأل المرسلين والأقوام الذين أرسلوا فيهم: [ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون]، وقال في سورة الأنعام [6]: [ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنـهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبـهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين]، وقال - سبحانه - في سورة القصص [57]: [وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء]، وغير ذلك من الآيات.
4 - التمكين للمؤمنين أو الوعد لهم بذلك، قال - سبحانه - عن أصحاب موسى - عليه السلام -: [وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربـها][الأعراف: 137]، وقال في سورة القصص [5 - 6]: [ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونُمكن لهم في الأرض]وقال لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - والذين يأتون من بعدهم: [وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأمر كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً][النور: 55]، قال ابن كثير: \"هذا وعد من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي: أئمة الناس، والولاة عليهم، وبـهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد\". وقال في سورة الحج [41]: [الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونـهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور].
هذه معظم المواطن التي وردت فيها كلمة مكَّن ومشتقاتـها وتلك هي معانيها وكلها تدور، كما ذكرنا سابقاً، حول إمامة الناس والتولي عليهم وإخضاعهم لسلطة ونفوذ الأقوام الممكن لهم. ولنا كلمة أو وقفة حول الوعد بالتمكين للمؤمنين حيث أنه عند استعراض الآيات التي يتعلق أمر التمكين فيها للمؤمنين نجد أن الله يتحدث على ما بعد التمكين وما يجب أن يكون عليه أمر الفئة المُمَكَّن لها، وهو الأمر الخطير، وذلك لأن النفوس في حال النصر والتمكين والظفر برقاب الناس قد يخالط سويداء قلوبـها ما يجعلها تتكبر على الخلق وتنتقم منهم، فاقتضى المقام التنبيه على ذلك، كما قال موسى - عليه السلام - لقومه المستضعفين: [عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون]، وتذكير المؤمنين أن تمكينهم يختلف عن تمكين غيرهم، فهم يمثلون مبدأ ورسالة سماوية وليس منهجاً أرضياً، وهم فوق ذلك مؤتمنون عليها، فهذا الذي ائتمنهم - وهو الله جل جلاله - يقول لهم: هذا هو الحال الذي أطلب منكم أن تكونوا عليه عند حصول التمكين لكم.
ونحن نتطلع إلى ذلك اليوم الذي يعز الله فيه الإسلام وجنده، ويخذل الشرك وأهله، يجب علينا أن نضع هذه المعاني نصب أعيننا حتى نزيل العوائق التي تحول بين هذا الواقع المشرق المضيء وبين واقع الذل والهوان الذي نتجرع كؤوسه كل يوم.
3 - بين الوعد والتهديد:
وعد الله الذين آمنوا بالنصر والتمكين ثم الظفر بأعدائهم في آيات كثيرة من كتابه العزيز، والله لا يخلف وعده، فإذا ما تخلف هذا الوعد وتأخر فعلى المؤمنين أن يراجعوا مسيرتـهم وأن يتهموا أنفسهم ليكتشفوا المثالب والأخطاء التي وقعوا فيها حتى يتجنبوها، ويجب عليهم أن يقتلعوها من جذورها حتى لا تألفها النفوس وتعتاد على العيش في مستنقعها الآسن كما هو واقعنا اليوم فإلى الله المشتكى.
فالحق جل في علاه يقول: [إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد]، [وكان حقاً علينا نصر المؤمنين]، [والعاقبة للمتقين]، [واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره]، [وأخرى تحبونـها نصر من الله وفتح قريب]، وغير ذلك مما هو مبسوط في كتاب الله، أو مبين في سنة رسوله - عليه السلام -.
هذا الرب الرحيم الودود الذي قطع على نفسه هذا الوعد، هو الذي هدد من يتقاعس أو يتوانى أو يرتد عن نصرة هذا الدين بالاستبدال في حال الإقدام على هذه الأمور الذميمة.
فقال في سورة المائدة [54]: [يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم].
وقال في سورة التوبة: [قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تحشون كسادها ومساكن ترضونـها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين]، وقال: [يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله إثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً، والله على كل شيء قدير].
وقال في آخر سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -: [ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم]قال القرطبي: \"أي في الجهاد وطرق الخير\".
وبالعودة إلى أسباب النـزول وبعض ما تضمنته هذه الآيات من أحكام نستخلص ما يلي:
1 - ذكر المفسرون عند آيات سورة المائدة بعض الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين ما سيقع في هذه الأمة من ارتداد بعض الطوائف عن الإسلام، وذلك لأن هذه الآية كانت من أواخر ما نزل في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القرآن. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حول هذه الآية وما قبلها في سورة المائدة: \"فالمخاطبون بالنهي عن موالاة اليهود والنصارى هم المخاطبون بآية الردة، ومعلوم أن هذا يتناول جميع قرون الأمة، وهو - سبحانه - لما نـهى عن موالاة الكفار، وبين أن من تولاهم من المخاطبين فإنه منهمº بين أن من تولاهم وارتد عن دين الإسلام لا يضر الإسلام شيئاً، بل سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، فيتولون المؤمنين دون الكفار، ويجاهدون في سبيل اللهº لا يخافون لومة لائم - إلى أن قال - فهؤلاء الذين لم يدخلوا في الإسلام، وأولئك الذين خرجوا منه بعد الدخول فيهº لا يضرون الإسلام شيئاً، بل يقيم الله من يؤمن بما جاء به رسوله وينصر دينه إلى قيام الساعة\" [من وسائل دفع الغربة، ص 63 - 64].
2 - آيات سورة التوبة، جاءت عقب النهي عن موالاة الآباء والإخوة الكفار وختم ذلك بقوله: [والله لا يهدي القوم الفاسقين]، يقول الألوسي - رحمه الله -: \"أي الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين وتقديم محبة من ذكر على محبة الله - عز وجل - ورسوله... \" اهـ.
3 - [يستبدل قوماً غيركم]، \"وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيد والتشديد في التهديد بالدلالة على المغايرة الوصفية والذاتية المستلزمة للاستئصال، أي قوماً مطيعين، مؤثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامكم وهم أبناء فارس كما قال سعيد بن جبير، أو أهل اليمن، كما روي عن أبي روق، أو ما يعم الفريقين كما اختاره بعض المحققين\" [نفس المرجع: ص 133].
4 - آية التوبة: [يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير]، قال ابن عطية: \"ولا اختلاف بين العلماء في أن هذه الآية نزلت عتاباً على تخلف من تخلف عن غزوة تبوك... \" اهـ.
يتبين من خلال الجمع بين هذه النصوصº نصوص الوعد ونصوص التهديد أن أمر التمكين والظفر بالأعداء لا يستحقه كل من انضوى تحت مسمى الإيمان وهو مع ذلك راكد لا تـهز كيانه ولا تحرك مشاعره ووجدانه نداءات الوحي ومتطلبات الإيمان. كلا، إن هذا الأمر لا يستحقه إلا من تخلى عن الصفات الذميمة التي ذكرها الله في معرض التهديد، واتصف بالصفات الإيجابية التي ذكرت في تلك الآيات أو في غيرها، وسنتناول أخي الكريم في مناسبات قادمة إن شاء الله بياناً تفصيلياً، بما يسمح به المقام، لبعض تلك الصفات التي نسأل الله أن يوفقنا لامتثالها في حياتنا وفي أنفسنا حتى يغير الله ما بنا من واقع الذل والهوان
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد