حاجة الأمة إلى الوحدة والتواصي


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله الواحدِ الخلاّق، أمرَنا بالتّآلفِ والوِفاق، ونَهَانا عن سُبُل التفرّق والشّقاق، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً تَملأ النفوسَ مِن الخشيةِ والإشفاق، وأصلّي وأسلّم على نبيّنا محمّد بن عبد الله صلاةً وسلامًا تامّين كاملين ما تعاقب أُفول وإشراق، وعلى آله وصحبِه أئمّة الهدَى باتّفاق، ومَن تبِعهم بإحسانٍ, إلى يومِ التّلاق.

أمّا بعد: فأوصيكم - عبادَ الله - ونفسِي بتقوَى اللهِ - عز وجل -، فإنّ التّقوَى هي الحَبلُ الأقوَى للفوزِ بجنّة المَأوَى، تربِط على القلوب ساعةَ الفتَن، وتُنير الدروبَ أوقاتَ الأزَمَات والمِحَن. مَن غمرتِ التّقوى قلبَه سلِمت طويّتُه من الضّغَن، وهُدِي إلى خيرِ سبيلٍ, وأقوَم سَنَن.

 

أيّها المسلمون، لا يجِد النّاظر في تاريخ أمّتِنا عنَاءً في الوقوفِ على تميٌّز حضارتها وتحقٌّق قيادتِها وسيادتِها وريادتِها على العالَم بأسرِه رَدحًا من الدّهر وأحقابًا من الزمان، ومَردٌّ تلك الغَلَبة وهذا العلُوّ إلى الاعتصامِ بالوحيَين الشّريفَين ولزومِ قاعدةِ الوَحدة والائتلاف ونَبذ الفُرقة والاختلاف، تحقيقًا لقوله - سبحانه -: \" إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون \" {الأنبياء: 92}.

كما لا يلقَى المتأمّل في وضعها الراهِن عَناء في القولِ: إنّ أمّتَنا أظلّها زمان حالِكٌ بالغوائِل والمدلهمّات، تتناوشها نِصال أعداءٍ, ألِدّاء، وترمُقُها مُقًلٌ حاسِدة وأحداق حاقِدة أضمَرَتِ الكيدَ والعداء، مع ما تعانيه من شتاتٍ, ذاتيّ ونفورٍ, داخليّ وصراعٍ, بينيّ وفهمٍ, آحاديّ لكثير من القضايا وطُفُوِّ أفكار منحَرفة هدّامة وظهورِ فئامٍ, مرقت عن صفِّ الملّة والجماعة، فلم يزد ذلك في جسَد الأمّة إلاّ أوصابًا وتَفريقًا وجروحًا وتمزيقًا.

ولله - سبحانه - في ذلك كلِّه الحكمة البالغةُ كما قال - سبحانه -: \" ونبلوكم بالشر والخير فتنة \"{الأنبياء: 35}. وكم للمِحن والأزماتِ مِن شأنٍ, عريض في صقل الأمَم ورُقيِّها، ولكن كلّ يومٍ, يمضي من حياةِ الأمّة لا تشخِّص فيه عِللَها ولا تأخذ فيه بأسبابِ النهوض من كبوتها لَيؤخِّرها أمدًا بعيدًا ويزيدُ من تمكٌّن اليأس والقنوطِ لدى كثيرٍ, من الشرائح والأوساط في جَدوَى تماثُلها للشّفاء واستئنافِ تسنٌّمها لذُرَي العلياء.

أمّة الإسلام، وتِلك وقفة تذكيرٍ, لتثبيتِ أهمِّ المعالم على جَنَبات طريقِ النّهضة الواعِية التي ينبغِي أن ينتهِجَها أهلُ الحقّ، بيانًا للآسي وتذكرةً للنّاسي وتعليمًا للجاهِل وتنبيهًا للذّاهل وإسهامًا في لمِّ الشتاتِ وذمّ الفُرقة والانبتات.

إخوةَ الإيمان، إنّ شريعتَنا الغّراءَ قصَدت إلى الألفةِ والوِفاق، ونأت عن مسالِكِ التّنازع والشّقاق والافتراق، ونادَت بالمحبّة والإخاء، وحَضّت على التّسامُح والتّراحُم والتّناصُر والتّلاحُم، سيما بين أهلِ الحقّ، أهلِ المشرَب الواحدِ والمنهَج الواحد، والكتابُ والسنّة زاخران بالبراهين المشرِقةِ على تلك الصفاتِ المتَوهِّجة بكلّ معاني الغاياتِ السامِية.

يقول - سبحانه -: \" واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا \"{آل عمران: 103}، وفي ذلك امتنانٌ بتغيِير الحالِ المتشتِّت الشّنيع إلى الحالِ المنتَظِم البَديع.

ومِن مشكاةِ النبوّة وإشراقاتِها قولُه - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه البخاريّ ومسلم: \"إنّ مِن أحبِّكم إليّ وأقربِكم منّي مجلسًا يومَ القيامة أحاسِنَكم أخلاقًا، الموطّئون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤلفون\".

أمّة القرآن والسّنّة، مَن كتمَ داءَه أسهَده وأضنَاه وأضجَره وعنّاه، وإنّ من الأدواء التي ينبغِي أن تُشخَّصَ في عُنفوان الأسَى واللّوعةِ ما هو كائنٌ مِن وَحشة وتنافُر وجفاءٍ, وتدابُر بلغ حدَّ التجريحِ والتّحذير والتسفيهِ والتّشهير مِن قِبَل أهلِ الملّة بَعضِهم بعضًا، ممّن سلكَ سبيلَ الحقّ عقيدةً وعبادة وسلوكًا، وممّن ينتسِبون إلى الخيرِ والدّعوة والغيرةِ على الحُرُمات، الحريصين على سلامةِ الأمّة من التعثٌّر والانزلاق، الوَجِلين على وَحدة الصّفّ مِن التصدٌّع والانشقاق. وإنّ مِن المصائبِ الفادِحَة أن يتطاولَ بعض أهلِ الملّة الواحدةِ على مقاماتِ إخوانِهم مِن العلماءِ الأجلاّء والدّعاة النٌّبَلاء، حطًّا مِن أقدارهم ووقيعةً في أعراضِهم وإيضاعًا خِلالَهم ونزعًا للثقة والمرجعيّة منهم.

وإنّ الرّزِيّة لتعظُم حين يكون ذلك على قصدِ الازدِراء والتّعيير والثَّلبِ والتّشهير عبرَ قنواتٍ, سيّارة من صُحفٍ, ومجلات وفضائيّات وشبكاتِ معلومات، يقول - صلى الله عليه وسلم - محذِّرًا ومتوعِّدًا: \"يا معشرَ مَن آمن بلسانِه ولم يدخلِ الإيمان قلبَه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتّبعوا عَوراتِهم، فإنّه من تتبّع عوراتِهم تتبّع الله عورتَه، ومن تتبّع الله عورتَه فضحه ولَو في جوفِ بيتِه\" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذيّ، وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: \"الوقيعةُ في أهلِ العِلم - ولا سيّما أكابرهم - مِن كبائِر الذنوب\"، وقال مالك بن دينار: \"كفى بالمرءِ شرًّا أن لا يكونَ صالحًا وهو يقَع في الصالحين\".

فما بال أقوامٍ, مِن أهلِ الملّة الواحِدة - هداهم الله - من تكون غايةُ دنياه وأكبرُ همِّه ومُناه تتبّعَ العثراتِ وتصيٌّدَ الزّلاّت والنّفخَ في الهِنَاتِ الهَيِّنات والتشهيرَ بها عبرَ المجالس والمنتديات؟! لا يفتؤون هَمزًا، ولا ينفَكّون لمزًا، ولا يبرَحونَ غمزًا. يطعَنون إخوانَهم فِي الخواصِر، ويصوِّبونَ سهامَهم تلقاءَ القفى. إذا رَأَوك في نعمةٍ, حسَدوك، وإن توارَيتَ عنهم اغتابوك.

إن يسمَعوا هَفوةً طاروا بِها فرحًا وما علِموا مِن صالحٍ, كتَموا يعمَلون ليلَ نهارَ على الحطّ من الأقدار والنيلِ من الكفاءات، يتحرّكون كالخفافيشِ في الظّلام، ويعمَلون خلفَ الكواليس، تنكّرت منهم الوجوه والقسمات، وتغيّرتِ البَسَمات، واصفرّت السٌّبُحات. في الرّخاءِ أحبّة أخلاّء، وفي الشّدّة أعداءٌ ألدّاء، يستوي في ذلك الأقرباءُ والأصفِياء. لا يلتمِسون المعاذير، ويسعَون لإسقاطِ أهلِ الفضلِ والمشاهير، يبثّون عنهم الشائِعات، ويختلقون ضدَّهم الوِشايات، فسبحانَ ربّيَ العظيم، ألا يخافون الله ربَّ العالمين؟! إلى الله المشتَكى، ولا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بالله العليِّ العظيم.

بل يتحرّونَ لذلك بعضَ المواقِع العنكبوتيّة، بل سَمِّها الثعبانيّة الفتّاكة، زاعِمين بيانَ الحقِّ والإصلاح، والواقعُ أنّهم مثلُ الذّباب يراعِي موضعَ العِلَل.

وعلى إِثرِ تلك الأوهامِ والهفواتِ التي تقبَل التأويلَ والاغتفار في غَزيرِ الحَسَنات يكون الولاء والبراء والهجرُ والجفاء والوُدّ والعداء، عبرَ التصنيف والتعصٌّب والتحيٌّز والتحزّب. ويُشغَل بذلك طلبةُ العلمِ المبتدِئون والمثقّفون والمصلِحون بلهَ العوامّ، ويتلقّفُها في كلّ الأصقاعِ الشانِئون والمغرِضون، وتهدَر ملكاتٌ وأوقات بين رادٍّ, ومردودٍ, عليه، وتُعقَد المجالس فريًا في الأعراضِ بكلماتٍ, جارِحة وعِبارات مسفّة قاسيَةٍ, وقذائفَ كأنّها شواظٌ من نار، تشِي بسوءِ الدِّخلةِ والمأرب، ضاربةً بعفّةِ اللّسان نزاهةَ النفسِ كلَّ مضرَب، كان الأولى فيها صرفَها شطرَ الفِرق المنحرِفة المناوِئة لأهلِ الإسلام الساعيَةِ في تقويضِ أمنِها وخَلخَلة صفِّها، وإنّي أعيذ الأصفياءَ وطلاّبَ الخير وشداتَه أن يتشبّهوا بصِفةِ فرقةٍ, ضالّة حذّرنا منها المعصومُ فيما أخرَجَه أحمد والشّيخان: \"قومٌ يقرؤون القرآنَ، لا يجاوِز حناجرَهم، يمرقون من الإسلامِ كما يمرُق السّهم مِن الرميّة، يقتلون أهلَ الإسلام ويَدَعون أهلَ الأوثان\".

ومِن الوَمَضات اللّطيفةِ للقاضِي إياس بنِ معاوية الذي صارَ مثلاً في الفِطنة والذّكاء ما أوردَه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عن سفيان بن حسين قال: ذكرتُ رجلاً بسوءٍ, عندَ إياس بن معاوية، فنظر في وجهي وقال: أغزوتَ الروم؟! قلت: لا، قال: السّندَ والهِند والتّرك؟! قلتُ: لا، قال: أفسَلِم منك الرومُ والسّند والهِندُ والتّرك ولم يسلَم منك أخوك المسلم؟! قال: فلم أعُد بعدَها أبدًا. وقال ابن سيرين - رحمه الله -: \"ظلمُك لأخيكَ أن تَذكرَ مِنه أسوأَ ما تعلَم وتكتُمَ خيرَه\". وقال ابن المبارَك: \"المؤمن يلتمِس المعاذيرَ، والمنافِق يتتبّع الزّلاّت\". وقال آخر: \"المسلم يستُر وينصَح، والمنافِق يهتِك ويفضَح\". هذا في حقّ آحادِ المسلمين وعوامّهم، فكيفَ إذا كان مِن أنصار السنة ودعاتها أهلِ العِلم والفضل والخير والسّبق والدعوةِ وقضى سَحابةَ عمره عالمًا محقّقًا أو داعيًا متألّقًا أو كان مِن ذوي الهيئات والمروآت؟! فإنّ إمساكَ اللّسان عنهم وصونَهم عن الرَّشَق والتوهين آكدُ وأوجب، وفي سَتر الزّلّة وسدِّ البادِرةِ والخَلّة ما وَرَد عن عمَر - رضي الله عنه - أنّه قال: (لا تَظنّنّ بكلمةٍ, صدَرَت من أخيكَ سوءًا وأنتَ تجِد لها في الخير محمَلاً). وعن سعيد بنِ المسيّب - رحمه الله - قال: \"ليسَ مِن عالمٍ, ولا شريف ولا ذي فضلٍ, إلاّ وفيه عَيب، ولكن مَن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه ذهبَ نقصُه لفضلِه\".

ومِن الكلام الذهبيّ للإمام الذهبيّ في ترجمةِ الحافظ محمد بن نصرٍ, قوله - رحمه الله -: \"ولو أنّا كلّما أخطأ إمامٌ في اجتهادِه في آحادِ المسائِل خطأً مغفورًا له قُمنا عليه وبدّعناه وهجَرناه لمَا سلِم معنَا ابن نصرٍ, ولا ابن مَنده، ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادِي الخَلق إلى الحقّ، وهو أرحمُ الرّاحمين، فنعوذ بالله من الهوَى والفَظاظة\".

وهُنا صرخةُ تحذير وتنبيهٍ, وتنذير لأهلِ الإسلام أن كفانا جفاءً واختِلافًا، وحيّهلاً اعتِصامًا وتجرٌّدًا وائتلافًا، ماذا دَهَانا؟! عجيبٌ أمرُنا ذا الزّمانا،

مرادُ النّفوس أعلى مِن أن نتعادَى فيه أو نتفانَى لوسائلِ الإعلام المؤتَمَنة على الأفكار والأقلامِ أن تتّقيَ الله في صِدق الكلمةِ وانتقاء النشر وعُمق الطّرح، فليسَ كلّ مَن خطّ سوادًا في بياض نُشِر له، فوضَعَ وخبَّ في أعراضِ الفضلاء والعُلماء والنّبلاء، وليس هو مِن طرازِهم ولا مِن علمِهم في قبيلٍ, ولا دبير، حتّى غدَا الثّلب والسّلب مَركبًا وطيئًا وسَابلةً لمن تعرِف وتُنكِر.

ألا كلاّ ثمّ كلاّ للتّعقٌّبات والرّدودِ الرّعناء التي تثيرُ كوامنَ النّفوس والشّحناء، وتورِي زِنادَ الكوامِن والبغضاء، ورحِم الله امرأً عرَف قدرَ العلماءِ وقدرَ نفسِه، وتابَ ممّا خطَّته يده في طِرسِه، وليَكِل شأنَ النّقد والتّقويم إلى مَن رسَخت في العِلم أقدامُهم، وأتقَنوا ضوابطَ النّقد والحِوار، وقاموا على آدابِ الخلافِ وقواعدِه خيرَ قِيام، وهَل يملِك ميزانَ الاعتدالِ في نقدِ المنهَج والرّجال إلاّ العلماء الأفذاذُ الذين تُنَاخُ بعِلمِهم الرّحال وتُحدَى بهم المطايا والآمال؟! يقول الإمام الذهبيّ: \"الكلامُ في العلماءِ مفتقِر إلى العدلِ والورَع\"، ألا ما أحوجَه في زمنِنا هذا إلى لجانٍ, متخصِّصةٍ, وهيئاتٍ, عاليَة.

أيّها المسلمون، إنّ السّاحة العلميّة والحلائبَ الدعويّة والمجالسَ والمنتدياتِ المعرفيّة والحواريّة ووَحدةَ الأمة المفكّكة لا يزالان في ظَمَأ هائلٍ, لترسيخِ حقائقِ التآخي الوَريف والتناصُح الشفيف المرتكزَين على الصّدق والإنصافِ والتواضُع والحِرص على إظهارِ الحقِّ دونَ زُخرفٍ, في القول مموَّه، أو باطنٍ, بالحسَد مشوَّه، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى {المائدة: 8}.

ومِن الرّوائعِ الكثيرةِ في أدَب أسلافِنا عندَ الاختلاف وحِفاظِهم على المودّة والصّفاءِ والإذعان للحقّ حيث استبانَ ما أوردَه الذهبيّ عن الحافظِ أبي موسَى الصّدَفي أنّه قال: ما رأيتُ أعقلَ من الشافعيّ، ناظرتُه يومًا في مسألةٍ, ثمّ افترقنا، ولقيَني فأخذَ بيدي - تأمّلوا يا رَعاكم الله، ألا ما أزكاه مِن أدَب - ثمّ قال: يا أبَا موسى، ألا يستقيمُ أن نكونَ إخوانًا وإن لم نتّفِق في مسألة؟!، علّق الذهبيّ قائلاً: \"هذا يدلّ على كمالِ عَقلِ هذا الإمام وفِقهِ نفسِه، فما زال النُظراء يختَلفون\" انتهى كلامه - رحمه الله -.

ألا مَا أحوجَنا إلى مثلِ هذه الأفهامِ والعقول، وذاك السّمت والهَدي، وتلك المنهجيّة والإصابة، لا كثرة الهَذر والاسترسالِ في الطّعون، وليسَ العهد ببعيدٍ, عن سيرةِ أئمّتنا وعلمائِنا، رحِمَ الله أمواتَهم ووفّق أحيَاءَهم.

فيا أهلَ السنّة الميامين، حنَانيكم ببعضكم حنانَيكم، ولُطفًا لطفًا بإخوانِكم، ورِفقًا رِفقًا بالعلماءِ والدّعاة وأهلِ الخيرِ والصّلاح والإصلاح، والقصدَ القصدَ تبلُغوا، فإنّ المنبتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظَهرًا أبقى. ورحِم الله امرَأ أنصَف من نفسِه فبادر باتّهامها، وأنصف إخوانَه فحفِظ ودَّهم، وأحبَّ الخيرَ والإصابةَ لَهم، ولم يُعنِ الشيطانَ عليهم.

إنّ مِن النّبلِ والشّجاعة مواجهةَ إخوانِك بأخطائِهم إن حَصَلت، وإنّ من اللّؤم والخِسّةِ والدّناءةِ الطّعونَ الخلفيّة وبثَّ الكوامنِ النفسيّة وتغليبَ النظراتِ الحزبيّة والاحتكامَ إليها في تقويمِ أهلِ الفضل، فلا يعرِف الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلاّ ذووه، وليَكُن ملءَ دواخِلِكم وشغلَ جوارِحِكم قولُ الحقّ - سبحانه -: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم {الفتح: 29}.

وحيّهلاً بالنّقدِ العلميّ البنّاء والحوارِ المؤصَّل النّزيه، ولكن مِن المؤهَّلين والأكفَاء، حوارٍ, هادف ونصحٍ, بنّاء، تحفّه مشاعِر الودّ وترِفٌّه نسائمُ الإنصاف، قد خلِيَ من الهوَى والعصبيّة، وعَريَ عن التّصنيف والحزبيّة، وساعتئذ ستكتالُ لكم أمّتُكم جزيلَ الدعاءِ والثّناء، والله وحدَه المستعان، وهو القائل - سبحانه -: \" فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض \" {الرعد: 17}.

بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعَني بما فيهما من الآياتِ والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولوالديَّ ووالدِيكم ولجميعِ المسلمين والمسلمات، من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التوّاب الرحيم. فاتّقوا اللهَ عبادَ الله، وليكُن مِنكم بحسبانٍ, لا يَريب أنّ أمّتَكم الإسلاميّة لفي أشَدّ ما تكون حاجةً إلى التّواصي بالحقّ والتجرٌّد والتّوافُر على الكلِمةِ الطيّبة البنّاءة التي تشعّ منها الخشيَة والتقوَى وإحسانُ الظنّ بالبُرآء الأتقياء والالتفاف حولَ الولاةِ والعلماء وتأكيدُ المواثيق والعُرى في عَميق مصداقيّتهم ومَكينِ مرجعيّتهم، مع الترصٌّد صفًّا واحدًا كالبنيَان المرصوص ضدَّ التيّارات الجارِفة والأفكار المسمومَة القاتِلة التي لا تَزال عَقابيلها تؤرِّق النفوسَ وتزَعزِع أمنَ المجتمع.

وإنّ من العارِ والحَماقة أن ينشغِلَ الأخ بأخيه والعدوّ يتفرّج من حولِهم، وليس هذا - وايم الله - لخَطَأ إقرارًا أو على باطلٍ, إصرارًا، ولكنّه عين الحكمَة وتحقيقِ المصالح للأمة ودرء المفاسد عنها.

أيّها الأحبّة في الله، علينا جميعًا أن نتنادى - الدعاةُ والعلماء، أهلُ الحِسبة والأدباء، أربابُ الفِكر والأقلامِ والثقافة والإعلام - إلى الشّعور بروحِ الجَسَد الواحد الذي إن اشتَكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجَسَد بالسّهر والحمّى، حمايةً لسفينةِ المجتمع من الإغراق بأيدي أقوامٍ, سفهت أحلامُهم وارتَكَسَت في حَمأة التّبديع التّفسيق والتّكفيرِ أقدامُهم، بل تعدّى الأمر إلى حَمل السّلاح والتّفجير وسَفك الدّماء والتّدمير، فسفينةُ الأمّة كلٌّها لا ترسو إلاّ على جودِيِّ الأمنِ والإيمان في منأًى عن مِطرقةِ الجَهل وسِندان الهَوى.

فَيَا ساهيًا قد غرَّه الجهلُ والهوى ***صريعَ الأماني عمّا قريبٍ, ستندَمُ

أفِق قبلَ أن يأتيَ اليوم الذي ليسَ ***بعده سِوى جنّةٍ, أو حَرِّ نار تضرَمُ

وهيهاتَ أن تجنيَ بعض الأقلام ثَمَرًا يانعًا في علقمِ النّيلِ مِن ثوابِت الأمّة أو التمرّغ في {أوحال} الوقيعةِ برُموزها تحتَ أيّ دعوًى عريضة.

عبادَ الله، الدّعوةُ موجّهة من مِنبر المسجدِ الحرام حِفاظًا على الأمّة وأمنِ المجتمع إلى الفارّين مِن وجهِ العدالةِ والمطلوبين أمنيًّا أن يبادِروا إلى تسليمِ أنفسِهم ليحكمَ فيهم شرعُ الله المطهَّر وحكمُه العادل، وفي ذلك تحقيقُ الخير لهم ولأُسَرِهم ومجتَمَعهم وبلادِهم في العاجِل والآجل، وأيّما مسلمٍ, في كلّ مكان تلقّى ما أنيط به مِن أمانةٍ, ومسؤوليّة بعَزم وصِدق وبصيرةٍ, نافذةٍ, فلن تعجزَه الأوهامُ عن الوصول إلى الحقّ والحقيقة، ولن يثنيَه الديجور عن مواصلةِ طريقِ التقدّم والعبور، والله مِن وراء القصد، وهو الهادِي إلى سواءِ السّبيل.

والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply