أيام تمضي.. وشهور تنقضي.. وأعوام تتساقط من سجلات أعمارنا.. والبعض لا يزال بمكابرته يتبجح.. وبإعراضه يتصنّع.. ولا يدري هؤلاء المساكين أنهم بذلك قد أدخلوا أنفسهم في دوّامة عريضة لا خروج منها إلا بإعادة تأمل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً».. و«لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»..!
عجباً وأي عجب..! قد يكون هذا الجفاء والإعراض نتاج أسباب سخيفة، وخلافات بائدة.. وقد يكون هذا الهجر سببه موقف ما ومضى في وقته.. فلِم يبيع المرء منهم عمره بثمن بخس، حرره بشيك الإعراض، وختمه بتوقيع الهجر، وصُرف للأسف من قبل أقرانهم من مصرف الجفوة والقطيعة..!
والأعجب من ذلك أولئك الذين سمحوا لأنفسهم أن يكونوا زبائن دائمين لبنوك القطعية والجفاء، وهم يقرؤون قوله - صلى الله عليه وسلم -: «تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين فيغفر الله - عز وجل - في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امراً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال اتركوا هذين حتى يصطلحا.. اتركوا هذين حتى يصطلحا».!
يوم جديد يضاف، أو بالأصح يحذف من تقويم عمرنا، وصباح جديد يعلن يقظة الحياة بعد السبات، نسي الأطفال وهم يتناولون إفطارهم ما كان بينهم من شحناء وخصومة في اليوم الماضي.. يتبادلون مع بعضهم الأحاديث المرحة ويلقون بالذي مضى جانباً.. أما الإنسان الكبير فلا يزال يحتفظ بتارخ خصوماته مع إخوانه ويبني المستقبل على أساسها بل ويورثها لبنيه وأهله.. والمصيبة العظمى أن يكون هذا الهجر ليس بين المعارف بل بين الأقارب والخلان وكأن الكل يتعمد تناسي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقرءوا إن شئتم: «فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم»..!
أيها الأخ المتخاصم.. تذكر أن مكابرتك وإعراضك لن تعود عليك بالنفع بل تيقن أن ما زرعته في الأمس من جفوة ستحصده اليوم وغداً وكل يوم إعراضاً ونفوراً وسيئات تضاف إلى سجلك العامر ما لم تضع حداً لهذه المهزلة..! أخي الكريم.. إن عفوك عما مضى من خلافات ومواقف شتى رغبة في الإصلاح بينك وبين خصمك لا يعتبر من بند تقديم التنازلات الذي تحتج به وتحرم نفسك خيراً كثيراً بسببه، بل هو عين العقل، وتذكر أنه ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً..!
ليكن لك السبق أخي في الإصلاح، فما المانع أن تقابل خصمك في الغد بوجه بشوش ونفس راضية وتلقي - عليه السلام -..؟! قد تقول: أخاف أن يكون رده علي عنيفاً.. وأقول: لتكن المبادرة منك.. وليكن العفو ديدنك.. فإن رضي فهنيئاً لكما.. ، وإن أعرض فليتحمل وزره.. ولتضع أمام عينيك دائماً «فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام».
زوروا إن شئتم رياض الأطفال.. انظروا كيف أن المتضاربين في الأمس يتشاركون اليوم في أقلام التلوين.. والمتخاصمين قبل لحظة هاهما يتناولان طعامهما من نفس الطبق.. والمتجادلان قبل برهة هاهما منهمكان في بناء قلعة من الرمال..!
أما الإنسان الكبير فيدقق على كل صغيرة وكبيرة..! والحبة يجعلها قبة كا يقال..! وكل خلاف يستمر معه أياماً وسنين، ويتناسى بجهله أنه عن كل لحظة محاسب، فليسأل نفسه على ماذا؟! على دنيا زائلة.. ومتاع راحل.. وأرض قد بيعت.. وامرأة قد نكحت، وبناية قد هدمت، ومزرعة قد أجدبت، وأوراق قد احترقت..!
هذا الإنسان الكبير المتكبر عن الحق.. لا يُورِّث أهله وبنيه مالاً وعماراً.. بل خصومات متوارثة وخلافات عميقة متشابكة..!
مشكلته أنه لا يعطي لنفسه فرصة أن تتناسى ما علق فيها من أمور.. ولا أن تحاول أن تزيل ما امتلأ فيها من ترسبات.. آلام تملأ نفسه.. جراح تنزف.. يحاول أن يتجاهلها.. أن لا يلقي لها بالاً.. ويتحمل الألم.. ويكابر ويتكئ على الجرح، مع أن بيده العلاج، وما أسهله، للخلاص من هذا النزف وهذه الآلام..!
فليعد إلى وعيه قبل الأوان، لتمتد يده بالعلاج لنفسه أولاً، ولا يحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن يلقى أخاه بوجه طلق، ليعتبر كل خلاف مجرد فقاعة صابون تطير في الهواء ثم لا تلبث أن تتلاشى.. وتختفي..!
هل من صفحة جديدة.. من قلب جديد.. نسي ما كان بالأمس وقبله من خلاف وخصام..؟! أرجو أن تكون المبادرة منك بالسلام والكلام لتتجّنب الملام..!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد