بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال بديهي يطرح نفسه على نحو فلسفي... أخطاء من تقف وراء معاناتنا؟ هل هي أخطاء الصغار أم أخطاء الكبار؟
ونقصد بالكبار كل كبير في كل مجال... سياسي أو اقتصادي أو علمي أو تربوي أو أدبي أو ديني أو فكري أو دعوي أو غير ذلك.
وتأتي الإجابة البدهية أيضاً، لا شك أن أخطاء الكبار هي السبب الأساسي والكبير إذ أن المسؤولية والقرار بأيديهم أما الصغار فمسؤوليتهم صغيرة ولا شك، إذ أنهم لا يملكون تأثيرا ولا سلطة.
ويتولد تساؤل آخر، لماذا لا يتحدث عن أخطاء الكبار؟ بل لماذا لا يتحدث عن الأخطاء ككل حتى تتضح الأمور وتوضع النقاط على الحروف؟
والإجابة على هذا التساؤل طويلة ومتشعبة وهي ما تموج مجتمعاتنا وتضطرب من أجل الوصول إلى حقيقته.
وفي السطور التالية محاولة متواضعة للوصول لفهم أفضل لهذه الحقيقة الغائبة ومحاولة لتسليط الأضواء على جوانب صرفت عنها الأضواء طوعاً أو كرهاً.
إن أول ما يجب إدراكه أن كثيرا مما نعانيه هو تركة ثقيلة انتقلت إلينا عبر أجيال وعلى مدى عشرات السنين وهذا الركام الهائل لا يمكن إصلاحه عبر جيل من الزمن فهو كما نشأ عبر أجيال سيعالج عبر أجيال كما أن بامكاننا أن نتركه كما هو أو نزيده سوءا ونورثه لمن بعدنا... ،حتى يأذن الله في جيل مصلح يضع اللبنات الأولى للعلاج وتستكمله أجيال صالحة من بعده فتختفي هذه العلل من واقعنا وما نحن بصدد الحديث عنه هو من هذا الإرث السقيم الذي انتقل إلينا عبر عشرات السنين ولا بد لنا من وضع الأسس في الجوانب التي لم يتطرق إليها أحد و استكمال العلاج في الجوانب التي بدأ غيرنا في علاجها.
حاولت أن أبحث عن كلمة أخرى غير كلمة (خطأ) لأتحدث عنها لأن كلمة خطأ وأخطاء ومشتقاتها لها حساسية غريبة عند السامعين والأغلب يكرهها ولا يحبها ويزداد هذا الكره في الغالب كلما زادت منزلة الشخص وكبرت منزلته، ووجدت بديلا في كلمة (سلوك يحتاج إلى توجيه) ولكنني عدلت عنها حين وجدت القرآن والسنة يستخدمانها يقول الله - عز وجل -: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا..) ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (كل ابن آدم خطاء...) فرأيت أن ألفاظ القرآن والسنة أولى بالاستعمال والله المستعان.
لقد ربى الإسلام أتباعه في الصدر الأول على نهج غاية في الروعة، فبداية استقر في كل النفوس أن كل مسلم مهما علا شأنه وقدره معرض لأن يخطئ، وأن هذا الخطأ لا يحط من قيمة الإنسان ولا ينقص من قدره إلا في حالات معلومة منها الإصرار وعدم التراجع، وعلى هذا النهج تربى الجيل الأول وهناك آيات كثيرة تحدث فيها القرآن عن أخطاء كبيرة وقعت من الصحابة وأنزل الله فيها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة وقد غفرها الله لأصحابها وعفا عنهم ولكن الآيات ظلت وستظل تتلى إلى يوم القيامة لنتعلم منها أننا مهما كبرنا أو صغرنا فنحن معرضون للزلل وأن الحديث عن الأخطاء ومعالجتها لا يعتبر منقصة أو تهمة مهما كبر صاحبها أو صغر ولو كان الحديث عن أخطاء الكبار يشوه الصورة أو يسبب بلبلة أو يفت في العضد أو يضعف الصف أو غير ذلك من الأعذار والأوهام... لو كان الأمر كذلك لستر القرآن تلك الأخطاء عن الناس ولم تنزل فيها الآيات خاصة وأن الإسلام في بداياته وكل هذه الأعذار التي تذكر اليوم لو كان لها مصداقية لكان أولى تطبيق لها في صدر الإسلام الأول، كما أنه للمرء أن يتساءل: مثل هذه الآيات إذا كانت علاجا لأخطاء أناس عاشوا قبل مئات السنين وقد حطوا رحالهم في الجنة بإذن الله فما الداعي أن تبقى هذه الآيات؟ كان بالإمكان أن تنسخ؟! إن وجود هذه الآيات مهم جدا لحياة الأمة واستمرارها في طريق التواصي بالحق والتواصي بالصبر ونحن بحاجة ماسة لفقه هذا الأمر.
ولابد من التنبيه أن الحديث عن الأخطاء قد ينجرف إلى وجهات أخرى إذا لم يكن بقصد الحق وبيان العدل، ويمكن للعاقل بتوفيق من الله أن يتبين له المقصود من الحديث عن الأخطاء، فإذا كان الأمر حقدا أو تشفيا أو خصومة أو غير ذلك من النقائص تركه ولم يلتفت إليه، وإن كان حقا وبقصد إصلاح الأمور ولا يتناول الأشخاص بل هو منصب على الأعمال والأفكار وما شابهها قبله واستفاد منه وإن كانت نفسه تنفر من قبوله وتأنف من ذلك.
كما أن من المهم أن يكون التركيز على محتوى الكلام وليس على شخصية صاحبه فبعض الناس إذا كان كبير القدر يأنف أن تأتيه النصيحة من شخص أصغر منه سنا أو قدرا أو علما بل ويأنف من أن ينتقد عموما لأنه لم ُينشأ على أنه من الممكن أن يخطئ وإن كان كبيرا ولم ُينشأ على أن يقبل نقدا وبالتالي تنفر نفسه نفورا شديدا من النقدº لأنه لم يألفه ولم يدر بخلده أن ينتقد وهذا من البلايا المنتشرة في كل طوائف المجتمع، ورحم الله الفاروق الكبير القدر والعلم الذي بينت له الخطأ امرأة فأعلنها على الملأ (أصابت امرأة وأخطأ عمر) ولم يأنف ولم يتبرم ولم يلتمس أعذارا ويضرب أخماسا وأسداسا ولم يعنف المرأة ولم ينتقص قدرها ولم ينهرها ولم يهزأ منها ولم يتملص من الموقف بكلمات وعبارات منمقة بل ربى رعيته على ذات المنهج الذي تعلمه من القرآن والسنة.
إن الحديث عن الأخطاء في وضعه الطبيعي له فوائد كبيرة منها ما هو على المستوى القريب ومنها ما هو على المستوى البعيد فعلى المستوى القريب سيقلع صاحبه عنه ويتعظ منه ويستفيد وستأمن الأمة من شرور هذا الخطأ وتبعاته، وعلى المستوى البعيد سيتعظ منه كل من لم يقع فيه وسيظل درسا لكل من أراد الاستفادة منه ويصنع مناعة طبيعية في جسم الأمة يجعل منها أمة قوية وصفا قويا... وغير ذلك من الفوائد الخاصة والعامة.
كما أن ترك الأخطاء دون بيان وعلاج وتصحيح يولد على المستوى البعيد أضرارا لم تكن في الحسبان منها ما نشاهده أمام أعيننا اليوم ومنها ما هو غائب عن الأبصار حاضر وفاعل في الآلام والأسقام التي نعانيها، فما نشاهده اليوم أن الكبار يفعلوا ما يشاؤون دون حسيب ولا رقيبº لأنه لا توجد مراجعة ولا نقد ولا نصح وبالتالي العنان متروك لهم ليفعلوا ما يشاؤون وليكن ما يكون، وقد سبب هذا المسلك للأمة أضرار جسيمة في كل المجالات، وهكذا سيفعل كل شخص َأمِن النقد والمحاسبة والتقويم، كما أن هناك أناس لهم نية حسنة ولا يرغبون في الإضرار بغيرهم ولكن غياب نهج النقد والمحاسبة سيجعلهم يخطؤون وليس من سبيل لمعرفة ما أخطأوا فيه إلا بعد أن تمضي فترة طويلة أو يصعب تدارك ما أخطأوا فيه، وربما أضيف إلى ذلك غياب تجربة سابقة جرى تقويمها ونقدها يمكن أن توفرلهم بصيصا من النور يسترشدون به في مسيرتهم.
إن ترك الأخطاء دون بيان أو علاج مثل ترك الأمراض في الجسم دون علاج فقد يظل الجسم في عافية جزئية ولكن الأمراض ستفتك به شيئا فشيئا حتى تهلكه أو تفسد بعض أجزاءه فيما تظل أجزاء أخرى سليمة، والأخطاء مثل ذلك فتركها سيجعلها تتراكم وتتفاقم ويفضي الخطأ إلى آخر، وقد يتكتم البعض عنها ويضع حولها الحواجز والأسوار وهذا لا يحل المشكلات بقدر ما يزيد المشكلة تعقيدا وصعوبة حيث لايمكن الاهتداء إليها بسهولة لعلاجها تماما مثل الذي يخفي خريطة حقل الألغام خوفا على الناس منها فهو لم يحل المشكلة بقدر ما عقدها وضاعف صعوبة حلها... وهكذا حتى يتسع الخرق على الراقع ولا يعود بالإمكان إصلاح الأمور بسهولة ثم ينتقل هذا الإرث إلى الجيل التالي فإما أن يمرره إلى من بعده كما هو أو يزيده سوءا ويورثه لمن بعده أو يحاول قدر المستطاع أن يصلحه ويبريء الذمة من تبعاته.
ويجب التنبه إلى مجموعة من الأوامر الشرعية تعمل في هذا الجانب ولكنها لا تتعارض معه كما يتوهم البعض، فمنها ستر عورات المؤمنين ومنها أن من كانت له في الإسلام سابقة يحتمل منه الزلل اليسير أو في بعض الأحيان الكبير ومنها أن المؤمن يبحث عن الأعذار والمنافق يبحث عن الزلات... وما شابه ذلك من الأوامر والآداب الإسلامية التي تكمل الأمر الذي نتحدث عنه وهو الحديث عن الأخطاء وعلاجها ولا تتعارض معه أو تلغي عمله، فستر عورات المؤمنين واجب ولكن هذا في الأخطاء التي تحمل صفة الخصوصية وليس وراءها تبعات تلحق بالأمة أو بأناس آخرين وقد ذكر العلماء من شروط التوبة أنها إذا كانت في حق آدمي لزم استحلال صاحبها وما ذاك إلا لأن الأخطاء يتسامح فيها إلا إذا ترتب عليها تبعات على الأمة أو على أفراد من الأمة فإن الأمر عندئذ يختلف. كما أنه ليس من المشروع أن يصبح البحث عن الأخطاء وسيلة للنيل من المسلمين وهتك أعراضهم وطمر حسناتهم وافتراس أعمالهم وتمزيقها كما يفعل بعض من يدعون الإسلام والتمسك بالسنة الذين قننوا لهذا المسلك الشائن واعتبروه من الدين ولفقوا له أدلة من أهوائهم فضلوا وأفسدوا أيما إفساد.
هناك قانون فيزيائي يقول (لكل فعل رد فعل مساوٍ, له في القوة ومضاد له في الاتجاه) هذا القانون يصدق في بعض النواحي الفكرية، فهذه الشريحة المفسدة التي أسست لنهش الأعراض وجعلته تيارا فكريا ينخر في جسم الأمة كانت ردة فعل منحرفة على انحراف سابق وهو التكتم على الأخطاء وعدم الحديث عنها وعلاجها أو تصحيحها وإقامة الأسوار والحواجز حولها.
ويقوم البعض بعرض مسرحيات باسم (النقد الذاتي) بألوان وأشكال مختلفة يتم الإعداد لها جيدا بكلام معسول ومنمق وحجج واهية يسهل التنصل منها والرد عليها، وكل ذلك حتى لا يوجه لهم اتهام بأنهم لا يملكون نقدا ذاتيا أو ليس لديهم مراجعة داخلية وما إلى ذلك، وهناك ألوان من التحايل والالتفاف في هذا الجانب تتفتق عنه مخيلة الكبار حتى لا تسلط الأضواء على أخطائهم وتجاوزاتهم، وبالتالي النقد يكون موجودا صورةً وديكوراً ومكياجاً ولكنه مفقود واقعا.... والخاسر على كل حال العمل والأمة من بعده.
كما يجب ملاحظة أمر وهو أن البعض قد يهتدي إلى أنه لا بد من مواجهة الحقائق والبحث عن الأخطاء ومعالجتها فيفتح الباب على مصراعيه بعد طول تكتم وإغلاق دون تمهيد أو تأسيس لعلاج الأخطاء، فيحدث ما يشبه الصدمة العنيفة أو الزلزال عند الحاضرين أو السامعين من حجم أو كثرة ما ارتكب من أخطاء، ويتولد ما يشبه اليأس عند البعض عند التفكير في علاج هذه الأخطاء وما يحتاجه ذلك من جهود وطاقات وأوقات وهو ما يقصد بالقول المشهور (اتسع الخرق على الراقع) وربما احتد النقاش والأخذ والرد من هول ما حصل وكيفية علاجه وعندئذ يتولد في الغالب خطأ كبير آخر وهو إغلاق هذا الباب مرة أخرى لما حصل من أمور زلزلت العقول والأفكار وخوفا من التصدع والانشقاق، وكل ذلك لأن الأمر الأمر لم ُيعد له بشكل مدروس.
ولو أردنا اليوم أن نعود إلى نفس المنهج الذي سار عليه الصدر الأول فيجب علينا اتخاذ ثلاث خطوات:
الأولى: غرس المفاهيم الصحيحة التي تربى عليها الصدر الأول ومنها أن كل مسلم مهما علا شأنه وقدره معرض لأن يخطيء، وأن هذا الخطأ لا يحط من قيمة الإنسان ولا ينقص من قدره وأن العودة للحق خير من التمادي في الباطل وأن هذه هي طبيعة الإنسان التي جبل عليها، وأن الحديث عن الأخطاء وعلاجها وإن كان مؤلما للبعض وتنفر منه النفوس إلا أنه مفيد جدا للأمة يقيها شرور الأخطاء وتبعاتها ويقوي الصف ويعطيه مناعة ضد الأخطاء، وأن ستر الأخطاء والتكتم عليها فيما يخص الأمة أو أفرادها يزيد من أمراض الأمة ويفتك بها على المستوى البعيد.
الثانية: تصحيح المفاهيم الخاطئة الموجودة في العقول والأذهان مثل أن ستر الأخطاء واجب، ولا يجب الحديث عن الأخطاءº لأنها توغر الصدور أو تفت في العضد أو تحدث بلبلة في الصف أو تشوه صورة المؤسسة أو غير ذلك من التصورات والأوهام التي أوصلتنا إلى هذا المستنقع الآسن.
الثالثة: بعد يتم تحقيق النقطة الأولى والثانية ولابد من ذلك يأتي تطبيق النقطة الثالثة وهي الحديث عن الأخطاء بصراحة وبيان الخلل ومباشرة العلاج وستسلم الأمة من أي مضاعفات يمكن أن تحدث.
أما إن تم الانتقال إلى النقطة الثالثة ولم يتحقق وجود الأولى والثانية فهناك خطورة كبيرة في حصول تصدع وانشقاق بسبب أن طرح الأخطاء دون تأسيس وتمهيد لخطوات الطرح والعلاج سيسبب صدمة وزلزالا وموجة عنيفة يمكن أن تزلزل الصف وتحدث فيه شرخا أو لا يكون هناك فائدة تذكر من الطرح حيث تجد الصلف والإمعان في الخطأ والتمسك بالرأي والنفور من النقد وانتقاص المنتقد والتملص من الخطأ والالتفاف حول النقد وغير ذلك من البلايا وهذا ما يحدث في واقعنا المعاصر والسبب فيها أن التأسيس الصحيح للعلاج لم يحدث فلم يجد العلاج نفعا.
هذا فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان وأستغفر الله منه
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد