ألا تجاهد ؟


  

بسم الله الرحمن الرحيم

تتوق نفوس للجهاد في سبيل الله، وتطير شوقاً إليه،، فتعلّقت بالثريا، وهي تمشي على الثرى، ولكنها رامَت عسيرا، وتمنّت عزيزاً.

تحرّقوا على وضع أمّتهم، غير أنهم اكتفوا من الغَنيمة بالغُنَيمة!

فماذا صنع أصحابها؟

قعدوا خلف الصفوف، فلا هُم بالذين بلغوا مُناهم، ولا هم بالذين مشوا مع القافلة، أو ساروا مع الرّكب.

 

تركوا أبواب الجهاد المشرعة أمامهم، ونظروا إلى أبواب لا سبيل إلى الوصول إليها

 

تناسوا مراتب الجهاد، التي ذكرها ابن القيم في الزّاد

 

فللجهاد ثلاث عشرة مرتبة ذكرها ابن القيم، فقال:

 

الجهاد أربع مراتب:

جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.

 

ثم قال:

فجهاد النفس أربع مراتب:

إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شَقِيت في الدارين.

 

الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

 

الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.

 

الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات. اه.

 

ثم شرع - رحمه الله - في بيان ما يترتب على جهاد النفس، فقال:

 

وأما جهاد الشيطان فمرتبتان:

إحداهما: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.

 

الثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.

 

وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب:

بالقلب واللسان والمال والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.

 

وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب:

الأولى، باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقَلبِه.

 

فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد. و من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق.

 

ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمانº والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة قال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرجُونَ رَحمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

 

وقال أيضا:

وأما جهاد الكفار والمنافقين فقد يُكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد.

وأكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله فإنه كمّل مراتب الجهاد وجاهد في الله حق جهاده وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله - عز وجل -. اه.

 

تركوا هذه المراتب وغيرها

نسُوا أن القيام على شؤون الأرامل والمساكين بمنزلة الجهاد في سبيل الله.

 

قال - عليه الصلاة و السلام -: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار. رواه البخاري ومسلم.

 

وما ذلك إلا لِعِظم هذا الفعل، ولأن هذا العمل مما يتعدّى نفعه.

 

ودُونك يا رعاك الله هذا الباب من أبواب الجهاد قد فُتِح، ألا وهو باب هذه العشر.

التي قال فيها النبي - صلى الله عليه و سلم -: ما العمل في أيامٍ, أفضلُ من العمل في هذا العشر. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهادُ إلا رجل خرج يُخاطر بنفسه ومالِهِ فلم يرجع بشيء. رواه البخاري.

 

فهذا باب من أبواب الجهاد، وهذا عمل لا يعدله الجهاد، إلا في حال واحدة: مَن خرج بنفسه ومالِه فلم ترجع ولا المال.

 

ودونك بابا آخر فُتِح أيضا، وهو الحج المبرور

فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور. رواه البخاري.

 

وباب ثالث غَفَل عنه الكثير، واستهان به كثير

ألا وهو باب قدّمه النبي - صلى الله عليه و سلم - على الجهاد في سبيل الله.

ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: سألت النبي - صلى الله عليه و سلم -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قال: ثم أي؟ قال: ثم برّ الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله.

 

ولا يعني هذا التهوين من شأن الجهاد في سبيل الله، إذ هو ذروة سنام الدّين، ولكني أردت التنبيه والتذكير بهذه الأبواب المُشرَعة المفتوحة، فدونك إياها فاختر ما شئت منها فادخُل، وخذ ما يُناسبك منها واعمل، ولا تكن كالمُنبَتّ لا أرضا قَطَع، ولا ظهراً أبقى!

 

دونك أبواب البر، ومفاتيح الخير، وطُرُق الأجر

فانهض بعزم، وسِر بحزم

ولا تتأخر أو تتقهقر

 

قال ابن الجوزي:

سار القوم ورجعتَ، ووصلوا وانقطعتَ، وذهبوا وبقيتَ، فإن لم تلحقهم شقيتَ.

 

أفلح قوم إذا دعوا وثبوا = لا يحسبون الأخطار إن ركِبوا

سارُون لا يسألون ما فعل = الفجر ولا كيف مالَت الشهب

عوّدهم هجرهم مطالبة = الراحة أن يَظفُروا بما طلبوا

 

أيها المبارَك:

لا تحقرن من المعروف شيئا

لا تحقرن كلمة، فرب كلمة أدخلت الجنة

لا تستصغر نفسك، فهمّتك مُعلّقة بالثريا

لا تستهن بمقترح تُقدّمه

أو رأي تطرحه

أو مشورة تقوم بها

 

فقد حُمِيت المدينة يوم الخندق برأي سلمان

وانزاح عن النبي - صلى الله عليه و سلم - همّه يوم الحديبية بمشورة أم سلمة

وهزِمت جحافل المشركين يوم بدر بفضل من الله ثم برأي من الحباب بن المنذر

 

إن باستطاعتك أن تفعل الكثير والكثير

باستطاعتك كفالة يتيم

أو رعاية أرملة

أو من في حكمهم، من زوجات المفقودين والمساجين.

باستطاعتك دعوة كافر إلى الإسلام، أو ضال إلى طريق الإيمان.

 

هل سمعت قَسَم النبي - صلى الله عليه و سلم -؟

 

فقد قال لعليّ - رضي الله عنه - يوم خيبر: \" فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من أن يكون لك حُمر النَّعَم \".

 

هل استهنت بهذا الخير العظيم، والثواب الجزيل؟

 

وأقعدك الشيطان عن العمل لهذا الدّين، رجاء أن تظفر بالذروة!

فتركك في الحضيض قاعداً عن العمل، مُزهِّداً لك سائر القُرُبات، ومُحقّرا في عينك بقية الطّاعات!

 

وقد يقول قائل: وهل يُمكن أن يأمر الشيطان بالإحسان؟!

 

فأقول: نعم

 

وذلك أنه يأمر بالعمل المفضول ليترك المسلم العمل الفاضل.

 

فهل تتصوّر أن يأمرك الشيطان بقراءة القرآن؟!

 

الجواب: نعم

 

متى وكيف؟

 

ربما أمرك بقراءة القرآن ليُفوّت عليك عملاً فاضلا حاضراً، كأن يأمرك بقراءة القرآن وقت الأذان أو وقت الأذكار، فهذه تفوت ويفوت وقتها، وقراءة القرآن لا يفوت وقتها.

 

وربما أمرك بصلاة النافلة وترك ما يكون نفعه أعظم، من بِرّ والد، وصلة رحِم، وعيادة مريض، واتّباع جنازة، ونُصرة مظلوم، وإغاثة ملهوف، ورعاية يتيم أو أرملة... إلى غير ذلك.

 

وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - سبع عقبات يقعد فيها الشيطان لابن آدم، فذكر منها:

 

العقبة السادسة: وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمَرَهُ بها [ يعني الشيطان يأمره بها ]، وحسّنها في عينه وزيّنها له، وأَراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسبا وربحاً، لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله ودرجاته العالية فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحبّ إليه، وبالمرضي عن الأرضى له. ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفِر بهم في العقبات الأول، فإن نجا منها بفِقهٍ, في الأعمال ومراتبها عند الله ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها والتمييز بين عاليها وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرؤسها، وسيدها ومَسُودِها، فإن في الأعمال والأقوال سيداً ومسوداً، ورئيسا ومرؤوسا، وذروة وما دونها، كما في الحديث الصحيح: سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت.. الحديث، وفي الحديث الآخر: الجهاد ذروة سنام الأمر... ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولى العلم السائرين على جادة التوفيق قد أنزَلُوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه. انتهى كلامه رحمه الله.

 

فحتّامَ أنت جالس لا تُجاهد؟!

 

حتّام: تعني: حتى متى!

 

والله يتولاك

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply