كلما رأيته وجدت فيه روحاً جديدةً، حية بالعطاء، مقبلة على الطاعات تمتلئ بالحيوية والفاعلية، يسبق فعله قوله، قدوة في البناء والتربية، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة.
ثم مرّت شهور وسنين، وكنت أظن المحن سوف تهدّه، وتُضعف من عزيمته، أو على أدنى الأحوال ستحدٌّ شيئاً من فاعليته وحماسه. ولكن الله - سبحانه وتعالى - يثبت أولياءه الصالحين بالقول الثابت، ويعينهم على مواجهة كل مكروه، والأعاصير لا تقلع الجبال الراسيات، أو الأشجار الراسخات، وكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع: من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء\".(1)
نعم، ربما تنتقص الفتن شيئاً من دنياه، وتضره في ماله أو بدنه، ولكن الدنيا كل الدنيا لا تساوى شيئاً في موازين المؤمنين. وماذا يضيرهم إن عاشوا في فقر ومسكنة، أو تضييق وعنت، ما دامت نفوسهم عزيزة، وجباههم عالية، وقلوبهم مخبتة لربها بسكينة وطمأنينة؟
تزول الجبالُ الراسياتُ وقلبه
على العهد لا يَلوي ولا يتغيرُ
ألم ترَ إلى ذلك الرجل من الرعيل الأول يُطعن ويفارق الدنيا، فيقول بقلب عامر بالبشر والأنس: \"فزتُ وربِّ الكعبة؟، وليس ذلك خاصاً بعصر الصحابة - رضي الله عنهم - ففي كل جيل من أجيال المسلمين نماذج مشرقة تشع بالضياء وتورق بالخير والعطاء، وتمتد جذورها في أعماق الأرض ثباتاً ورسوخاً على الحق.
كثيرون أولئك القوم الذين يستطيعون الوصول إلى الحق، ولكن القلة القليلة منهم هي التي تستطيع الجهر به، والثبات عليه، والصبر على الأذى فيه. وهؤلاء هم القادرون على تغيير مسيرة التاريخ وتجديد واقع الأمة.
وما أجمل قول الرافعي: \"رؤية الكبار شجعاناً هي وحدها التي تُخرج الصغار شجعاناً، ولا طريقة غير هذه في تربية شجاعة الأمة\".(2)
تأملت أحوال المسلمين فوجدت عامتهم لا قيمة لهم على الإطلاق في مجال نشر الدعوة وحمل رايتها.. همومهم صغيرة، وتطلعاتهم وضيعة، لا تتمعّر وجوههم حينما تنتهك حرمة الدين، ولا تنقبض صدورهم حينما يُنتقص التوحيد، غاية مطلوبهم زخرف زائل من زخارف الدنيا الفانية. ورأيت الصفوة من أولئك الخُلّص من الرجال الذين حملوا راية التوحيد فوق أعناقهم، بصدق اليقين وسلامة البصيرة، ورعوها بأموالهم وأبنائهم ونفوسهم، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. إنها منزلة شامخة دونها بقية المنازل، ومن حكمة الله - تعالى - أن جعل طريقها جدّ عسير، ولو كان الأمر سهلاً وتبعاته ميسرة، لرأيت جموعاً كثيرة تقوم به، وصدق الله - جل وعلا -: \" لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بَعُدَت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يُهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون \". (التوبة: الآية 42).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد