لم يكن السّن عائقاً للتأثير وصناعة الحياة في يوم من الأيام، فكم من صغار فعلوا ما أبهر الكبار. وكم من أُناس في سِن المراهقة، وأقلّ من ذلك، قد أبدعوا في مجالات شتّى، بل وقادوا الكبار وتقدّموا عليهم ونالوا احترامهم وتقديرهم.
وقد مدح الله - تعالى - يحيى بن زكريا - عليهما السلام - وقال فيه: \" يا يحيى خذ الكتاب بقوّة وآتيناه الحكم صبياً\".
وقال الصبيان ذات مرة ليحيى - عليه السلام -: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خُلقنا!.
وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان أوّل مَن أسلم بعد خديجة - رضي الله عنها -، حيث يقول ابن إسحاق - رحمه الله -: أوّل ذَكر آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه وصدّقه: علي ابن أبي طالب، وهو ابن عشر سنين.
وقد ولّى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عتاب بن أسيد أميراً على مكة وكان عمره حين ولاّه عمر نيفاً وعشرين سنة.
ولماّ قدِمَ وفد ثقيف على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولّى عليهم عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - وأمره بإمامتهم، وكان أصغر الوفد سنّاً.
وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: إني لواقف يوم بدر في الصف فنظرت فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنّيت أن أكون بين أضلُع منهما فغمزني أحدهما فقال: يا عم، أتعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك؟ قال: أُخبرت أنه يسبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده إن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منّا، فعجبتُ لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها.
قال عبد الرحمن بن عوف: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه فقال: \" أيّكما قتله؟\" فقال كل منهما: أنا قتلته، فقال: \" هل مسحتما سيفيكما؟\" قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: \" كلاكما قتله\"، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو (والآخر هو معاذ بن عفراء).
وروى أحمد والترمذي وأبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم إلى المدينة كان زيد بن ثابت - رضي الله عنه - من شباب الصحابة المُسابقين للعلم فبز أقرانه وفاقهم، فعن خارجة بن زيد أن أباه زيداً أخبره أنه لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة قال زيد: ذهب بي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأُعجب بي، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار معه ممّا أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فأعجب ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: \" يا زيد تعلّم لي كتاب يهود فإني والله ما آمن يهود على كتابي\"، قال زيد: فتعلّمتُ كتابهم ما مرّت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه وأُجيب عنه إذا كتب.
ولقد كانت مهمة صعبة تلك التي اختير لها زيد - رضي الله عنه -، إذ سوف يصبح مطّلعاً على كل ما يَرد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود، أو ما يَرد منهم إليه، وهي أسرار مهمة في حياة المسلمين يطّلع عليها - رضي الله عنه - وهو لمّا يبلغ العشرين بعد، ويثق - صلى الله عليه وسلم - بأمانته وقدرته على نقل كلامه لليهود، ونقل كلامهم له كما هو في الواقع.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ مع زيد بن ثابت - رضي الله عنه - بل تجاوزه إلى ما هو أعظم من ذلك فيأتمنه - صلى الله عليه وسلم - على ما هو أهمّ من ذلك كله، بل ما يخصّ حياة المسلمين والأمة أجمع وليس أهل عصره فقط.
فاختاره - صلى الله عليه وسلم - لكتابة الوحي، ويقبس أبو بكر من هذا الهدى النبوي ويتكئ على هذا التوثيق من صاحب الرسالة ليكلّفه - رضي الله عنه - بجمع القرآن فيقول له: \" يا زيد إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتَّتبعَ القرآن فاجمعه\". فيشعر زيد - رضي الله عنه - إذ ذاك بثقل المسؤولية وعِظم التبعة، فيقول: \" فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن\". (رواه البخاري).
وهذا أسامة بن زيد - رضي الله عنه - شاب صغير لم يتجاوز السادسة عشر من عمره ولاّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمارة الجيش الذي سيغزو الروم، وشعر بعض الناس أن هذه المهمة ربما ينوء بها أسامة - رضي الله عنه -، وأنه لو ولّى غيره كان أولى، فبيّن - صلى الله عليه وسلم - ذلك لهم، كما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما –: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثاً وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:\" إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إنه كان لخليقاً للإمارة، وإنه كان لمن أحبّ الناس إليّ وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده\".
وفي فتح مكة حمل اللواء أشجع أحد الشُبان من الصحابة، ألا هو معقل بن سنان الأشجعي - رضي الله عنه -.
وأحد الذين حملوا راية جهينة يوم الفتح كان من الشباب وهو معبد بن خالد الجهني - رضي الله عنه -.
وحمل اللواء في بدر أحد الشُبان وهو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
ومَن الذي قرأ شيئاً في السِّيرة ولم يعرف عن دار الأرقم؟ أو لم يسمع: أسلم فلان قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وبايع فلان النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم؟
فلمَن تُنسب هذه الدار؟ إنها دار الأرقم بن أبي الأرقم - رضي الله عنه - الذي كان عمره حينها قريباً من عشرين سنة، يختارها - صلى الله عليه وسلم - لتكون موطناً لاجتماعاته بأصحابه ولقائه بهم ليختفوا عن قريش وكيدها وتآمرها.
أما عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز فقد مات ولم يتجاوز التاسعة عشر، بيد أنه كان صانعاً للحياة مؤثّراً فيها، فقد روى الحافظ أبو نعيم في الحلية عن بعض مشيخة أهل الشام قال: كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك.
وكان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يقول: لولا أن أكون زُين لي من أمر عبد الملك ما يُزين في عين الوالد من ولده لرأيت أنه أهل للخلافة.
وكانت لعبد الملك مواقف عظيمة وقفها مع أبيه عمر، فلطالما حثّه على ردّ المظالم ومعاقبة الظالمين وعلى العدل والحلم والخوف من الله - تعالى -، وكان عمر كثيراً ما يستشير ابنه عبد الملك ويأخذ بمشورته.
وانظر إلى السلطان محمد بن مراد الفاتح - رحمه الله - الذي وُلد في ليلة السابع والعشرين من رجب سنة(835هـ)، ولم يكد هذا الفتى الصغير يتخطى العاشرة من عمره حتى قرّر والده أن يقذف به في غمار الحياة العملية، وعيّنه والياً على مقاطعة \" أمسيا\"، ثم قائداً عاماً لمنطقة \" مانيسيا\".
وما مضت بضعة شهور حتى بدأ الناس يتهامسون بأن هذا الشِّبل من ذاك الأسد، فقد أظهر محمد الفاتح من الكفاءة العسكرية والإدارية ما أعطى الدليل على أن رجاء الوالد الّسلطان لم يخب في ابنه الأمير.
وفي سنة(848هـ) استدعى السلطان مراد الأمير محمداً من \"مانيسيا\" لتسليمه مقاليد السلطنة في \" أدرنة\" عاصمة الدولة العثمانية آنذاك، ولم يكن الأمير محمد في ذلك الوقت قد أكمل الرابعة عشرة من عمره واستمر الأمير محمد في إدارة شؤون السلطنة عاماً كاملاً.
وبعدها قرّر استدعاء والده السلطان مراد ليتولّى من جديد مقاليد السلطنة ولكن السلطان مراد اعتذر بحاجته الماسة إلى الراحة، فما كان من الأمير إلا أن أرسل رسالة إلى والده يقول فيها: إن كنت تصرّ على أن أبقي على رأس الدولة فإني أذكرك يا والدي بما أوجبه الله على المسلمين من حقّ الطاعة لولي أمرهم، ولهذا فإني آمرك أن تُسرع بالقدوم إلى \" أدرنة\"، لقيادة جيوش المسلمين.
وحين وصلت رسالة الأمير إلى السلطان مراد ذرفت عيناه دموع الفرح، فقد أدرك أن ولده الفتى يتصرّف بحزم الرجال وعزيمتهم، وتنحّى له الأمير محمد عن مقاليد السلطنة، واستمرّ السلطان مراد في تحمّل مسؤولية السلطنة حتى وفاته سنة (855هـ).
هذه طفولة وصبا محمد الفاتح، يتولّى القيادة وهو ابن عشر سنوات، ثم يفتح القسطنطينية، وما أدراكم ما القسطنطينية؟ وعمره (22) عاماً فقط، ولعلّه يحقّ فيه ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - \" لتفتحنّ القسطنطينية، لنِعم الأمير أميرها، ولنِعم الجيش ذلك الجيش \".
ومحمد بن القاسم الثقفي مثل آخر لصُناع التأثير في هذه الحياة، فقد قاد فتح السند والهند وعمره سبعة عشر عاماً، وعظُمت فتوحه وكثرت غنائمه حتى قال الحجاج بن يوسف الثقفي: \" شفينا غيظنا، وأدركنا ثأرنا، وازددنا ستين ألف ألف درهم، ورأس داهر\".
وفي محمد بن القاسم يقول حمزة الحنفي:
إنّ المروءة والسماحة والنـدى ***لمحمد بن القاسم بن محـــمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حِجة ***يا قُرب ذلك سؤدداً من مولــد
وهذا إياس بن معاوية، شاب لم يتجاوز سنّه السادسة عشر، كان يسير ويمشي خلفه أربعمائة من العلماء والقادة، فرأى الخليفة ذلك المشهد فغضب وأراد أن يلقّن إياساً درساً في الأدب، فجاء إليه فقال له (مستصغراً إياه): كم سنّك يا بني؟ فردّ عليه إياس رداً عجيباً مُفحماً قائلاً: سنّي يا أمير المؤمنين كسن أسامة بن زيد يوم أن قاد جيشاً فيه أبو بكر وعمر، فتعجب الخليفة من ذكاء إياس وفطنته وسرعة بديهيته وقال: تقدّم بورك فيك.
أما أبو العلاء المعري، الشاعر المعروف، فقد كان مغروراً بنفسه حتى أنه مرّ ذات يوم بغلام صغير فقال له: أما تعرفني؟ قال الغلام: لا، فقال المعري: أنا شاعركم المُبجل أبو العلاء المعري، فقال الغلام: أنت الذي تقول:
وإني وإن كنت الأخير زمانه *** لآتٍ, بما لم تستطعه الأوائل
فقال المعري: نعم، قال الغلام: يا عمّاه، إن العرب قد وضعوا ثمانية وعشرين حرفاً للهجاء، فهل لك أن تزيد حرفاً واحداً؟ ففكّر المعري كثيراً، ولم يستطع أن يأتي بهذا الحرف، ثم قال للغلام: قتلتني قتلك الله.
وأخيراً فإن أفضل مثل على أن الشاب وصغار السّن يمكن أن يكونوا صُناعاً للحياة هذه الأيام هو ما نشاهده من بطولات سطّرها أطفال (بل أبطال) الحجارة في فلسطين، إذ زلزلوا الأرض تحت أقدام الصعاليك اليهود، وزرعوا الرعب في نفوسهم، وقلبوا المعادلات السياسية والعسكرية رأساً على عَقِب.
فكم رأينا على شاشات التلفاز من جنود يهود مُدججين بأحدث وأعتى الأسلحة يفرّون أمام أطفال لا يحملون سوى حجارة صغيرة، \" كأنهم حُمرٌ مستنفرةٌ فرّت من قسورة \"
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
المقالات
-مامون
23:41:00 2020-05-08