بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. أما بعدº فنحن اليوم في زمن وصل فيه المسلمون إلى حد ـ لا يمكن أن يصل إلى أسوأ منه مسلم يؤمن بالله ورسوله ـ من الذل والاستعباد من الآخرينº ولذلك، ولشعور كل منا بما نزل بنا من هذا الذل المخيم على جميع البلاد الإسلامية نتساءل دائمًا وأبدًا عن السبب الذي أدى بالمسلمين إلى هذه الحالة المزرية السيئة، والوضع المهين المخزي، والسر في وصولهم إلى هذا الدرك المنحط من الذل، كما نتساءل عن العلاج والدواءº لنتمكن من النجاة من هذا الذل والشقاء.. ثم تتنوع الآراء وتتعدد الملاحظات، وكل يأتي بمنهج أو سبيل يرتئيه لحل هذه المشكلة، ومعالجة هذه المعضلة.
وأنا أرى أن هذه المشكلة قد ذكرها الرسول - عليه الصلاة والسلام - ووصفها في بعض أحاديثه الثابتة عنه، وبيّن علاجها، ومن هذه الأحاديث قوله - عليه الصلاة والسلام -: [إِذَا تَبَايَعتُم بِالعِينَةِ وَأَخَذتُم أَذنَابَ البَقَرِ وَرَضِيتُم بِالزَّرعِ وَتَرَكتُم الجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيكُم ذُلًّا لَا يَنزِعُهُ حَتَّى تَرجِعُوا إِلَى دِينِكُم] رواه أبو داود وأحمد. فنجد في هذا الحدث ذكر المرض الذي شاع حتى أحاط بالمسلمين، فذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نوعين من المرض على سبيل التمثيل لا التحديد.
من أمراض المسلمين:
النوع الأول: هو وقوع المسلمين في بعض المحرمات بالاحتيال عليها وهم على علم بها: وهذا كامن في قوله - عليه الصلاة والسلام -: [إِذَا تَبَايَعتُم بِالعِينَةِ] فالعينة: نوع من البيع يشير هذا الحديث إلى تحريمه، ولكن بعض الناس رأوا إباحة ذلكº لأنها وضعت في باب البيع والشراء، واستدلوا على ذلك بالعمومات التي تدل على جواز البيعº كمثل الآية المشهورة:{ وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[275] {\'سورة البقرة\' فقالوا: هذا بيع وشراء، فلا بأس أن يزيد أو ينقص!
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أولاً: مبين للناسº كما قال ربنا - تبارك وتعالى -:{وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم [44]} \'سورة النحل\' وهو ثانيًا: كما وصفه ربنا - تبارك وتعالى - بقوله:{بِالمُؤمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[128]{ سورة التوبة فمن رأفته ورحمته بنا - عليه الصلاة والسلام -º أن نبهنا على مكامن احتيال الشيطان على بني الإنسان، وحذرنا أن نقع في أحابيله في أحاديث كثيرة جدًا، منها ما نحن الآن في صدده، فقال - عليه الصلاة والسلام -: [إِذَا تَبَايَعتُم بِالعِينَةِ] أي: إذا استحللتم ما حرم الله ورسوله بأدنى الحيل باسم أن هذا بيع، والحقيقة أنه ستار، وأنه استدانة مقابل زيادة، وهذا ربًا مكشوف، فحذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث من أن نقع في مثل هذا الاحتيال لاستحلال ما حرم الله، فذلك أخطر من أن يقع المسلم في الحرام وهو يعلم أنه حرامº لأنه يرجى له يومًا ما أن يعود إلى ربه ويتوبº لأنه على علم بأن ما يفعله حرام.
أما إذا كان قد زُيَّنَ له سوء عمله لسبب من الأسبابº إما بالتأويل الخطأ أو بالجهل البالغ، فظن أن عمله لا شيء فيه، فبدهي أن لا يخطر في باله يومًا ما أن يتوب إلى الله، فكان خطر المُحَرَّم المُستَحَلِّ فكريًا واعتقاديًا أشدّ بكثير من المُحَرَّم المكشوف، فالذي يأكل الربا، ويعلم أنه ربا، ويعتقد أنه رباº هذا ـ مع أن يحارب الله رسوله كما في نص الآية ـ خطره في النتيجة أيسر من ذلك الذي يأكل الربا وهو يعتقد أنه إنما يأكل حلالاً، هذا كمثل الذي يشرب المسكر ويعتقد أنه حرام، فيرجى أن يتوب إلى الله، أما الذي يشرب المسكر، وهو يعتقد لسبب ما أنه شراب حلالº فهذا أخطر من ذاكº لأنه لا يتصور أن يتوب عنه أبدًا ما دام يسيء فهم حكم هذا الأمر.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ذكر بيع العينة ـ كما ذكرنا في مطلع الكلام ـ على سبيل التمثيل لا على سبيل التحديد، فيشير إلى أن كل حرام يرتكبه المسلم مستحلاً له بطريقة ما من طرق التأويلº فهذا من نتائجه أن يذله الله - عز وجل - ويذل بسببه المسلمين إذا فشا فيهم وشاع.
النوع الثاني: ثم ذكر النوع الثاني من الأشياء التي يشترك الناس كلهم في معرفة مخالفتها للشريعة، فقال: [إِذَا تَبَايَعتُم بِالعِينَةِ وَأَخَذتُم أَذنَابَ البَقَرِ وَرَضِيتُم بِالزَّرعِ] أي: انشغلتم بالسعي وراء حطام الدنيا، تحصيل الرزق باسم أن الله أمرنا بالسعي وراء الرزق، فيبالغ المسلمون في ذلك، وينسون ما فرض الله عليهم من الفرائض، ويلتهون بالسعي وراء الزرع والضرع، وما شابه ذلك من المكاسب، فينسيهم ذلك ما فرض الله عليهم من الواجبات، وذكر على سبيل المثال الجهاد في سبيل اللهº فقال - عليه الصلاة والسلام -: [إِذَا تَبَايَعتُم بِالعِينَةِ وَأَخَذتُم أَذنَابَ البَقَرِ وَرَضِيتُم بِالزَّرعِ وَتَرَكتُم الجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيكُم ذُلًّا لَا يَنزِعُهُ حَتَّى تَرجِعُوا إِلَى دِينِكُم].
هذا الحديث من أعلام النبوة، فقد تحقق فينا هذا الذلº فيجب علينا أن نأخذ العلاج من هذا الحديث بعد أن وصف المرض، وما سيثمر هذا المرض من ذلك، فقد تمسكنا بالأدواء، وأدت بنا إلى المرض، ألا وهو الذل، فعلينا إذن أن نعود إلى تطبيق الدواء الذي وصفه الرسول - عليه الصلاة والسلام - وصرح بأنه إذا رجعنا إليه رفع الله عنا هذا الذل.
والناس يقرأون هذا الحديث، ويسمعون كثيرًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: [حَتَّى تَرجِعُوا إِلَى دِينِكُم] فيظنون أن الرجوع إلى الدين أمر سهل، أما أنا فأرى أن الرجوع إلى الدين يحتاج ـ كما يقال عندنا ـ إلى [هز أكتاف]، وذلك لأننا جميعًا نعلم أن هذا الدين قد أصيب بمحاولات كثيرة لتغيير حقائق كثيرة منه، وقد استطاع بعضهم أن يصل إلى مثل ذلك التغيير أو التحريف، فبعض هذا التغيير معروف لدى كثير من الناس، وبعضه ليس كذلكº بل على العكس من ذلك عند جماهير الناس فهناك مسائل ـ بعضها اعتقادية وبعضها فرعية فقهية ـ يظنون أنها من الدين، وهي ليست من الدين في شيء.
كيف يرجع المسلمون إلى دينهم؟
وهو العلاج الذي نص الرسول - عليه الصلاة والسلام - على أنهم إن أخذوهº رفع الذل عنهمº وإلا فلا: [إِذَا تَبَايَعتُم بِالعِينَةِ وَأَخَذتُم أَذنَابَ البَقَرِ وَرَضِيتُم بِالزَّرعِ وَتَرَكتُم الجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيكُم ذُلًّا لَا يَنزِعُهُ حَتَّى تَرجِعُوا إِلَى دِينِكُم] إذاً: العلاج الوحيد هو الرجوع إلى الدينº لذلك فأنا أرى أن أي إصلاح ـ يجب أن يقوم به الدعاة إلى الإسلام، والناشدون لإقامة دولة الإسلام بإخلاص ـ هو أن يعودوا إلى أن يفهموا أولاً أنفسهم، ويفهموا الأمة.
ثانيًا: الدين الذي جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - وذلك لا سبيل إليه ـ فيما أعتقد اتفاقًا بين جميع الفقهاء بأنه لا سبيل إلى الرجوع إلى فهم الدين على الحقيقة التي أنزلها الله - عز وجل - ـ إلا بدراسة الكتاب والسنة، ولا جرم أن الأئمة رحمهم الله حذروا أتباعهم الأولين الذين كانوا على علم من أن يتبعوهم، وأن يقلدوهم، ويجعلوهم الأصل في الرجوع، وينسوا بذلك أصل الشريعة: الكتاب والسنة.
ولستم بحاجة جميعًا إلى أن نسوق لكم أقوال الأئمة التي تدندن كلها حول الكلمة التي صحت عنهم جميعًا: [إذا صح الحديث فهو مذهبي]. فحسبنا هذا القول منهم الآن، فهذا دليل على أن كل إمام من أولئك الأئمة نصح نفسه، ونصح أمته وأتباعه حينما أمرهم بأن يرجعوا إلى الحديث إذا كان مخالفًا لاجتهاده ورأيه.. فهذا إذاً يفتح الطريق ـ حتى باسم تقليد الأئمة ـ للرجوع إلى الكتاب والسنة.
مسائل تخالف السنة الصحيحة:
فنذكر بعض الأمثلة ـ وهي لا تزال موجودة في كتبنا تدرس في كل المدارس الشرعية والكليات وما شابه ذلك ـ: في أحد المذاهب الإسلامية: أنّ المصلي إذا دخل في الصلاة يسدل يديه ولا يقبض. لماذا؟! هكذا المذهب! بينما جهد كل علماء الحديث بأن يأتوا بحديث واحد ولو ضعيف ـ بل ولو موضوع ـ على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقبض بيده اليمنى على اليسرى إذا وقف يصلي، هذا لا وجود له، فهل هذا هو الإسلام؟ أنا أعرف أن البعض سيقول: إن هذا من المسائل الفرعية. وقد يتساهل بعضهم في التعبير فيقول: هذا من التوافه. وأنا أعتقد أن كل شيء جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما له علاقة بالدين والعبادةº فليس من توافه الأمور.
نحن نعتقد أن كل ما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - يجب أن نتبناه دينًا أولاًº مع وزنه بأدلة الشريعةº إن كان فرضًا ففرضº وإن كان سنة فسنة، أما أن نسميه أمرًا تافهًا أو قشورًاº لأنه مستحب! فهذا ليس من الأدب الإسلامي في شيء إطلاقًاº لاسيما وأن اللب لا يمكن أن نحافظ عليه إلا بالمحافظة على القشر، أقول هذا لو أردت أن أجادلهم باللفظ.
هذا المثال البسيط ـ وهو السدل في الصلاة ـº لماذا يستمر المسلمون على العمل به، والأحاديث تترى في كل كتب السنة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -كان يقبض؟! ليس هناك إلا التقليد والجمود على مخالفة الأئمة في قولهم: [إذا صح الحديث فهو مذهبي].
قد لا يرضى هذا المثال البسيط بعض الناس، فنذكر مثالاً آخر، وهو:
أن بعض كتب فقه المذاهب ما زالت تذكر بأن الخمر قسمان: قسم منبسط من العنبº فهذا قليله وكثيره حرام، وقسم آخر مستنبط من غير العنب: من الشعير، أو من الذرة، أو من التمر، أو غير ذلك مما تفنن اليوم الكفار في استنباط الخمر منه، فهذا النوع من الخمر ليس كله حرامًاº وإنما الذي يسكر منه فقط فهو حرام! لماذا لا يزال هذا القول مسطورًا؟! وقد يدافع عنه بعض الناس بألوان من الدفاع! لا لشيءº إلا أن إمامًا من أئمة المسلمين اجتهد فقال هذا القول! مع أننا جميعًا ـ على اختلاف مذاهبنا ومشاربنا ـ نقرأ في كتب السنة وبالأسانيد الصحيحة قوله - عليه الصلاة والسلام -: [مَا أَسكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ] رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود وأحمد. وقوله: [كُلٌّ مُسكِرٍ, خَمرٌ وَكُلٌّ خَمرٍ, حَرَامٌ] رواه مسلم.
لماذا يظل مثل هذا القول الخطير الذي يشجع الناس ـ الذين هم على شفا حفرة من الفسق، أو قد وقعوا فيها فعلاً ـ ويزين لهم شرب القليل من خمر غير العنبº بحجة أن الإمام الفلاني ـ وهو عالم فاضل ـ قال هذا؟ يا للحجة! نحن نعتقد أنه عالم فاضل، ولكن الفرق أننا لا ننسى أنه غير معصوم عن الخطأ، وهم يتناسون هذه الحقيقة، فيظلون يدافعون عن هذه الكلمة، فبعضهم يستغل هذا القول ينشر المادة المسكرة بين المسلمين، وبعضهم يدافع عن الإمام لا عن القول.
لماذا يبقى مثل هذا القول في كتب الفقه مع مصادمته الأحاديث القاطعة الدلالة والثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إبطال مثل هذا القول؟!! لماذا نجبن أن نقول: إن إمامًا من أئمة المسلمين أخطأ في مسألة، أو في اجتهاد، أو في رأي له، فيؤخر أجرًا واحدًا بدل أن يؤجر أجرين؟! لماذا لا تقول هذا أولاً كمبدأ، وثانيًا كتطبيق لبعض الفروع، ومنها هذا الفرع الذي نحن في صدده؟!
الجواب: لأنه قد ران علينا، وفي قلوبنا تقديس الأئمة واحترامهم أكثر مما أوجب الله علينا.
ونحن نؤمن بقول الرسول - عليه الصلاة والسلام - لنا: [لَيسَ مِنَّا مَن لَم يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرحَمَ صَغِيرَنَا، وَيَعرِفَ لِِعَالِمِنَا حَقَّهُ] صحيح الجامع [5443]. هذا مما حض عليه الرسول - عليه الصلاة والسلام - المسلمين أن يعرفوا حق العالم، ولكن هل من حق العالم أن نرفعه إلى مستوى النبوة والرسالة، حتى نعطيه العصمة بلسان حالنا؟! فلسان الحال أنطق من لسان المقال.
إذا كان علينا أن نحترم العالم ونقدره حق قدره، وأن نقلده حينما يبرز لنا الدليلº فليس لنا أن نرفع من قوله، ونضع من قول الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولا أن نؤثر قوله على قول الرسول - عليه الصلاة والسلام -!
مثال آخر: مثلاً في النكاح لا يزال هذا الحكم باقيًا على أنه رأي إسلامي محترمº فلا يزال يُقضي بأن البنت المسلمة البالعة الراشدة لها أن تزوج نفسها بنفسها دون إذن وليهاº مع تصريح الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: [أَيٌّمَا امرَأَةٍ, نَكَحَت بِغَيرِ إِذنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ] رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي وأحمد. فهذا الحديث غير معمول به، وذاك القول معمول به ومقضي به. وقد يقول بعض الناس: ألم يفهم الحديث أحدٌ إلا أنت؟!
وأقول: هذا الحديث قد أخذ به أفهم الأئمة باللغة العربية وأساليبهاº ألا وهو الإمام الشافعي، فليس هو رأيًا لإنسان يُعرف أصله أنه من ألبانياº ولكن هذا الألباني وجد حديثًا، ووجد فهمًا لإمام وهو إمام قرشي مطلبي. ثم لماذا تُرك هذا الرأي الصحيح المقرون بهذا الحديث الصحيح لرأي إمام آخر من أئمة المسلمين؟! إن اجتهاد الإمام على رءوسنا، ولكن الاجتهاد له قيمة حينما لا يتعارض مع النص المعصوم من الكتاب والسنة.
فكلنا يقرأ في كتب الأصول قولهم: [إذا ورد الأثر بطل النظر]، [لا اجتهاد في مورد النص]، كل هذه القواعد المعروفة علميًا، فلماذا لا نهتم بتطبيق هذه القواعد عمليًا، ونظل نتمسك ببعض الفروع المخالفة للسنة؟!
فإذا أردنا أن نأخذ بالعلاج الذي وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن وصف المرض: [حَتَّى تَرجِعُوا إِلَى دِينِكُم] فهل الرجوع إلى الدين هو فقط باللسانº أم هو بالاعتقاد والعمل؟!
إن كثيرًا من المسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهم لا يلتزمون لوازم هاتين الشهادتين، وهذا بحث طويلº فكثير من المسلمين اليوم لا يعطون [لا إله إلا الله] حقها من التفسير.
ولقد انتبه لهذا كثير من الشباب المسلم والكُتّاب المسلمينº وهو أن من حق هذه الشهادة أن الحكم لله، نعم، أريد أن أقولها صريحة: لقد انتبه الشباب المسلم والكتاب المسلمين اليوم إلى هذه الحقيقةº وهي أن الحكم لله - عز وجل - وحده، وأن تسليط القوانين الأرضية، واعتمادها لحل المشاكل القائمة اليومº ينافي كون الحكم لله - عز وجل -، ولكنني أرى كثيرًا من هؤلاء الكتاب لا ينسجمون مع هذا الانتباه الخطير الذي انتبهوا لهº وهو كون الحكم لله - عز وجل -، وحكم الله هو حكم الكتاب والسنة.
تُرى هل إذا جاء حكم مخالفٌ من فلان الكافر فهو مخالف لحكم اللهº وإذا جاء من اجتهاد مجتهد مخطئ لا يكون مخالفًا لحكم الله؟!
أنا أعتقد أنه لا فرقº إذ إنه يجب على المسلم أن لا يأخذ بأي قول مهما كان مصدره، ما دام أنه يخالف الكتاب والسنة، لكن هناك فرقًا بين ذاك الذي قال ذلك الكفرº فهو كافر مخلد في النارº وبين من قال ذلك خطأ من المسلمينº فهو مأجور على خطئه.
إذاً: يجب الرجوع إلى الدين بعد محاولة وسلوك طريق فهم هذا الدين، وذلك يكون بتطبيق الفقه الذي يسمى اليوم بالفقه المقارن، وهذا الفقه يجب أن يُدرّس، وأن يدرسه أهل الاختصاص من حملة الشهادات الشرعية الفقهية والحديثية.
الرجوع إلى الدين هو الرجوع إلى الكتاب والسنةº لأن ذلك هو الدين باتفاق الأئمة، وهو العصمة من الانحراف والوقوع في الضلال، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام -: [تَرَكتُ فِيكُم شَيئَينِ لَن تَضِلٌّوا بَعدَهُمَا كِتَابَ الله وَسُنَّتِي وَلَن يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيّ الحَوضَ] صحيح الجامع [2937]. وضربنا بعض الأمثلة التي توجب على أهل العلم اليوم أن يرجعوا إلى فهم الدين من أصليه المذكورين: الكتاب والسنةº لكيلا يقع المسلمون في استحلال ما حرم اللهº متوهمين أنه مما أباحه الله.
كلمة أخيرة حول الرجوع إلى الدين:
إذا أردنا العزة من الله - تبارك وتعالى - وأن يرفع عنا الذل، وينصرنا على العدوº فلا يكفي لذلك ما أشرنا إليه من وجوب تصحيح المفاهيم، ورفع الآراء التي أولت الأدلة الشرعية عند أهل العلم وعند أهل الفقه الاختصاصي.. وإنما هناك شيء آخر مهم جدًا ـ وهو بيت القصيد ـ لتصحيح المفاهيمº ألا وهو العملº لأن العلم وسيلة للعمل، فإذا تعلم الإنسان، وكان عمله صافيًا مصفّى، ثم لم يعمل بهº كان بدهيًا جدًا أن هذا العلم لا يثمر، فلابد من أن يقترن مع هذا العلم العمل.
ويجب على أهل العلم أن يتولوا تربية النشء المسلم الجديد على ضوء ما ثبت في الكتاب والسنة، فلا يجوز أن ندع الناس على ما توارثوه من مفاهيم وأخطاءº بعضها باطل قطعًا باتفاق الأئمة، وبعضها مختلف فيه، ولو وجه من النظر والاجتهاد والرأي، وبعض هذا الاجتهاد والرأي مخالف للسنة.
فبعد تصفية هذه الأمور، وإيضاح ما يجب الانطلاق والسير فيهº لابد من تربية النشء الجديد على هذا العلم الصحيح.
وهذه التربية هي التي ستثمر لنا المجتمع الإسلامي الصافي، وبالتالي تقيم لنا دولة الإسلام.
وبدون هاتين المقدّمتين: [العلم الصحيح]، و[التربية الصحيحة على هذا العلم الصحيح] يستحيل ـ في اعتقادي ـ أن تقوم قائمة الإسلام، أو حكم الإسلام، أو دولة الإسلام.
وأضرب مثلاً لضرورة هذه التربية الصحيحة على العلم الصحيح:
تجد من هؤلاء الشباب الطيب من يستحلون الاستماع للأغاني وآلات الطرب! وذلك لأنهم يجدون الإذاعات تملأ الأسماع، ولا يوجد هناك توجيه عام لهذا النشء المسلم الجديد بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -قد نهى عن آلات المعازف، وحذر من الاستماع إليها، وهدد الذين يمسون في لهو ولعب، ويستمعون إلى المعازف أن يمسخوا قردة وخنازير.
لم يُرَبَّ هذا النشء الجديد على معرفة ما يجوز وما لا يجوز، وذلك لأنه يجد أقوالاً كثيرةº يجد مثلاً ابن حزم الإمام له رسالة في إباحة الملاهي، وسرعان ما تطبع هذا الرسالة وتنتشر بين الناس، فتوافق منهم هوى.. وربما قال بعض الموجهين وبعض من يدعي الإصلاح: ما دام هذا إمامًا وله مثل هذا الرأيº إذاً نحن نتبعه أو نقلده في سماعنا للطربº لا سيما وقد أصبحت بلوى عامة.
فأين السنة حينئذٍ,؟! إن السنة أصبحت نسيًا منسيًا!
وإذا كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - جعل العلاج في رفع الذل المخيم علينا إنما هو بالرجوع إلى الدينº فيجب علينا إذاً أن نفهم الدين بواسطة أهل العلم فهمًا صحيحًا، موافقًا للكتاب والسنة، وأن نربي النشء الصالح الطيب على ذلك، وهذا هو الطريق لمعالجة المشكلة التي يشكو منها كل مسلم.
وقد أعجبتني كلمة ـ هي في الواقع كأنها خلاصة لما قلته أو بينته آنفًا ـ لبعض المصلحين في العصر الحاضر، وهي في رأيي كأنها من وحي السماءº يقول: [أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم].
ولابد من أن نصلح نفوسنا على أساس من إسلامنا وديننا، وهذا ـ كما ذكرنا ـ لا يكون بالجهلº وإنما بالعلمº حتى تقوم دولة الإسلام على أرضنا هذه.
وفي الختامº أوصى كل من يستطيع أن يشارك في تحقيق هذا الأمر العظيم أن يتعاون هو وغيره ـ من ذوي الاختصاصات ـ على بيان الإٍ,سلام الذي جاء في الكتاب والسنة، وتربية النشء على ذلك، وهذه ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد