بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بيده مقاليد الأمور، والصلاة والسلام على البشير النذير، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن رأس مال المسلم في هذه الدنيا هو الوقت الذي هو مادة الحياة. والوقت أنفس من المال وأغلى، أرأيت لو أن محتضرا وضع أمواله جميعا ليزاد في عمره يوم واحد هل يحصل له ذلك التمديد وتلك الزيادة؟!.
ولعظم أهمية الوقت فقد أقسم الله به - عز وجل - في آيات كثيرة من كتابه الكريم منها قوله - تعالى -: ((وَالعَصرِ(1)إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ,(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ)).
فأقسم - جل وعلا - بالعصر، وهو الدهر الذي هو زمن تحصيل الأرباح والأعمال الصالحة للمؤمنين، وزمن الشقاء للمعرضين، ولما فيه من العبر والعجائب للناظرين.
ويقول - عز وجل - في بيان هذه النعم العظيمة التي هي من أصول النعم: ((وَسَخَّرَ لَكُم اللَّيلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنٌّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ, لِقَومٍ, يَعقِلُونَ)).
وقال - تعالى -: ((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلفَةً لِمَن أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَو أَرَادَ شُكُورًا)).
وقال - عليه الصلاة والسلام -:\"لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه\".
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:\"نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ\".
أخي المسلم:
من رأى حال الناس اليوم مع الوقت يكون جواب تعحبه أننا خلقنا لنأكل ونشرب ونتمتع ونلعب ونلهو ونبني الدور والقصور.. وهذا هو واقع الكثير.. وحينئذ يشتركون في هذه الأهداف الدنيوية مع البهائم والكفار الذين همهم في الحياة الأكل والشرب والتمتع بملاذ الدنيا حلالا كانت أم حراما، والله - عز وجل - خلقنا لأمر عظيم حدد الإجابة فيه بآية كريمة فقال - تعالى -: ((أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثًا وَأَنَّكُم إِلَينَا لَا تُرجَعُونَ)) وقال - تعالى - ((وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِي)).
قال الإمام النووي: وهذا تصريح بأنهم خلقوا للعبادة، فحق عليهم الاعتناء بما خلقوا له، والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهادة، فإنها دار نفاد لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشرع انفصام لا موطن دوام. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:\"اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك\".
وعمر الإنسان هو موسم الزرع في هذه الدنيا، والحصاد هناك و الآخرة، فلا يحسن بالمسلم أن يضيع أوقاته وينفق رأس ماله فيما لا فائدة فيه.
ومن جهل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه حين يعرف فيه قدره ونفاسته وقيمة العمل فيه، ولكن بعد فوات الأوان، وفي هذا يذكر القرآن موقفين الإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفع الندم:
الموقف الأول: ساعة الاحتضار، حيث يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة، ويتمنى لو منح مهلة من الزمن، وأُخر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده ويتدارك ما فات.
الموقف الثاني: في الآخرة، حيث توفى كل نفس ما عملت وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى حياة التكليف، ليبدأوا من جديد عملا صالحا.
هيهات هيهات لما يطلبون فقد انتهى زمن العمل وجاء زمن الجزاء.
أخي المسلم:
الزمن كالمال كلاهما يجب الحرص عليه والاقتصاد في إنفاقه وتدبير أمره، وإن كان المال يمكن جمعه وادخاره بل وتنميته فإن الزمن عكس ذلك؟ فكل دقيقة ولحظة ذهبت لن تعود إليك أبدا ولو أنفقت أموال الدنيا أجمع. وإذا كان الزمن مقدرا بأجل معين وعمر محدد لا يمكن أن يقدم أو يؤخر، وكانت قيمته في حسن إنفاقه- وجب على كل إنسان أن يحافظ عليه ويستعمله أحسن استعمال ولا يفرط في شيء منه قل أو كثر.
ولكي يحافظ الإنسان على وقته يجب أن يعرف أين يصرفه؟! وكيف يصرفه؟! وأعظم المصارف وأجلها طاعة الله - عز وجل -، فكل زمن أنفقته في تلك الطاعة لن تندم عليه أبدا.
قال! الحسن: من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه خذلانا من الله - عز وجل -.
وقال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة يوشك أن تنفق فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير، ومتى حيل بين الإنسان والعمل، لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه. وينبغي للمؤمن أن يتخذ من مرور الليالي والأيام عبرة لنفسه،
الليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيبان الصغار، ويفنيان الكبار.
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب وأن غدا لناظرين قريب
سأل الفضيل بن عياض رجلا فقال له: كم أتت عليك؟ قال: ستون قال فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، توشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون!
فقال الفضيل: أتعرف تفسيره تقول- إنا لله وإنا إليه راجعون-!! فمن عرف أنه لله عبد، إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول!، ومن علم أنه مسئول! فليعد للسؤال جوابا. فقال الرجل فما الحيلة؟ قال: يسيرة! قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.
وإذا كان هذا القول لمن قاربت سنه الستين فللشباب قول الحسن - رحمه الله -لأصحابه: يا معشر الشيوخ، ماذا ينتظر بالزرع إذا بلغ؟ قالوا: الحصاد قال: يا معشر الشباب، إن الزرع قد تدركه العاهة قبل أن يبلغ.
أخي المسلم:
إن وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مر السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبا من حياته وإلا عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته.
قال بلال بن سعد: يقال لأحدنا: تريد أن تموت؟ فيقول: لا، فيقال له:لم؟ فيقول: حتى أتوب وأعمل صالحا، فيقال له: اعمل، فيقول: سوف أعمل، فلا يحب أن يموت ولا يحب أن يعمل، فيؤخر عمل الله - تعالى - ولا يؤخر عمل الدنيا.
أخي المسلم:
استثمر وقتك ولا تضيع دقيقة منه، ولا تكن كمن إذا جاءه هادم اللذات ومفرق الجماعات قال: ((رَبِّ ارجِعُون)) ِولماذا يعود ويرجع هل ليبني داره ويؤثث مسكنه؟! ((لَعَلِّي أَعمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكتُ)) ولكن الرجعة مستحيلة والعود بعيد! فاعمل- أخي المسلم- لهذا اليوم واستعد له، واعلم أنه لن يصوم عنك أحد، ولن يصلي عنك أحد، فاعمل لنفسك.
جعلني الله وإياك ووالدينا في روضات الجنات، وبارك في أعمالنا وأعمارنا وأوقاتنا، اللهم اجعل خير أعمالنا آخرها وخير أعمارنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقائك. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى أزواجه وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد