دروس من الحج ( 2 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

وقد بلغ عدد هذه الدروس المستخلصة هنا ثلاثة عشر درساً راعيت أن تكون متجانسة في حجمها وطريقة طرحها، والله أسال أن ينفع بهذا الجهد وأن يتقبله بقبول حسن أنه نعم المجيب.

 

الأول: بيان أن الحج مدرسة عظيمة.

 

الثاني: في بيان جملة من منافع الحج

 

تقدم الكلام على فضل الحج ورفعة مكانته وأنه من أجل العبادات وأعظم القربات وأنه ركن من أركان الإسلام العظيمة وأساس من أسسه المتينة التي بها يقوم وعليها بنبني وتقدم الإشارة إلى الحج فيه من الفوائد والمنافع الدينية والدنيوية ما لا يحصيه المحصون ولا يقدر على عده العادون وفي ذلك يقول الله - تعالى - في القران الكريم {وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذرهم وليطوفوا بالبيت العتيق}

فالحج مليء بالمنافع العظيمة الدينية والدنيوية واللام في قوله - تعالى - {ليشهدوا منافع لهم} هي لام التعليل وهي متعلقة بقوله - تعالى - {وأذّن في الحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر} الآية أي: أن تؤذن فيهم بالحج يأتوك مشاة وركباناً لأجل أن يشهدوا أي يحضروا منافع لهم والمراد بحضورهم المنافع حصرهم لهم .

وقوله - تعالى - في الآية {منافع} هو جمع منفعة ونكر المنافع لأنه أراد مختصة بهذا العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات مجتمعة .

 

روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله - تعالى - {ليشهدوا منافع لهم} قال:\"منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة فأما منافع الآخرة فرضوان الله – عز وجل - وأما منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البدن في ذلك والذبائح والتجارات\"

وروى عبد الرزاق عن مجاهد - رحمه الله - في قوله - تعالى - {ليشهدوا منافع لهم} قال:\"التجارة وما أرضى الله من أمر الدنيا والآخرة\"

وروى ابن جرير الطبري في تفسيره عن مجاهد - رحمه الله -: {ليشهدوا منافع لهم} قال:\"الأجر في الآخرة والتجارة في الدنيا\"

فالمنافع التي يحصلها الحجيج ويجنونها في حجهم لبيت الله الحرام عديدة ومتنوعة

 

منافع دينيه من العبادات الفاضلة والطاعات الجليلة التي لا تكون إلا فيه.

ومنافع دنيوية من التكسب وحصول الأرباح الدنيوية،كما قال - تعالى - في سياق آيات الحج من سورة البقرة: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}

 

روى أبو داود وغيرة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (كانوا يتقنون البيوع والتجارة في الموسم والحج يقولون:أيام ذكر،فانزل الله (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم)

وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في معنى الآية انه قال:\"لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده\".. قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}.. أنه ليس على الحاج إثم ولا حرج إذا ابتغى ربحا بتجارة في أيام الحج إن كان ذلك لا يشغله عن شيء من أداء مناسكه.

 

ومن المنافع الدنيوية أيضا للحجاج ما يصيبونه من البدن والذبائح كما قال - تعالى -: {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق} إلا أنّ ما يحصله الحاج من منافع دينيه في حجه لا تقارن بهذه المنافع الدنيوية إذ في الحج من الأجور العظيمة والثواب الجزيل ومغفرة الذنوب وتكفير السيئات وغيرة ذلك مما لا يحصى من الفوائد الدينية العظيمة التي ينالها الحاج إن كان متقيا لله في حجه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وأي خير أعظم وأي ربح اجل من أن يخرج الحاج من حجه كيوم ولدته أمه بلا إثم ولا خطيئة كما قال الله - تعالى -: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى} وقد اختار ابن جرير في تفسيره لهذه الآية بعد أن ذكر أقوال أهل العلم في معناها أن المراد\"فمن تعجل في يومين من أيام منى الثلاثة فنفر في اليوم الثاني فلا إثم عليه لحط الله ذنوبه إن كان قد اتقى الله في حجه فاجتنب فيه ما أمره الله باجتنابه وفعل فيه ما أمره الله بفعله وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدود ومن تأخر إلى الثالث فلا إ ثم عليه لتكفير الله ما سلف من آثامه وإجرامه إن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده\"

 

ثم ذكر - رحمه الله - تظاهر الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه » وقوله - صلى الله عليه وسلم -: « الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة » وقوله - صلى الله عليه وسلم -: « تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد »

 

فهذه النصوص تدل على أن من حج فقضاه بحدوده على ما أمره الله فهو خارج من ذنوبه كما قال - جل وعلا -: {فلا إثم عليه لمن اتقى} أي: اتقى الله في حجه بفعل الأوامر واجتناب النواهي ولا ريب أن هذه فضيلة عظيمة ومنفعة جليلة تسارع في نيلها المؤمنة وتطمع في تحصيلها النفوس الصادقة فلله ما أجلها من فضيلة وأعظمها من منفعة عندما ينقلب الحاج إلى بلده بعد قضائه لحجه وذنبه مغفور قد خرج من ذنوبه وآثامه طاهراً نقياً كيوم ولدته أمه ليس عليه ذنب ولا خطيئة إذا كان متقياً ربه في حجه..

 

بل إنّ الرب سبحانه من عظيم كرمه وجميل إحسانه بعباده الحجيج يباهي ملائكته بحجاج بيته الحرام عندما يقفون جميعهم على صعيد عرفة ويقول « انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم »

 

وبهذا يتبين أنّ الحاج يعود من حجه بأكبر ربح وأعظم غنيمة ألا وهي مغفرة ربه لذنبه، فيبدأ بعد الحج حياة جديدة صالحة مليئة بالإيمان والتقوى عامرة بالخير والاستقامة والمحافظة على الطاعة إلا أن حصول هذا الأجر مشروط كما تقدم بأن يأتي بالحج على وجه صحيح بإخلاص وصدق وتوبة نصوح مع مجانبةِ لما يخل به من رفث وفسوق فإذا كان كذلك جب ما قبله وخرج الحاج بتلك الحال الرائعة كيوم ولدته أمه بلا إثم ولا خطيئة .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply