قمم في علو الهمم


  

بسم الله الرحمن الرحيم

لو تأملنا في أحوال الناس ومقاصدهم فسنجد منهم من امتلأ يومه بأعمال الخير وعمت الصالحات أوقاته، فهو موصول متعلق بالله.

تراه من صلاة إلى ذكر.. ومن قراءة إلى دعوة ومن طلب علم إلى أمر بمعروف.

وآخر يعمل ويكد لكنه عكس الأول من سيئة إلى سيئة ومن معصية إلى أخرى.. لا تتعظ نفسه ولا يعتبر عقله.

ورجل همه الدنيا.. قدوته قارون وهمته همة فرعون. انغمس في دنياه.. يعمل لأجل المال ويسبح بحمده، وهمه المنصب والشهرة.

ورابع ليس له أي هدف في حياته.. إن أحسن الناس أحسن وإن أساؤوا أساء.

ولو أعدنا النظر إلى هؤلاء لرأينا أن منهم من له همة عالية تعلو قمم الجبال، ومنهم من همته في سفح عميق.. ومنهم ليس له أي همة. وإن المرء العاقل من لا يرضى إلا بأعالي الأمور ويستصغر دونها الأهوال.

همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا والهمة هي الباعث على الفعل.

وعلو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور.

ويتفاوت الناس في هممهم والسعي إليها وتسمو مطالب صاحب الهمة العالية إلى ما يحبه الله ورسوله، فهمته عظيمة في تحصيل مطالبه وأهدافه.

يقول الإمام ابن القيم:\"لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه\".

 

تأمل وانظر في هذه القمم:

في مصاحبة الرسول

ربيعة بن كعب الأسلمي أحد شباب الصحابة ومن فقرائهم، أخد خدام رسول الله قال له :\"سلني حاجتك\"، فتسمو مطالب هذا الصحابي وترتفع همته وهو الذي بحاجة إلى المال والمأوى والزوجة، فيقول: أسألك مرافقتك في الجنة.

هو لا يسأل الجنة فحسب، بل مرافقة الرسول فيها، ويا لها من همة عالية.

همة في طلب العلم:وعن أبي هريرة أن رسول قال: ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله، فنزع نمرة كانت على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال: اجمعها فصرها إليك، فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني.

وهمة أخرى في طلب العلم تتجلى في شخصية عبد الله بن عباس.. حيث يقول: لما قبض الرسول  قلت لرجل: هلم فلنتعلم من أصحاب النبي فإنهم كثير. فقال: عجباً لك يا بن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من ترى من أصحاب رسول الله فتركت ذلك. وأقبلت على المسألة وتتبع أصحاب رسول الله. فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله  فأجده قائلاً (من القيلولة)، فأتوسد ردائي على باب داره تسفي الرياح على وجهي حتى يخرج.

إذا تأملت أخي القارئ المواقف السابقة فإنك ترى الهمة العالية لأصحابها والأهداف السامية التي يريدون تحقيقها، وهي لم تكن مجرد أماني دون عمل، بل لحق تلك الأماني العمل الدؤوب والجهد المتواصل حتى وصل الواحد منهم لمراده، عد وتأمل ماذا طلب ربيعة ابن كعب وماذا أراد أبو هريرة وما حققه ابن عباس.

 

فكونوا كالصحابة أهل دنيا *** وآخرة وعبّاداً وغزَّى

 

هي قمم يطلبها الإنسان بقلبه ولسانه وعمله، وبدون ذلك يكون إنساناً قد غرق في الأحلام وغطه بحر الأماني.

 

على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم

 

مكانة علو الهمة: ونبدأ بكلام نفيس لسلفنا الصالح. يقول الدينوري:\"همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال\".

ويقول الإمام ابن القيم:\"لابد للسالك من همة تسيره وترقيه وعلم يبصره ويهديه\".

 

تتجلى أهمية امتلاك هذه الصفة الجليلة فيما يلي:

1 تحقيق كثير من الأمور مما يعده عامة الناس خيالاً أو يستصعبون تحقيقه:

الرسول  بنى أعظم أمة أخرجت للناس وربى جيلاً قرآنياً فريداً خلال 23 سنة.

أبو بكر الصديق في أقل من سنتين أنهى فتنة المرتدين وأرجع الجزيرة إلى حظيرة الإسلام ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر الروم.

أحد العلماء وكنيته أبو حاتم يقول: ذهبنا إلى عبد الله بن مسلمة من علماء القرن الثاني فسألناه أن يقرأ علينا الموطأ، فقال: تعالوا بالغداة، فقلنا: لنا مجلس عند حجاج بن منهال، قال: فإذا فرغتم. قلنا: نأتي مسلم بن إبراهيم، قال فإذا فرغتم. قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي. قال فبعد العصر. قلنا نأتي عارماً أبا النعمان. قال: فبعد المغرب.. فكان يأتينا بالليل.

إن الإنسان العادي يستصعب تلك الأعمال بل البعض يجعلها من المستحيلات، لكن صاحب الهمة العالية المرتبطة بهدف نبيل وغاية عزيزة له نظرة أخرى.

وهذه الأمور العظيمة التي سنحققها إن شاء الله - تعالى - بهممنا السامية تكون في مجالات شتى:

في طلب العلم.

في العبادة والزهد.

في الدعوة إلى الله - تعالى -.

في تنفيذ مشاريع كبيرة..... إلخ.

 

2 البعد عن سفاسف الأمور ودناياها:

يقول الإمام ابن الجوزي:\"قد رأيت عموم الخلق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق.. ورأيت النادرين من الناس قد فهموا معنى الزمان وتهيؤوا للرحيل، فالله الله في مواسم العمر، والبدار البدار قبل الفوات ونافسوا الزمان\".

لا أدري ماذا يقول ابن الجوزي عن زماننا لو رأى كيف يقضي أبناء المسلمين وشبابهم بل أحياناً شيبانهم وعقلاؤهم أوقاتهم في التسكع في المجمعات ومضايقة الخلق وفي اللعب الباطل أو في المقاهي العابثة، لا يقيمون للوقت وزناً ولا لحياتهم معنى.

الإمام عبد الغني المقدسي من علماء الحنابلة في القرن السادس الهجري\"كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة فإنه كان يصلي الفجر ويلقن القرآن وربما أقرأ شيئاً من الحديث تلقيناً ثم يقوم فيتوضأ ويصلي إلى قبل الظهر ثم ينام نومة يسيرة ثم يصلي الظهر ويشتغل إما بالتسميع أو النسخ إلى المغرب، فإن كان صائماً أفطر وإلا صلى من المغرب إلى العشاء ثم ينام بعد صلاة العشاء إلى نصف الليل أو بعده ثم يقوم كأن إنساناً يوقظه فيتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر. ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر.. وهذا دأبه\".

والهمة العالية في ذلك تتضح في أنه لم يتحمس يوماً أو يومين أو لسماع موعظة أو نصيحة ثم فتر، بل هذا كان دأبه.

قال عنه موفق الدين: كان الحافظ عبد الغني جامعاً للعلم والعمل وكان رفيقي في الصبا وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل.

إن صاحب الهمة العالية يستفيد من أوقاته أيما استفادة فتكون مثمرة بناءة، فساعاته محسوبة وأيامه لا تضيع سدى.

 

3 صاحب الهمة العالية يتحرر من العبودية إلا لله:

فهو يتحرر من الانغماس في هواه ومن ذل نفسه للمال ومن تتبع شهواته للجاه والنساء، يتحرر من عبوديته للأشخاص.

هو إنسان لا ينقاد لتسلط الأمر الواقع بل يعمل لتغييره بما يوافق أحكام دينه. هو لا يرضى لنفسه أن تنقاد لنصراني أو يهودي بل يتطلع ليوم تعلو فيه راية الإسلام ويعمل لأجل ذلك.

 

كيف نكسب هذه الهمة وننميها؟

1 المجاهدة: وهي أهم وسيلة تأخذ بيدك للأعالي. يقول - تعالى -: \"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا \"(العنكبوت: 69).

فإن تطلب العلم، وتدعو إلى الله - تعالى -، يكون لك تميز في أعمالك، تخطط لمشروع دعوي بارز، كل ذلك يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة وسهر ليالي وإشغال فكر.

فلنتأمل في هذا الموقف وتخيل مقدار ما فيه من مجاهدة:

قال العالم الجليل ابن القيم:\"أعرف من أصابه مرض من صداع وحمى وكان الكتاب عند رأسه فإذا وجد إفاقة قرأ فيه فإذا غلب وضعه\".

 

2 الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله - تعالى -.

إن مما يقوي إرادتنا وعزيمتنا ويشحذ من هممنا، الدعاء بإخلاص وتذلل وقت الأسحار، وبين الأذان ويوم الجمعة وسائر الأوقات المباركات.

 

3 اعتراف الشخص بقصور همته: واعتقاد إمكانية تطويرها دون يأس ولا عجلة.

 

4 قراءة سير سلف هذه الأمة: يقول الإمام ابن الجوزي:\"وعليكم بملاحظة سير القوم ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم\".

 

5 مصاحبة صاحب الهمة العالية: من يؤثر فيك فعله قبل مقاله.

 

6 الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها: وكل إنسان أعرف بنفسه وبما يؤثر فيها ويحبطها:

 

واحذر مما يلي:

1 مصاحبة البطالين وذوي الهمم الدنيا أو من ليس عندهم أي همة أصلاً.

2 الانهماك بتحصيل المال.

3 كثرة التمتع بالمباح وأن يكون هو الشغل الشاغل.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply