وقفة المؤمن


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمضي دعوة الله في الأرض عبادةً لله وطاعةً، وتحقيقاً للاستخلاف الذي أراده الله، ومجاهدة ومعاناة على سنة الله في الابتلاء والتمحيص. ويمضي المؤمنون في درب الجهاد والعمل على مواهبهم وقدراتهم البشرية، بين خطأ وصواب، واستقامة وزلل. سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً. ويمضي المؤمن على صحبة كريمة لمنهاج الله قرآناً وسنةً، يمده بالقوة والعزيمة، والهدى والنور، والموعظة والشفاء.

وعلى طريق الدعوة الطويل لا بد من وقفات.. وقفات مراجعة وتذكير، ومحاسبة ونظر، استجابة لأمر الله: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ, واتقوا اللهَ إن الله خبير بما تعملون. ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسَهم أولئك هم الفاسقون ) [الحشر:18-19] وآيات كريمة وأحاديث شريفة تدعو إلى هذه الوقفة المؤمنة. إنها وقفة لا تعطل عملاً، ولا توقف مسيرة، ولا تقطع نهجاً. إنها وقفة تحرك النية في القلب، فتدفع للتوبة والإنابة والاستغفار، وتنشط الصحوة والرجاء والأذكار، وتنمي الطاقة، وتصحح المسيرة وتقوي البصيرة: (إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشيطانِ تذكّروا فإذا هم مبصرون. وإخوانهم يمدّونهم في الغيّ ثم لا يقصرون) [الأعراف:201-202].

 

وفي صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومع ظلال الوحي الندية، ورعاية السماء، كان للمؤمنين وقفات كثيرة مثل هذه الوقفات. يعرض لنا كتابُ الله نماذج شتى منها، ومع كل نموذج دروس وعبر.

ولعل سورة آل عمران تمثل وقفة رائعة من هذه الوقفات المباركة، لتكون درساً للأجيال كلها، والعصور كلها. وقفة استكملت كل غاياتها وبلغت كل أهدافها.

 

لقد نزل صدر سورة آل عمران إلى ثلاث وثمانين آية في وفد نجران. وكان قدومهم سنة تسع من الهجرة، وآيات أخريات نزلت بمناسبة غزوة أحد، وكانت غزوة أحد في السابع من شوال سنة ثلاث من الهجرة، ويُروى أن الآية [199] نزلت لما جاء نعي النجاشي.

 

أحداث وفترات، كان للقرآن عندها وقفات. وعلى أقل تقدير استغرقت الوقفة هذه كلها ست سنوات. فكانت وقفة طويلة استوعبت أسس العقيدة والتوحيد، ومواطن الضعف في الإنسان، وما زين له من حب الشهوات، كما استغرقت مسيرة الدعوة وملامح من تاريخها، وعلاقات المؤمنين مع سائر الفئات من كافرين ومنافقين وأهل كتاب. وكانت الوقفة كلها والعرض كله يتم من خلال عقيدة وإيمان، ويقوم على أسس وميزان، لا من خلال أهواء ورغبات، ولا أماني وأوهام. تعرض الواقع ولا تموّهه بطلاء الدعاوى، وتغذي النفوس بالحق ولا تغريها بالوهم.

 

وكانت وقفة إيمانية، حملت معها جميع خصائص الوقفة المباركة، والنهج الرباني. وقفة المراجعة والحساب، والتذكير والتدبر، والاعتبار والنظر.

كانت وقفة استغرقت آيات طويلة مع دقة في التحليل، وروعة في التناسق والربط، بما تعجز عنه القدرة البشرية مهما نبغت حتى تظل هذه الوقفة درساً للأجيال المؤمنة كلها على امتداد العصور والآماد.

وكانت ملامح الضعف في بعض جبهات الصف المؤمن بادية منذ اللحظة الأولى، فكشفها القرآن آياتٍ, تتلى حتى يوم القيامة دون أن تطوى تحت أستار الهوى فتموت التجربة، وتنمحي العبرة، وتخسر الجماعة حسراناً فوق خسران: (إذ همّت طائفتانِ منكم أن تفشلا والله وليٌّهما وعلى الله فليتوكّل المؤمنونَ) [3: 122].

 

وظلت رحمة الله تنزل مع هذا الضعف ليحمي الله دعوته وينصر جنده. والطائفتان هما بنو سلمة وبنو حارثة، فثبّتهما الله ولم تنصرفا. ومضى استعراض المعركة من خلال منهج رباني يضع القواعد، ويثبت النفوس، ويربط الأحداث، ويذكّر بالنعمة من ملائكة تتنزل، ونصر في وقعة بدر، ومغفرة وجنة، وحكمة بالغة:

(إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القومَ قرحٌ مثله وتلك الأيامُ نداولها بين الناسِ ولِيعلمَ الله الذين آمنوا ويتخذَ منكم شهداء والله لا يحبٌّ الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحقَ الكافرين).

 

ثم يعرض القرآن مواطن الضعف، وأسباب التولي عرضاً واقعياً، ثم يدخل إلى أغوار النفس فيكشف عن مواطن ضعفها، وخبيئة صدورها:

(ولقد صدقكم اللهُ وعدَه إذ تحسٌّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتُم من بعد ما أراكم ما تحبٌّونَ منكم من يريدُ الدٌّنيا ومنكم من يريدُ الآخرةَ ثم صرفكم عنهم لِيبتليَكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين. إذ تُصعِدونَ ولا تلوونَ على أحدٍ, والرسولُ يدعوكم في أخراكم فأثابكم غمَّاً بغمٍّ, لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبيرٌ بما تعملون).

 

كشف وتعداد وإحصاء لمكامن الضعف، يعرضها القرآن دون أي طلاء أو تمويه. إنه الحق من رب العالمين. وإنه نهج الإسلام وهذا الدين، ولا نهج سواه بين المؤمنين، في وقفة المحاسبة والتذكير، وفي ميدان التدبر والتدبير: فشلتم، تنازعتم في الأمر، عصيتُم، منكم من يريد الدنيا، تُصعِدون ولا تلوون على أحد! أخطاء كبيرة ولكنها خرجت من نفوس استحقت رحمة اللهº فأنزل الله رحمته، وشملها بحنانه ورعايته: (لكيلا تحزَنوا..) حتى كان الله - سبحانه وتعالى - يريد أن يرفع الحزن عن جنوده الذين أبلوا بلاء، فأخطأ بعضُهم، واستزلهم الشيطان.

 

ويمضي القرآن الكريم على هذه النهج يكشف الخطأ ومواقف الضعف: (إنّ الذين تولّوا منكم يومَ التقى الجمعان إنّما استزلّهم الشيطانُ ببعضِ ما كسبوا ولقد عفا اللهُ عنهم إنّ الله غفور رحيم).

هكذا يعرض الخطأ ويعزوه إلى سببه الحقيقي: (إنما استزلّهم الشيطانُ)، وتمضي رحمة الله تغشى هذه العصابة ترغيماً للشيطان، ولطفاً من الله: (ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم).

 

ولا يتغير هذا النهج الرباني مع كل وقفة: وقفة غزوة تبوك، وقفة في سورة الإسراء، وقفة في سورة عبس وتولى، وقفة في سورة النور، ومع كل وقفة مراجعة وتذكير، وتقويم وتصحيح.

 

وفي النظرة المادية والفكر اليساري قد تدور مراجعة حساب فيسمونها \"النقد والنقد الذاتي..\" وهذا الذي يقدمه المنهاج الرباني لنا شيء أعظم بكثير، وأجلّ بكثير، إنه الرحمة من الله، والنصح بين المؤمنين، والتدبر والعظة.. إنها وقفة المؤمن، ووقفة الجماعة المؤمنة، ووقفة الأمة، لتصدق ربها، في دينها، في أمانتها.

 

لقد مضت سنوات طويلة، عشرات من السنين، بل قرون طويلة قاسية، لم نشعر فيها بمثل هذه المواقف، ولا بمثل هذه المحاسبة، لمراجعة النهج والخطة التي يضعها الجهد البشري، ولمراجعة الكلمة التي تتفوّه بها طاقة بشرية، في أي ميدان من ميادين الدعوة، وساحات الجهاد..!

عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل بني آدم خطّاء وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابون». رواه الترمذي وأحمد والحاكم.

فاقترن الجهد البشري بالخطأ..! كل بني آدم خطاء، ولذلك كان لا بد من وقفة للمؤمن يراجع بها خطواته وخطته، وكلمته، وجهده، وليحاسب فيها نفسه.

واقترن الخطأ في هذا الحديث بالتوبة: « وخير الخطائين التوابون » وفتح باب التوبة والاستغفار والذكر والعودة إلى الله، حتى تكثر هذه الوقفات المباركة.

 

إن الأمة المؤمنة لا تخفي أخطاءها تحت ستار الكبر والغرور، ولا تغمض الأبصار عن زلل وعيوب. ولكنها تجابه أخطاءها بجرأة ووضوح، وتحمي نفسها من المضي على عوج وجنوح. ولا يستطيع ذلك أحد إلا المؤمن لأنه قوي بالله، صادق مع الله، واضح مع ربه، مع نفسه، مع المؤمنين، مع الناس أجمعين. نيته الإخلاص، وكلمته الصدق، ودعوته الحق. يمضي على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

 

بهذا الأسلوب الرباني لا تتحول الأخطاء إلى عقد نفسية قاتلة، ولا تتجمع ركاماً يحجب الرؤية، ولا أهواء تمزق الأمة.

 

بهذا الأسلوب الذي تردّ فيه كل الأمور إلى منهاج الله قرآناً وسنة، ميزاناً عادلاً ثابتاً لا يبدله الهوى، ولا تحرفه الشهوات، بهذه العودة الكريمة إلى منهاج الله، تسهل الوقفة المباركة، ويسهل الحساب والتذكير، وتتيسر مراجعة النهج، وقواعد التربية، ومسيرة طويلة طيبة مباركة، ماضية إلى يوم الدين.

 

فلا خير في وقفة لا ميزان لها. ووقفة المؤمن ميزانها منهاج الله، ووقفة المؤمن، ليحاسب نفسه ويراجع نهجه وخطته، لا تعطي الثمرة المرجوة، والتقويم الضروري إذا لم يكن لديه مقياس عادل، وميزان ثابت، يقيس به الأمور، ويزن به الأحداثº حتى يستطيع أن يحدد الخطأ ويعرفه فيعود عنه، ويرى الحق فيثبت عليه ويمضي فيه. وهذا الميزان والمقياس ضروري سواء لوقفة المؤمن، أو الجماعة، أو الأمة كلها. وهو ميزان لم يضعه البشر، ولم يضعه الإنسان. إنه ميزان الله، ومنهاج الله، أنزله على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - قرآناً وسنةً، إنه الحق لا باطل معه، ولا حق سواه.

ويقوم هذا الميزان - حتى يستطيع المؤمن أن يزنَ به - على ثلاث قواعد: صدق الإيمان، وصدق العلم، ودائرة الأمانة والمسؤولية في ميدان العمل والممارسة، مهما ضاقت دائرة الأمانة والمسؤولية أو مهما اتسعت، فإن هذا الميزان وحده هو الذي يوزن به ويقاس عليه، وزناً عدلاً ومقياساً أميناً.

 

فهل تعود هذه الوقفات..؟ هل تعود في حياة المؤمنين ومسيرة العاملين..؟ وهل من صحوة إيمانية، قرآنية، ترفع الغفلة والارتجال، وتزيح الوهم والظنون، وتمتص الخدر من العروق؟

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply