إن من معاني ( التزكية ) و ( التربية ) النماء و الترقي بالشيء نحو الكمال، و الإيصالُ له نحو المطلب المرموق، و هذا المعنى مضموم مع المعاني الأخرى التي تعني ( التحلية ) بكل فضيلة، و ( التخلية ) من كل رذيلة، و بضمِّ ذاك مع ذين يكون الشأن واضحاً بيِّناً، و نتحصَّلُ على قاعدةٍ, أُمٍّ, في التربية الذاتية.
تلك هي قاعدة: الترقية في التربية، إننا حين نسعى في تربية ذواتنا و غيرنا فإننا نطمحُ من تلك التربية بالوصول إلى أمرٍ, من الغايات الكمالية، و نصلُ إلى هدفٍ, سامٍ, شامخ، و هذا من أُسس المقاصد التربوية. و الترقية التربوية ملازمةً للطموح، و مجاريةً للهمة، و مصاحبةً للعزيمة، و من تخلَّى عنها ممن يأمَلُ من نفسه أن يكون ذا طموح,ٍ, و همةٍ,, و عزمةٍ,, فليس من آمالِه في شيء، و لا من أمانيه في حظٍ,.
ذلك أن الهمةَ السعيُ في تحصيلِ الغاية مع بذلِ ما دونها لها، و الماكثُ على حالٍ, في تربية نفسه, و تهذيبها ليس آتياً بمعنى الهمة، و لا جائياً بحقيقتها.
و الطموح ذا نظرٍ, بعيد، و أُفُقٍ, واسع يَرمُقُ المجد غايته، و يُبصرُ الكمالَ نهايته، و الباقي على وتيرةٍ, واحدة على النقيضِ من هذا المعنى.
هذا فيما هو من خصائص النفس و رغائبها، كيف إذا كان من المقررات في الشريعة تحريضُ الشارع عبادَهº لتحقيق الترقية التربوية، يقول الله - تعالى -: { و في ذلك فليتنافس المتنافسون }، بل مايزَ الله بين عباده فجعلهم على مراتبº المقربين، ثم أصحاب اليمين، ثم أصحاب الشمال، و لم يكن هذا التمايزُ بينهم, و التقسيم لهم إلا لبيان أن ذلك بسبب السعي منهم في الترقية التربوية.
و يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: \" مَن بطأ به عملُه لم يسرع به نسبُه \"، و المراد واضحٌ بيِّنٌ ظاهر.
و كان من كلام العلماء التربويين في سَوقِ الحديثِ عن الليل, و أُنسِ الصالحين به و فيه أن جعلوه محلَّ السباق، و ساحة التنافس، و مقام التمايزِ بين العباد في الأسبقِ إلى الله - تعالى -، و لقد كان أبو بكرٍ, - رضي الله عنه - سباقاً إلى الخيرات، راقياً بنفسه في الفضائل لذا عجزَ عمر - رضي الله عنه - عن دَركِ أبي بكر، أو مضارعته، و من أجل ذا - أيضاً - استحق أبواب الجنة الثمانية، و في الأمة كثيرون نالوا مقامات الرقي التزكوي، و لا يزال فيها بقية باقية، فمن ذا و ذاك نعرف مدى قيمة الترقية التربوية، و منتهى نفاستها للراغب في الكمال.
الترقية في مجال التربية لها أنواع و أحوال، منها:
أولاً: الترقي في الوسائل العلمية النظرية، فليس من التربية في شيءٍ, أن يبقى المُربِّي على وسيلةٍ, واحدة يُصبحُ عليها و يُمسي، و يشِبٌّ و يشيب، فإن الركود على الشيء - مع وجود أفضل منه - دنو في الهمة، و ضعفٌ في العزيمة.
التقنية الحديثة أتت بوسائل تعليمية, و تربوية كثيرةٌ جداً، فالتنويع بينها مطلبٌ مهم جداً، و الأخذ بها من عيون الحكمة التزكوية، و من سوابل الترقية التربوية.
و يأخذُ المرءُ المُربَّى على أي وسيلةٍ, تتناسبُ مع همته, و هدفه, و قدراته، و لكن بشرطين:
الأول: أن تكون وسيلةً مباحةً، فلا يجوز الاعتماد على الحرام للوصول إلى الحلال، فإن الغايات لا تبرر الوسائل، و في الوسائل المباحة ما يُغني عن الحرام, أو المُشتَبَه فيه.
و الوسائل المُحرَّمة متنوعة منها:
* إلزام المرءِ المُربَّى وسيلةً فيها مضرةً عليه، كالتجويع المضر، و كالإسهار المهلك، و كالوقوف المرهق، فإن مثل هذه إذا كانت تؤخذ للتربية, و يلحقُ صاحبَها ضررٌ فلا يجوز، و أما إذا فيها دُربَةٌ على الصبر، و تعويدٌ على الجلَد - مع عدم المضرَّة - فلا بأس، على أن الإعراضَ عنها خيرٌ.
الثاني: أن تكون نافعةً مفيدةً، فليست كلٌّ وسيلةٍ, مفيدة و نافعة، فمن الوسائل ما هو مباحٌ لكن لا فائدة منها, و لا منفعة فيها فتكون الترقية قاصرةٌ ناقصة، و منفعةُ الوسيلة تؤخذ من طريقين:
أولهما: النصٌّ الشرعي، فإنه قد جاء في النصوص بيانٌ للطرق النافعة في الترقية بالنفس، و أنها ذات نفع و ثمرة، كـ: الترغيب و الترهيب، و الأخذ بالمُربَّى في الشدة أحياناً للتأدب، و الهجرِ الجميل، و غير ذلك، و كلها نافعةٌ بنصِّ الشارع.
ثانيهما: التجرُبة، فمن الوسائل ما جُرِّبَ فظهرَ أثرُ نفعه فيكون مفيداً لذلك الأثر، استناداً على الأصل العام أن الأشياء الأصل فيها الإباحة، و أن ما نفع منها و أفاد فيؤخذ به.
و عليه أن يكون في أخذه بتلك الوسائل مراعياً الأولويةَ فيها، فلا يجنح لقليلِ منفعةٍ,,و أثرٍ,, مع وجود ما هو أكبرُ نفعاً منه.
ثانياً: الترقي في العمل التطبيقي التربوي، فإنه متنوِّعٌ منه العلمي، و منه العملي، و الأخذُ بالمُربَّى في هذا الجانب رُقياً و صعوداً ضروري، و الاقتصارُ على الدون، و الركود على الحال من أضداد الكمال.
أولَ بَدءِ المرءِ بتربية نفسه يكون آخذاً بالهيِّن السهل على نفسه، سالِكاً معها مسلك الترغيبِ تاراتٍ,، و الترهيب تارة، مجارياً لها، عاذراً خطأها، و كلٌّ ذلك للتعَوَّدَ على أن تتجلَّدَ على الأخذ بالشدائد و الصعبِ من الأعمال, و العبادات.
و الأعمالُ العبادية متنوِّعةٌ كثيرة، منها ما يندرجُ تحت جنس الصلاة، و منها المُضمَّن لعمل الذكر، و ما إلى ذلك.
إن السلوك بالمُرَبَّى على سابلة الترقي, و الصعود في الجانب العملي و العلمي من أهم ملامح هذه القاعدة التربوية النفيسة، كما أن إغفالها و إهمالَها و تركها، و عدم رعايتها ترقِّياً شرخُ خطرٍ, في التربية.
ففي الصلاة يكون بَدؤه - بعد إتيانه بما يكون من لوازم المسلم في يومه و ليلته [ الرواتب، الوتر، القيام ] - بصلاة الضحى، و النفل المطلق، و سائر الصلوات النوافل المُستحب الإتيان بها.
فنتلخَّصُ إلى أن يكون شأنه في السير في الترقي في صلاته على النحو التالي:
1. النوافل المؤكدة على المرء إتيانه بها، كـ: السنن الراتبة، و الوتر، و قيام الليل.
2. النوافل المستحبة المقيَّدة، كـ: صلاة الضحى.
و يُلاحظُ في الأمرين التدرٌّج و الحكمة في الأخذ بالمُربَّى في الترقية التربية، فإن بعضاً منها لا يتناسب مع المُربَّى، و بعضها أقلَّ منه، فمراعاة الحكمة, و التدرٌّج مهم جداً.
3. النفل المُطلَق العام في جميع العبادات.
من أفضلِ ما يُرَقِّي المرء في العملية التربوية، و المنهجية التزكوية جعلُ مراحلَ للعملية التربوية، و وجعلُ مدىً زمنياً للمراحل، و الأخذ بالمُربَّى في تلك الأحوال على أحسن حال، فإن هذا لو أخذ به المرءُ لكان مُحصِّلاً لمنافع كثيرات جداً في سبيله التربوي.
و بعدَ هذا لابد من أخذ الأمور التربوية بحزمٍ, و جد، و الإعراضِ عن الهزل, و اللين في غير محله، فقد مللنا وجودَ جيلٍ, مُربَّى على غير جادة من التزكية النافعة، و مللنا من تواجد عينات من الصالحين اتخذوا رسماً صورياً للاستقامة, و خلوا من حقائق تلك الأحوال و الأخلاق.
و ما ألذَّ أن يشتغلَ المُتَزَكِّي بكتب الأئمة الأعلام: ابنُ قيم الجوزية ( مدارج السالكين ) و ( طريق الهجرتين )، أبو حامدٍ, الغزَّالي ( منهاج العابدين ) و ( مكاشفة القلوب )، ابنُ رجبٍ, ( الدٌّلجة ) و ( لطائف المعارف ) و غير ذلك كثير.
و الاعتكاف على قراءة تراجم الصالحين و العُباد ففيها النفع الكبير
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد