بسم الله الرحمن الرحيم
يشكو كثيرٌ من الناس آفاتٍ, في طريق تحصيلهم العلم، بل يشكون عدم جدوى سلوكهم دَربَ (العلم).
و نرى في عباراتهم التوجع من فوات الأعمار في أشياءَ ظنوها علماً وما هي بذاك.
و لهؤلاء أقول: إن الأمر قد عمَّ كثيراً من سالِكي دَربَ (العلم)، وصدحوا بصرخاتٍ, مدوية أرجفت قلوب الغيورين على جانب (العلم) وجانب (العمل) وجانب (الإصلاح).
و هذا الخلل الكائنُ في صفوف طلاب (العلم) إنما عَودُهُ إلى إهمال (السياسة العلمية) وعدم مراعاتها.
إن أحوال المرء لا تكون فوضوية إلا ويصاحبها الفشل الدائم وعدم الاستفادة، ولا تكون مرتبةً مَسوسةً إلا كان لها
نتاجٌ طيب ونفع مستمر.
ومن ذلك (العلم) فإذا كان الطالب سالكاً فيه جادةً مسلوكة، وطريقة محفوظة حَظِيَ بعوائد الفوائد، وأما إذا كان
سلوكه من خلال طريق خطرت، أو سبيل طرأ فسُلِكَ فإن عوائده بوائد.
لقد نال كثيراً من الناس ذمُّ بسبب إهمال (السياسة العلمية)، كما نالَ غيرَهم مدحاً وحمداً في حسن (العلم) بسبب
رعاية (السياسة العلمية):
إن (السياسة العلمية) حين نعرضُ للكلام عنها فإننا نحصرها في سياسة الطلب. وأعني بها: رعاية (السياسة
العلمية) في وقت تلقي (العلم).
و هذه مما أولاها العلماء عنايةً تامةً، ورعايةً كاملة عامة.
وغالباً ما تكون الطريقة في الطلب مفتقرةٌ إلى معرفة (الشيخ) بأسلوب (التعليم)، ونجاح (السياسة الطلبية العلمية) وفشلها منوط بمعرفة الشيخ وعدمها.
والعُمدَةُ في (السياسة الطلبية العلمية) هي اعتمادُ طريقةٍ, آتت ثمارها، وأثبتت فوائدها. وأما الاعتماد على طريقة لم تُسلَك ولم تُطرَق فلا أظن أن نتاجها بذاك المؤتي لذته.
وقبيحٌ بطالب (العلم) أن يَعمَدَ إلى طريقة يبتكرها فيسلكها في (العلم)، مهملاً بذلك نصح الشيوخ، وتوجيه
المربين.
كم كنا نسمع عن صبيانٍ, شرعوا في المطولات فما جاوزوا مقدماتها، وكم سمعنا بأقوام من الشبان بدأوا في جرد
المتون على تلقاء النفس فما خرجوا إلا بما دخلوا به.
والعَتَبُ مُرسَلٌ إلى المشايخ كما هو إلى الطلاب، إذ إهمالهم التوجيه خلل يُحاسبون عليه، ويدانون به.
وكانت جادة العلماء قديماً وحديثاً معروفة مشهورة في (التعليم) فكان مسلكهم في تعليم الطلاب (العلم) ما يلي:
أولاً: التدرٌّجُ في التعليم، فكانوا يبدءون بالطالب من الصغار ثم يرتقون به، وهذا حال الربانيين.
والتدرج على أنواعٍ, ثلاثة:
أولها: تدرجٌ في الفنون، فيبدأ الطالب بالفنون الواجبة عيناً عليه، ثم الكفائي،....
ثانيها: تدرجٌ في المتون، ويكون بدءً بالمتن الصغير، ثم المتوسط، ثم الكبير.
ثالثها: تدرجٌ في الشرح، فيكون على مراحل ثلاثية على شاكلة التدرج في المتون.
قال ابن خلدون - رحمه الله -: [اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج، شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يُلقي عليه أولاً مسائل من كل باب في الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرِّبُ له في شرحها على سبيل الإجمال ويُراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يُورَدُ عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملَكَةٌ في ذلك العلم إلا أنها جزيئة وضعيفة. وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفى الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مراناً على التعليم وصواباً فيه ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً. ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم] أهـ (المقدمة: ص 531-532). فهذا كلام مؤصِّلٌ لهذه (السياسة التعليمية) المُهمَلَة عند كثير من طلاب وأهل العلم في هذا الزمان.
ثانياً: الاعتماد على المتون المعتمدة في الفنون، فليست كل المتون في أي فنٍّ, هي عُمدٌ فيه، وهي المعتبر بها، بل جرت عادة العلماء على اتخاذ متون في كل فن هي المعتمدة فيه.
قال العلامة المرعشي الشهير بساجقلي زاده: [المنقول من سيرهم، والمتبادر من كلماتهم في مؤلفاتهم أنهم تناولوا متون الفنون المعتبرة وهي مسائلها المشهورة] أهـ (انظر: ترتيب العلوم ص 80).
وهذا من أنواع الخلل الواقع فيه كثير من الشيوخ وطلاب العلوم في تدريس المتون.
والمرجعية في ذلك إلى محققي الفن من المتقدمين المتأخرين (المتقدمين عن المعاصرين، المتأخرين في الزمان).
وإهمال هذه (السياسة العلمية) مما يجلب علينا ضرراً كبيراً كثيراً قال البشير الإبراهيمي - رحمه الله -: [إن الذبذبة التي شهدنا آثارها السيئة في هذا الجيل الذي نحن في آخره معظم السبب فيها آتٍ, من قارئيه ومتعلميه على قلتهم فهم على تفاهة معلوماتهم وقلة محصولهم من المعرفة لا يرجعون إلى أصل واحد في التعليم ولا إلى منهج واحد في التربية.
وإذا اختلفت الأصول والمناهج في أمة واحدة كانت كلها فاسدة، لأن الصالح كالحق لا يتعدد ولا يختلف] أهـ (آثاره: 2/ 111).
والله أعلم وهو الموفق.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد