إن مصائب الدنيا كثيرة وهمومها عديدة، ولا يكاد الإنسان يصحو من هم، أو ينجو من مصيبة حتى يبتلى بأخرى، وفي ذلك يقول المتنبي:
نعد المشرفية والعـوالـي
وتقتلنا المنون بلا قتــــال
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نــبال
فصرت إذا أصابتني سـهام
تكسرت النصال على النصال
وهان فما أبالي بالرزايــا
لأني ما انتفعت بأن أبـالـي
يدفن بعضنا بعضاً وتمشـي
أواخرنا على هام الأوالــي1
والمصائب أنواع منوعة وألوان ملونة، فقد يبتلى الإنسان بفقد صاحب، أو مرض صديق، أو إساءة قريب، أو نكران جميل، أو غيرها. ولو هذه الرزايا والآلام في قلوب الناس وذاكرتهم لكان ذلك بلاءً عظيماً، إذ يجتمع هم على هم، وتتراكم مصيبة على مصيبة، فتعظم البلوى، وتشتد الأزمة، وتسوء العاقبة، ولا يسلم منها إلا من يسلمه الله – تعالى -.
لذا، من فضل الله على عباده أن رزقهم نعمة النسيان، فينسى الإنسان إساءة المسيئين، وجفوة الجافين. ويجمل الخلق ببعضهم ويسمو ليصل إلى أمر أعظم من النسيان وهو الصفح والغفران.
إن نعمة النسيان نعمة عظمية، فمن أراد راحة البال وحسن العاقبة والمآل فليحاول أن ينسى ما يلقاه من الآخرين، أو ما يُبتلى به من مصائب الدنيا، وليبدأ صفحة جديدة مع إخوانه الذين قصروا في حقه، فإن ذلك من علو النفس وسمو الهمة. إنك إن فعلت ذلك فسترى كيف يلتف حولك الناس لأنهم يعلمون أن هذه هي أخلاق العظماء الصالحين.
ولكن ينبغي الإشارة إلى أن محاولة نسيان الماضي وعدم تذكر المآسي لا يعني بأي حال أن لا يتعظ الإنسان من الحوادث ولا يستفيد من التجارب، فلا يجوز أن يكون اتعاظ الإنسان لحظياً مؤقتاً، كما قال جرير:
تروعنا الجنائز مقبـلات
ونلهو حين تذهب مدبرات
كروعة هجمت لمغار ذئب
فلما غاب عادت راتـعات
نحن لا ندعو إلى الغفلة، ولا نريد أن يحق علينا قول الله – تعالى -: \" ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يُبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون\". إن الذي ندعو إليه هو أن لا تبقى الذاكرات السوداء المظلمة عالقة في الذهن تفسد على الإنسان حياته وعلاقته مع الآخرين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد