الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
(المراهقة) نَقلَةٌ حياتية يمرٌّ بها الشاب أو الشابة في مرحلة ما بعد البلوغ، وهي تُشعره بنوعٍ, من الاستعظام الذاتي، فيُحاكي (أو تحاكي) من هو أكبر سناً.
وهذا مُلاحَظٌ فإن أغلبَ المُراهقِين يتصرَّفُ تصرفاتِ الكبار، فيصنع كصنيعهم، ويسير مسيرتهم، بغَضِّ النظر عن صحة ذا أو خطئه، فالمهم عنده أنه قلَّد كبيراً، و صنع صنعة من يراه أهلاً للتقليد.
وهذه يستعظمها بعضُ المُرَبين، و يرون أنها آفةٌ من الآفات الخطيرة التي لا علاج لها، ولا سبيل إلى إقصائها وحلها.
لذا كان خطئاً العنايةُ بالتنظير التعليمي للمراهق في علاج تلك الأحوال، ومجانبة تلك التصرفات.
وحتى نجعل من المُراهق شخصاً ذا دورٍ, إيجابي فإن لنا مرحلتين جديرتين بالاهتمام الشديـد:
الأولى: المرحلة العاطفية:
غالباً ما تكون مرحلةُ المراهقة مرحلةً يفقد فيها المراهق (العاطفية) و(الحِنيَّة) و(الوداد)، فيسعى لتحقيق تلك الرغبة في أي مجال يتمكن منه.
ولا ريب أن إشباعها يعني الكثير للمراهق، ومِن ثَمَّ يتودد إلى مَن يُشبِعُ له تلك الرغبة ويحققها له.
لا تكادُ أسماعنا تقف عن سماع أقاصيص من البعضِ في ميول المراهقين إلى ثُلَّةٍ, من الناس لا يساوون قذاةً، ولا يَزِنُ بهم شيئاً، ولو بحثنا بِدِقَّةٍ, في الأمر لوجدنا أنه حصَّل عندهم ما فقده من الأخيار.
كون المراهق محتاجاً إلى تلك العاطفية عائد إلى صِغَر عُمُرِه، فليس كونه بلغَ (15) وزاد أنه أصبح رجلاً فيُحرَم من التعامل معه بالعاطفية، وليس كونه تجاوزَ سنةً دراسية كان معه الأخذ له بأسلوب كبير يفوق عقله.
وإشباعُ الحاجة العاطفية لدى المراهق تكون بأمور كثيرة، منها:
1- عُذُوبَةُ اللفظ، فإن غالباً ما يُواجَه المراهق بألفاظ فيها قسوة وغِلظةٌ مما يجعله نافراً عن قبولِ أيِّ شئٍ, من المقابل له، واللفظ الحسَنُ العذب يَسلِبُ اللٌّبَّ ويَسحَرُ العقل، ومعلومٌ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من البيان لسحراً" وبيانُه يُغني عن تبيانه.
وتتأكدُ هذه الحالة في حينِ وجودِ أخطاءٍ, من المراهق، فإنه يصادمُ بسيئ اللفظ إن أخطأ، ويقابل بفاحش القيل إن بَدَرَت منه زلَّةٌ وصبوة.
2- معاملته بتفكيره -مؤقتاً-، يدورُ تفكيرُ أغلب -بل كل- المراهقين حول أمورٍ، لا يخرجُ مجملُها عن نطاق ضيِّقٍ جداً، فهي بينَ أمانٍ، وطموحاتٍ، وآمالٍ، من ذوات الظل القريب.
والمَسِيرُ معه في تفكيره، ومحاكاته في طموحه، والتفاعل مع أطروحاته مما يُشبِع حاجته العاطفية، فهو يُحِبُ مَن يفكر كتفكيره، ويميل إليه وكما قيل: الطيور على أشباهها تقعُ.
ولِيُنتَبَهُ إلى أن التفاعل معه في هذه النقطة مُمَهِّدٌ للمرحلةِ الثانية الجادة، ولكن لابد من خطواتٍ, قبل الانتقال إليها، بها يُحكَمُ سَيرُ المرحلة الثانية، و يُعطي المُربي اطمئناناً بِثِقَةِ المراهق بجدوى المرحلة الثانية، والخطوات هي:
أولاً: التبصٌّر بمواضع الضَعفِ في المُراهق، فَحِيازةُ هذه الخطوة والنجاحُ فيها مكسَبٌ كبيرٌ جداً للمربي، إذ موضع الضعف في المراهق هو مَكمَنُ الخَطَر ومَوطِنُ الزَلل. تقولُ كيف ذلك؟ فأقولُ: الغالبُ على المراهقين أنه يَشعُرُ بِخَرقٍ, في شخصيته فتراه مُحَاكِيَاً من هو أرفعُ منه _في ظنه_ فلا يَعتَرِفُ أنه ذو شخصية متفرِّدَةٍ, متميِّزَةٍ,، وهذه من أجزاءِ نُقطَةِ الضعف التي تكون في المراهق.
فإذا تبصَّرناها وعرفناها بِدقةٍ, يكون الانتقال إلى الخطوة الثانية وهي:
ثانياً: معرفةُ ميول المراهق، فإن سِنَّ المُراهَقة سنٌّ أحلامٍ, و أمالٍ, عريضةٍ، ومرحلةٌ واسعةُ الخيال لدى المراهق، فتراه يُؤَمِّلُ آمالاً، و يتمنى أماني، و يَسِيحُ في خيالاتٍ, واسعة الأرجاء.
ومعرفتها مُهمةٌ جداً فمنها يكون التوجيه ومنها تكون التربية، وبِعدمها لن يكون أي نِتاجٍ, متين في سلوك التربية مع المراهق.
وإذا تَفَهَّمَ المربي هذه الخطوة وأتقنَها فإنه ينتقلُ إلى الخطوة التالية.
ثالثاً: التوجيه اللبِق _واللباقة الحذق في العمل_، وهذه بيتُ القصيد في حياة المراهق فإنه لم يجد من يقوم بتوجيهه نحو الأصوب له في حياته، ولم يَظفَر بِمَن يُسَدِّدُ له تصرٌّفَاتِه.
والمراهِقُ يتصرَّفُ بما يراه من أعمالٍ, وتصرفاتٍ, حولَه من الناس الذين يراهم قُدُوَاتٍ, له يُأتَسى بهم، وحين لا يرى من يوجه ميوله نحو السداد، ويهديه نحو الكمال فإنه سيبقى سادراً في مسيره، هائماً في طريقه.
وهنا لا يحتاجُ المربي إلى كبير عملٍ, لأن المراهق نفسه قد أبدى من نفسه قناعاتٍ, كثيرةٍ, جداً _ كما هو سابقٌ في تبيان الخطوات_، وما عليه بعدُ إلا أن يبين للمراهق بأن الطريق الصواب هو من هذه الجهة، وبلزوم تلك الطريق.
فإذا ظَفِرَ بها المربي وأحسن سَلبَ لُبِّ المُراهقِ _هنا_ يكون البَدءُ بالمرحلَة الثانية التي تَعقِبُ المرحَلَةَ العاطفية، وهي:
الثانية: المرحلة التربوية:
وهذه المرحلةُ هي الأساس وهي المقصد والغاية من معاملة المراهق والعنايةِ به، وتربيةُ المراهق لن تكون صعبةً _ولله الحمد_ لأننا أنجزنا أكثر من نصف الطريق في المرحلة الأولى.
وكل ما على المربي هو أن يقومَ بتربيةِ المراهقِ تربيةً ذاتِ سداد وإصابةٍ, ، ويُنَوِّعُ في أساليب التربية حتى لا يَلحَق المراهق ملل، ولا يعتري التربية خلل.
يستطيعُ المربي التنقلَ بالمراهق في مجالاتٍ, كثيرةٍ, جداً ، ومجموعُ تلك المجالات ثلاث مجالات:
الأول : المجالُ المَعرِفي:
المَعرفةُ مما مايَزَ الله به بين الإنسان و الحيوان، بل هو أداةُ العقل وغذاؤه، ولا يخلو منه الإنسان مهما كان.
والمعرفة يتفاوتُ البشر في تحصيلها، ويتفاوتون في قيمتها، وقيمةُ المرء ما يُحسِنه.
وأهميتها بالنسبة للمراهق تتركز في جهتين اثنتين:
الأولى: أنها توجيه و تبصير.
الثانية: أنها تثبيت و تأييد.
و سواهما داخلٌ فيهما.
و المعرفة تتنوعُ وإليك أنواعها:
1. المعرفة الدينية، وهي التي يكون بها معرفةُ المراهق أمورَ دينه وأحكامه، وقسمان:
الأول: الواجب العيني، وهو أنواعٌ أربعةٌ:
أ- أصول الإيمان، والقدرُ الواجبُ منها العلم الجُملي لا التفصيلي.
ب- الأحكامُ الفقهية ، و هي أركان الإسلام ، و الواجبُ معرفةُ ما تقوم به تلك العبادات صحةً و إجزاءً.
ت- معرفة المحرمات ، وهُنَّ خمس _كبائر _ في قول الله _ تعالى _: {قل إنما حرَّمَ ربي الفواحش ما ظهرَ منها وما بطن والإثمَ والبغي بغير الحق وأن تُشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
ث- الأخلاقُ والأدابُ مع الناس خاصةً وعامةً.
انظر: مفتاح دار السعادة 481:1-482.
فإذا مرَّ المراهقُ على هذه المسائل معرفةَ إتقان ودرايةٍ, بها يكون قد أتى بما لا يجوز له لجهلُ به في دين الله _ تعالى _.
القسم الثاني: الواجب الكفائي، وهو الإتيان بالعلم بما لا يجب على الإنسان أن يتعلمه و إنما هو من باب الكفائية و الندب.
وهو منقبةٌ وفضيلة.
2. المعرفة الثقافية العامة، كالاشتغال بسائر العلوم التثقيفية كالتاريخ، والأدب، والإدارة وغيرها من الثقافات.
الثاني: المجالُ الإيماني:
الإيمانُ أساسُ الحياة، وبستان القلب، ولا يستغني عنه المرء أبداً ولو تمتع بكل ما أوتيه من مُتَعٍ, ولذائذ.
والتربية الإيمانية مهمةٌ في حياة المراهق، وأهميتها في أمرين:
الأول: أنها أساسٌ في حياته عامةً، وفي حياة المراهقة خاصة.
الثاني: توثيقاً للصلة بينه وبين الله _تعالى_، ونتائج هذه كثيرةٌ ومهمة للمراهق.
والمجالات التربوية الإيمانية ثلاثةٌ:
أولها: الصلاة، والمراد بها غير الفريضة كـ: الرواتب، وقيام الليل، والوتر، والنافلة المطلقة، والنافلة المقيدة.
ثانيها: الذكر، وهو ذكر الله _تعالى_ ويُقصَدُ به غير الواجب، والواجب ما تقوم به الصلاة، والمقصود _هنا_: أذكارُ طرفي النهار، وأدبار الصلاة، والذكر المطلق.
ثالثها: قراءةُ القرآن في: إقبال النهار وإدباره، ودُبُرِ الصلوات، والوِردُ اليومي. ولا يُرادُ بقراءته الواجبة التي لا تتم الصلاةُ إلا بها كالفاتحة.
هذه هي مجالات التربية الإيمانية للمراهق، وهي الداعم المعنوي للسير به نحو التميٌّز و التفوق.
الثالث: المجالُ الخُلُقي:
المرءُ مدنيٌ بطبعه، لا يستغني عن معاشَرة بني جنسه، ولا يستطيعُ الفكاك عنهم مطلقاً، وهذه الغريزة النفسية التي وهبها الله المرء تحتاجُ إلى من يَصقلها ويهذبها، ويصوِّبُ سيرها نحو الكمال والتمام.
ومن كمال الشريعة أن جاءت بما يُكمل هذه الناحية، ويهذب هذا المجال، فجاءت بأخلاقٍ, كثيرةٍ, جداً وآدابٍ, بها قِوامُ السلوك الاجتماعي على أحسن وجوهه.
والمراهقُ جزءٌ من المجتمع المسلم _وغيره_ فلابدَّ من تربيته أخلاقياً حتى يستقيم سيرُه بين الناس على أحسن الأوجه، وأتم الصُوَر.
الشريعة جاءت بأخلاقِ المعاشرة الاجتماعية ونوعتها أنواعاً متعددة يَصعُبُ حَصرُها في هذه العُجالة، والإشارة إلى أصول الأخلاقِ حَسَنٌ جميلٌ.
وأركان الخُلُقِ الحَسَن:
1- العلم، ومضى تقريرُ ما يحتاجه المراهق.
2- الجود، وهو مراتب أعلاها: بذل النفس، وبذل العلم، وبذل الجاه، وبذل المال.
3- الصبر، وهو أربعةُ أنواعٍ:
أ- صبرٌ على الطاعة.
ب- صبرٌ عن المعصية.
ت- صبرٌ عن فضول الدنيا.
ث- صبرٌ على المِحَن والمصائب.
وأضدادها أركانٌ للأخلاق المذمومة المرذولة.
فهذه مجالاتُ المرحلةُ الثانية في التعامل مع المراهق، والسير معه في إقحامه دربَ النجاة، وتبقى لفتةٌ ذاتُ بالٍ, يجبُ الوقوف عندها، وهي: أن تمام تينك المرحلتين صُنعاً وإحكاماً يكون بالمربي ذاته، فمتى ما كان المربي على أوفقِ حالٍ, وأجملها كان النتاجُ طيباً مبارَكاً، والمربي ينبغي أن يكون متصفاً بأصول ثلاثةٍ:
الأول: العلم، فإذا كان المربي خالي الوِفاض من العلم والمعرفة كيف يكون متأهلاً للتربية لغيره، بل عليه أن يكون متأهلاً بعلومٍ, ومعارف كثيرةٍ,.
الثاني: إجادةُ أسلوب التربية، وأعني بها السياسة التربوية لإيصالِ الغاية والمعرفة للمراهق، وأصلها التدرٌّجُ بالمراهق من البدايات إلى النهايات.
الثالث: أن يكون أهلاً للاقتداءِ به والإئتساء به، والتواضع البارد في هذه المجالات غير مقبول وهو نوع من الخذلان والهروب عن المسؤولية.
نعم لا نريد رجالاً يعتزون بأنفسهم ويجعلون منها شيئاً له بريقٌ ولمعان مع الخلو من الحقيقة، كما أننا لا نريد رجالاً لا يرون أنفسَهم شيئاً وهي هي بالمقام التربوي والمعرفي.
إن تأهل المربي لأن يكون محلاً للاقتداء مهم في وظيفةِ (صناعة المراهق) لأن المراهق يريد أحداً ينظرُ هو إليه على أنه مستحقٌ للاقتداء به وجعله نبراساً ومثالاً للحذو على منواله، وأقربُ مَن له هذه الصفة والحالة هو المربي الملاصق له في أغلب ساعات يومه.
ولأهمية هذه اعتنى أهل التربية والسلوك بها فسطروها في تصانيفهم التربوية والسلوكية ذاكرينَ لآدابهم وأخلاقهم، وما ذلك إلا لكونهم أسوةً لغيرهم من المُرَبَّين وغيرهم.
وأصلُ كلٍّ, في المربي أن يكونَ مراقباً الله _تعالى_ في جميع أحواله وشؤونه فإنه _تعالى_ رقيب على كل ظاهر وباطن، وكل جلي وخفي.
والمُربي أصلٌ والمراهقُ فرعٌ ولا يطيبُ الفرع مع فساد الأصل.
ومن أجل أن تتحقق الرغائبُ، وتُنالَ الكمالات في (صناعة المراهق) الاهتمام بأمرين مهمين في كل عمل وهما:
الأول: العزيمة في العمل والسير فيه.
الثاني: الجدية في إتقانه.
ومنهما وفيهما أمران:
أحدهما: حُسنُ الإدارة وذلك بـ: التخطيط، وصياغة الأهداف.
ثانيهما: التفاؤل وعدمُ اليأس، والفشلُ أولُ خُطى النجاح.
هذه معالمُ مُشرقةُ واضحةٌ في (صناعة المراهق) جادَ بها على عِوَزٍ, الفكرُ المكدود، سدد الله الخُطى، وأقالَ الخطا، وبارك في الجهد، وأفاد السَّعد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد