بصائر في التربية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمدُ لِلَّهِ نَستَعِينُهُ وَنَستَغفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِن شُرُورِ أَنفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعمَالِنَا، مَن يَهدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِل فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ،                                  أما بعد:

فإن تربية الأنفس مطلب مُلِحّ خصوصاً في هذا الواقع الذي امتلأ بالشهوات والشبهات، والتي أصبحت الأنفس في واقع فيه غربة يذوق الإنسان فيه مرارتها، وتشتد عليه الغربة ما بين فينة وأخرى، وهو مصادق لحديث النَّبِيّ r « بَدَأَ الإِسلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلغُرَبَاءِ » وهذا يدعو الإنسان إلى أن يخطو خطوات صائبة بثبات على منهاج النبوة في باب تزكية النفس وتربيتهاº لأن النفس لا تستطيع أن تقف أمام الشبهات والشهوات إلا بتزكية وتربية حتى إذا صقلت: كانت شامخة الرأس عليّة.

وتربية النفس ضرورة، وهو استجابة لأمر الله Iº إذ إن الله U قد أمرنا أجمعين أن نزكي أنفسنا، وأن نقيها الذنوب والمعاصي حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً﴾، قال الربيع بن أنس: \"﴿قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَاراً﴾ يعني: أدبوا أنفسكم وأهليكم على أمر الله U\" أخرجه الآجري في (أدب النفوس).

وقد ربط الله U فلاح هذه الأنفس بتزكيتها وتربيتها في غير ما موطن في القرآن، فيقول الله U: ﴿ قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾، يقول ابن تيمية يرحمه الله - كما في كتابه الموسوم بـ(تزكية النفس) -: ’’والمقصود من هذه الآية هو أمر الناس بتزكية أنفسهم‘‘، وهو المنقول عن سفيان بن عيينة وعن سعيد بن جبير، وقتادة، وجماعة.

فإذا أراد المرء أن يستكمل نقائصه، وأن يسد خلله، وأن يجعل نقسه عليَّة في مراقي الفلاح، فلابد من التربية والتزكية، ولابد من الثبات على هذا الطريق وإن طالت خطاه فيه.

والعقل ينطق بأهمية التربية والرأي يفصح عن أهمية التزكية، وقد كشف عن ذلك أئمة كُثُر حتى قال الإمام الماوردي في (أدب الدنيا والدين): \"لابد من تزكية النفس، ولابد من تربيتها، وإلا بقيت على نقائصها الطبيعية التي خُلِقَت عليها، وبقي فيها غير ذلك مما يكتسبه الإنسان نتيجة كونه باقياً في هذه الدنيا\"، فالنقل والعقل يتعانقان على أهمية تربية الأنفس وتزكيتها، وأنه هو الخطوة التي يبدؤها الإنسان حتى تصفو له روحه، ويحقق فلاحه ونجاحه في أولاه وآخرته.

والتربية في الاشتقاقات اللغوية لها أكثر من معنى، فمن معانيها: الزيادة والنماء، ومن معانيها: الرعاية والتربية.

واصطلاحاً: هي ما كشف عنه الإمام البيضاوي في (تفسيره) حيث قال: \"التربية هي تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً\". ويؤكده الراغب الأصفهاني - كما في (المفردات) - بقوله: \"التربية هي إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام\".

فالتربية باشتقاقاتها اللغوية ومعناها السابق قديمة معروفة، معروفة في اللغة، وهي معروفة في القرآن، ومستعملة في لسان الشارع، وموجودة في كلام السلف الأخيار رحمهم الله ورضي عنهم، فلا يستنكفن المرء عن استعمالها ولا ينأينّ عن لفظها، فكل ذلك من الغلو المرذول، المخالف للمعقول والمنقول.

ولقد اهتم سلفنا الأبرار بالتربية والتزكية للأنفس عبر جانبيها المعروفين: الجانب التنظيري العلمي، والجانب العملي الفعلي فهُما ساقا التربية، وقد أَلَّفَ أئمة كُثر في التربية وتزكية النفس على جهة الخصوص، فقد ألَّفَ الإمام الآجري كتابه الموسوم بـ(أدب النفوس) وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله في كتابه الموسوم بـ(تزكية النفس).

ويمتد الكلام عن التربية والتزكية للأنفس حتى في الحقبة المسماة بـ(التاريخ الحديث والعصر الحديث) فهناك من يتكلم عن التربية وتزكية النفس وتأديبها، غير أن أكثر من يتكلم في باب التربية وتزكية النفس في هذا التاريخ الحديث وفي عصرنا المعاصر تجدهم يكثرون كثرة فاحشة في التنظير وفي الكلام الكثير الذي قد يكون من حشو القول ولا عمل وراءه، والأصل أن الكفاية كل الكفاية في الوحي فيما جاء في كتاب الله وسنة رسوله r، فالنبي المرسل r كان من علل إرساله وحِكَم بعثته أن يزكي الأنفس ويصقلها وأن يربيها حق التربية، وما ذلك إلا مدعاة إلى أن تنشر قواعد التربية في نصوص الوحيين كتاباً وسنة.

ولا ريب أن الإنسان العاقل إذا وجد الحكمة على لسان كافر أو فاسق أو فاجر التقطها وهو أحق الناس بها، ولكن الأصل والمعوّل عليه هو الوحي: كتاب الله وسنة مصطفاه r ثم ما جاء عن السلف الأخيار، فمن اقتفى هديهم، واستن بسنتهم، ومشى على دربهم.

إن التأثر بمعطيات الغرب في التربية وفي تأديب النفس ملحوظ في كتب التربويين في هذا العصر الحديث، وينبغي أن يستغني عنه ذو العقل والحصافة، وأن يلوذ بما جاء في الوحي كتاباً وسنة ففيه الغناء والكفاية، فإن أخذ شيئاً من الحكم الصائبة الصحيحة واستوحاها من معطيات الغرب وكتبه فلا شيء في ذلك، وإنما المذموم هو جَعل ذلك أصلاً تفرَّع عنه القواعد، ويُلاذ به ويُتحاكَم إليه.

تلك مقدمة لا بد منها تدل على أهمية التربية وعلو شأن التزكية، وأنه لا بد للإنسان أن يربي نفسه وأن يزكي ذاته. وحتى يستطيع الإنسان أن يربي نفسه وأن يلزمها منهاج وقانون الشرع لابد من اجتماع قوتين اثنتين:

الأولى: قوة عملية.

والثانية: قوة علمية.

يقول ابن القيم يرحمه الله كما في (طريق الهجرتين): \"كل سائر إلى مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: أما الأولى: فقوة علمية، وأما الثانية فقوة عملية\".

فإن أنت نظرت إلى مناجاتك لله في الصلاة فإنها لا بد أن تقوم على تينك القوتين: على قوة عملية، بأن تعلم قبل الصلاة كيف تصلي، وما هو الواجب فيها والفرض، وما هي السنة في ذلك والمستحبº كل ذلك يكون بقوة علمية تسبق مجيئك بالعمل، وهي باعثة إليه ودالة عليه.

أما القوة العملية فتتمثل في انحناء جثمان جسدك في ركوع وسجود، وفي قول لسانك وفعله من تسبيحات وتهليلات وأذكار وغير ذلك، فكل ذلك يدخل في القوة العملية، فهما قوتان لا بد من وجودهما في أي مقصد تريد تحقيقه.

ولنقف مع كل قوة من تينك القوتين حتى نستكشفها ونعرف القواعد فيها لنحقق تزكية النفس وتربيتها حقاً.

القوة الأولى : القوة العملية:

وهي تقوم على ركيزتين اثنتين لا بد من اجتماعهما، بدونهما لا تقوم القوة العملية:

الركيزة الأولى: الإرادة والعزيمة، الإرادة التي تستنهضك على فعل شيء، والعزيمة التي تجعل القلب ينبعث ليقيم العمل الذي يريده.

والعزم والإرادة نوعان - كما يقول ابن رجب في (شرحه على حديث شداد بن أوس) حيث يقول: \"العزم نوعان: أحدهما: عزم المريد - يعني مريد الخير على الدخول في الطريق - وهو من البدايات. والثاني: العزم على الاستمرار في الطاعات قبل الدخول فيها، وعلى الانتقال من حال كامل إلى حال أكمل منه، وهو من النهايات\". فالعزم الأول يحصل للكافر بالخروج من الكفر والدخول إلى الإسلام.

والعزم لا يخرج عن هذين القسمين:

·           ·         إما أن يكون عزمة البداية.

·           ·         وإما أن يكون عزمة النهاية.

فعزمة البداية هي الشرارة الأولى لوقوع العمل، وهي المقوِّم الأول الذي يستنهض النفس حتى توقع فعلاً أو عملاً أو قولاً أو حالاً أو هيئة، فهذا العزم هو المراد بادئ ذي بدء في القوة العملية، ثم تقوى العزيمة وتُستكمَل وتكون في مدارج كمالية لتقود الإنسان إلى عزمات النهاية، فالعزيمة نوعان:

·           ·         عزيمة أولية في بادئ الطريق.

·           ·         وأخرى في نهايات الطريق.

والأولى هي المقصودة بادئ ذي بدء وأولاً في القوة العملية.

ولابد لك - يا رعاك الله - أن تعالج إرادتك، وأن تصحح نيتك، وذلك بأن تزيل الأوضار والأمراض التي علقت بها، أو التي أصبحت حائلاً بينك وبين العمل، فكثيرون عندهم عزمات ولكنها لا تلبث أن تذهب بعد دقائق وأوقات، ولعل السبب الأكبر في ذلك هو أن هناك حوائل عدة من شوائب سيئة حالت بين النية وثباتها، وبين كون العمل واقعاً مشهوداً بعد إرادته والعزم عليه.

يقول ابن الجوزي - كما في كتابه الموسوم بـ(الطب الروحاني) -: \"إذا كانت الهمة الدنيّة طبعاً لم ينجح فيها العلاج، فإن كانت مكتسبة بصحبة الأدنياء أو لغلبة الطبع والهوى فعلاجُها قريب\" فالهمة على حالتين:

·           ·         الأولى: همة دنية بطبعها لا تبحث عن المعالي ولا تَهفو إلى المدارج العُلا، وإنما هَمٌّها أن تنظر إلى قدميها ولا تنظر إلى الأمام، وكل ذلك مدعاة إلى أن تكون الهمة قاصرة وأن تكون الإرادة دنيّة.

·           ·         والثانية: همة اكتسبت الدنية من وسط اجتماعي عاشت فيه، أو صحبة سيئة دنيئة أخذت الدناءة منها، أو خل كانت معه، فكل ذلك يقود إلى اكتساب دني الإرادات، ولا يجعل الإنسان يتقدَّم في سلم الإرادة نحو المعالي.

فإن كان حالك الأول فإن هناك عسراً عظيماً في الخلاص منه، وإن كانت الأخرى فلا بد من إيقاع المضادات على تلك النوايا وعلى تلك الإرادات التي اكتسبت، بأن تخرج من الوسط الذي اكتسبت منه دني الأخلاق ودني الإرادات، ثم تجعل الروح والنفس في وسط يعلو إلى عالي الهمم، وإلى الإرادات الطيبات الحسان، فإن أنت عالجت الشيء بضده رُجِي لك الفلاح وكُتِبَ لك النجاح.

الركيزة الثانية: مجاهدة النفس، فإن النفس لابد أن تجاهدº إذ لا يكون العمل عملاً ولا يتحقق في الواقع شاخصاً إلا بعد إرادة وهمة، ثم ينضاف إليه مجاهدة النفس حتى يقع ذلك المراد، ومجاهدة النفس فيها عسر ومشقة، وفيها صعوبة، ولذلك يقول ابن قيم الجوزية - كما في (مفتاح دار السعادة) -: \"لا يستطيع الإنسان أن يحقق المعالي من الأمور إلا بمجاهدة نفسه وجعلها عدوة له\". ويؤكد هذا المعنى جلياً ابن رجب يرحمه الله - كما في شرحه لحديث (لبيك اللهم لبيك) - فيقول: \"النفس تحتاج إلى محاربة ومجاهدة ومعاداة فإنها أعدى عدو لابن آدم، فمن ملك نفسه وقهرها ودانها عزّ بذلكº لأنه انتصر على أشد أعدائه وقهره وأسره واكتفى شره\".

وهذا كله تأكيد على مجاهدة النفس وعركها وسل سيف محاربتها تجاهها، واتخاذها عدواً للإنسانº وما ذلك إلا لأنها قد جُبِلَت على أخلاق مشينةº ولأنه لا بد من تخليصها من أسر نفسها، وإنما كانت صعوبة مجاهدة النفس لمعنيين اثنين كشف عنهما الغزالي في (منهاج العابدين) بقوله: \" فإنها أضر الأعداء، وبلاؤها أصعب البلاءº وإنما ذلك كان لأمرين:

·           ·         أحدهما: أنها عدو من داخل الجسد، واللص إذا كان من داخل البيت عزت الحيلة فيه وعظم الضرر.

·           ·           والثاني: أنها عدو محبوب، والإنسان عمٍ, عن عيوب محبوبه لا يكاد يبصر عيبه\".

وهذا كله مدعاة إلى عسر مجاهدة النفس ومحاربتها، وإلى عسر عركها ومعرفة عيبها، ويدل دلالة واضحة أن الناس أجناس، وما حصل هذا الفارق بين الأجناس إلا بحصول المجاهدة، فمن جاهد نفسه بعد همة فإن ذلك مدعاة إلى فلاحه.

ويخطئ كثيرون عندما يعتقدون أن المجاهدة غير متحققة للإنسان خصوصاً عندما تطل الشهوات والشبهات برئوسها، وتستحكم الغربة ويذوق الإنسان مرارتها.

وهذا كله لا يصحº لأن الله U لم يأمرنا إلا بما تستطيعه القوى البشرية والقُدَر الإنسانية، وليستحضر الإنسان حتى يسهل عليه مجاهدة هذه النفس أنه مثاب في عرك النفس ومحاربتها، وأنه مأجور في مجاهدتها. يقول ابن تيمية يرحمه الله في كتابه المسمى بـ(تزكية النفس): \"فإذا كانت النفس تهوى وتشتهي وهو ينهاها - أي صاحبها - كان نهيه إياها عبادة لله تعالى وعملاً صالحاً يثاب عليه، وقد ثبت عن النبي r أنه قال: (المُجَاهِدُ مَن جَاهَدَ نَفسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ).

ويخطئ كثيرون عندما يستأسدون على أنفسهم استئساداً يُخرج المرء عن القصد والاعتدال ويجعل المرء يبتعد عن ما أمر الله U ونبيه r مع هذه الأرواح والأنفس فرُبَّ رجل أراد خيراً فوقع في الوزر، ورُبَّ مريد للخير لم يبلغه كما يقوله ابن مسعود عليه t، ويقول ابن الجوزي في (صيد خاطره) كاشفاً عن شيء من ذلك: \"تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد، ورأيت خلفاً من العلماء والزهاد لا يفهمون معناهº لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق وذلك غلط من وجهين:

·           ·           أما الأول: أنه رُبَّ مانعٍ, لها شهوةً أعطاها بالمنع أوفى منها مثل أن يمنعها مباحاً فيشتهر بمنعه إياه ذلك فترضى النفس بالمنعº لأنها قد استبدلت به المدح….

·           ·           والثاني: أننا قد كُلِّفنا حفظها، ومن أسباب الحفظ لها: ميلها إلى الأشياء التي تقيمها، فلا بد من إعطائها ما يقيمها\".

القوة الثانية : القوة العلمية :

وهي تقوم أيضاً على ركيزتين اثنتين لا بد من اجتماعهما كما ذكر ذلك ابن القيم يرحمه الله في كتابه الموسوم بـ(الفوائد)، وكذا في كتابه (مفتاح دار السعادة).

الركيزة الأولى: معرفة الشيء المراد تحقيقه، فلا بد أن تعرف هذا الشيء الذي تسعى إلى تحصيله واكتسابه، فدون تلك المعرفة لن تظفر بما تريد، ولن تحقق ما تهفو إليه.

وفي باب تربية النفس وتزكيتها، هناك نوعان هما مطلوبان شرعاً:

·           ·           أحدهما: مطلوب طلب لزوم ووجوب، والآخر: مطلوب وهو من جنس المندوب.

أما الذي هو واجب على المكلفين، ولازم على الناس أجمعين فقد حصره ابن القيم - يرحمه الله - في أمور، وذلك بقوله - كما في (مفتاح دار السعادة) -: \"ما افترضه على العبيد وكان فرضاً عينياً عليهم لا يسع مسلم جهله أنواع:

·           ·           أولها: علم أصول الإيمان الخمسة: (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)º فإن من لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الإيمان، ولا يستحق اسم المؤمن.

·           ·         وثانيها: علم شرائع الإسلام، واللازم منها: علم ما يخص العبد من فعلها كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحج والزكاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها.

·           ·         وثالثها: علم المحرمات الخمس التي اتفقت عليها الرسل والشرائع والكتب الإلهية وهي مذكورة في قوله تعالى: ﴿قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثمَ وَالبَغيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَن تُشرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعلَمُونَ﴾.

·           ·         ورابعها: علم أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصاً وعموماً، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم فليس الواجب على الإمام مع رعيته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرته\".

فهذا تفصيل دقيق للواجب العيني على المكلفين في ما يجب عليهم أن يربٌّوا أنفسهم عليه وأن يزكوا ذواتهم عليه، كل ذلك مطلوب وهو واجب لا بد منه، فإذا عرفت تلك الأمور الأربعة فهي واجبة عليك لا بد أن تعلمها ثم لابد أن تعمل بما علمت.

وأما الذي هو من جنس المندوب فهو قدرٌ زائدٌ على تلك الأمور الأربعة الواجبة على كل مسلم ومسلمة، وهو نوعان:

·           ·         نوع ديني شرعي، وهو ما ندب إليه الشارع ، وهذا يتعلق بالديانة.

·           ·         ونوع من جنس المروءات، وهو أن تعرف كرائم المروءات مما اتفق عليه الناس أنه كريم في نفسه، وهذا يتعلق بالمروءة.

وقد نص عليهما جمهرة الفقهاء والمحدثين عندما يتكلمون عن العدالة ونحوها، فإذا علمت ذلك كله رُمت تزكية النفس على الواجبات والفرائض المتعينات، وصبوت إلى تحقيق المندوبات المستحبات.

الركيزة الثانية: معرفة الطريق الموصل إلى تحقيق تلك التزكية، وقد أشار إلى أنه لا بد من معرفة الطريق بعد معرفة الشيء المراد غير واحد، ومنهم: ابن قيم الجوزية - يرحمه الله -.

والمسالك التي هي توصل إلى تحقيق ذلك المراد هي مجموع أمور ثمانية:

الأمر الأول: صحة النية وصدقها، فلابد من إخلاص النية وصدق الطوية، وأن يستنهض الإنسان الهمة صادقاً في عزمته، قوياً في إرادتهº فإن ذلك مدعاة إلى أن يعينه الله I على تزكية نفسه.

يقول ابن القيم مقرراً ذلك في كتابه (الفوائد): \" المعونة من الله تنزل على العباد على قدر همتهم ونياتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به، والخذلان في مواضعه اللائقة به وهو العليم الحكيم\".

ويؤكد ذلك ابن رجب في شرحه لحديث شداد بن أوس قائلاً: \" إذا كانت العزيمة صادقة وصمم عليها صاحبها وحمل على هوى نفسه وعلى الشيطان حملة صادقة ودخل فيما أمر به من الطاعات: فقد فاز، وعون الله للعبد على قدر عزيمته وضعفها، فمن صمم على إرادة الخير أعانه الله وثبتَّه\".

الأمر الثاني: التوكل على الله حق التوكل باعتماد القلب على الله، واللجأ إلى مولاه، وتصميم القلب على الانطراح على عتبة العبودية، والابتهالات تلو الابتهالات إلى رب الأرض والسماوات أن يزكي نفسك، وأن يقوي روحك، وأن يجعلك من المتزكين حق التزكية، ومن الذين نالوا تمام التربيةº فإن التوكل مدعاة إلى أن يتولاك الله U إن أنت حققت التوكل بشروطه الصائبة. يقول ابن رجب كما في شرحه لحديث (لبيك الله لبيك): \"فمن حقق التوكل على الله لم يكله إلى غيره وتولاه الله\".

ومن لوازم التوكل: الدعاء والابتهال إلى الله U دوماً، فـ(الدٌّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ) كما يقول النَّبِيّ r في سنن أبي داود وغيره وهو ثابت عنه، والدعاء محبة الله، والدعاء مناجاة إلى الله، والدعاء أمر به الرب الإله وضمن لك الإجابة إن أنت دعوته صادقاً، وإن أنت ناجيته مخلصاً، وتوفرت الشروط وانتفت الموانع فإن الله U تكفل بالإجابة.

الأمر الثالث: استعمال طريق الترغيب والترهيب بأنواعه المختلفة، ترهيب وترغيب بسماع فضائل الأعمال وبسماع قوارع وزواجر كتاب الله وسنة رسوله r، وقد أكَّد ذلك ابن القيم كما فيه كتابه الموسوم بـ(رسالة إلى أحد إخوانه) حيث قال: \"وملاك هذا الشأن - يعني في تزكية النفس وتربيتها - أربعة أمور: نية صحيحة، وقوة عالية يقارنها رغبة ورهبة، فهذه الأربعة هي قواعد هذا الشأن، ومهما دخل على العبد من نقص في إيمانه وأحواله وظاهره وباطنه فهو من نقصان هذه الأربعة، أو من نقصان بعضها\".

الأمر الرابع: أن يعكف المرء على إصلاح نواة قلبه، وأن يخرج أمراضها ودفائن خبثها حتى إذا أخرج تلك الضغائن المستخبثة، وأزال تلك الأوضار المستهجنة: فإنه يرجى له الفلاح ويؤمن له النجاح، وأما من أكثر العبادات وأطال السجدات ولكن قلبه امتلأ بالحسد والغيظ، وأفعم بالحقد والرياء وغير ذلك فأنَّى ينال مبتغاه ؟، وأنَّى يصل إلى ربه ومولاه، كما قاله ابن القيم، وابن رجب، وابن الجوزي، وجماعة من أئمة السلف يرحمهم الله.

يقول ابن رجب في شرحه لحديث شداد: \"سلامة الصدر من الرياء والغل والحسد والغش والحقد، وتطهيرها من ذلك: أفضل من التطوع بأعمال الجوارح\"، ثم يقول: \"وكثرة أعمال الجوارح مع تدنس القلب بشيء من هذه الأوضار لا يزكو، وهو كزرع في أرض كثيرة الآفات لا يكاد يسلم ما ينبت فيها\"، ويؤكد ذلك ابن الجوزي كما فيه (التبصرة) بقوله: \" وإنما ينتفع بالعبادة، وتظهر عليه آثارها وتبين لذاتها عندما يكون القلب صالحاً مع إصلاح أمراضه\"، ويقول أيضا في (التبصرة): \"وكم من متعبد يبالغ في كثرة الصلاة والصوم ولا يعاني صلاح القلب وقد يكون عنده الكبر والرياء والنفاق والجهل بالعلم ولا يحس بذلك فيهلك\".

ولكي تزيل هذه الأشياء وتلك الأمراض لابد أن يستنهضك إلى إزالتها حب مُقلق أو يجعلك قائماً بها خوف مخيف، فإذا أحببت لقاء الله وأحببت جنته وأن تزكو نفسك فإن ذلك يقلقك حتى تخرج دفائن مستخبثة مستهجنة مستنكرة من هذه النفس من حسد وحقد ورياء ونفاق وغير ذلك، وقد أكّد ذلك ابن القيم كما في رسالته إلى أحد إخوانه حيث يقول: \" وقد يحصل للإنسان العلم بالمطلوب، وقد يحصل له العلم بطريق ذلك المطلوب لكن في قلبه إرادات وشهوات - يعني فاسدة - تحول بينه وبين قصد هذا المطلوب النافع وسلوك طريقه، وهو لا يمكنه تركها وتقديم هذا المطلوب عليها إلا بأحد أمرين:

·           ·         أما الأول: فحب مُتعلِّق - يعني بالفؤاد -.

·           ·           والثاني: فَرَقٌ مزعج للفؤاد، وهذا كله يجعل الإنسان يستنهض الهمة حتى يزيل تلك الأمراض ويصلح قلبه\".

الأمر الخامس: القيام بالعبادات، والإكثار من ما يرضي رب الأرض والسماوات، فكل ما يرضي الله عبادة: صدقةً تنفقها بيمنى يديك، سجدة تأتي بها لله في الأسحار، صياماً في النهار، فإن العبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه سواء أكان قولاً أم عملاً، أم اعتقاداً أم حالاً، أم صدقة، أم صياماً، أم خُلُقاً حسناً ترضي به أباً وأماً، أم تصل رحماً، أو غير ذلك. لكن ينبغي أن تقلب عاداتك إلى عبادات وأن تحرص كل الحرص أن تأتي بالعادة عبادة، وألا تأتي بالعبادة عادة، فإن أنت أتيت بالعبادة عادة لم يحصل لك مقصودها، ولم تزكو نفسك بها، ولم تؤثر أثرها في هذه النفس، يقول ابن الجوزي في صيد خاطره: \" تأملت على أكثر الناس عبادتهم فإذا هي عادات، فأما أرباب اليقظة عاداتهم عبادات حقيقية \".

الأمر السادس: محاسبة النفسº فلابد من محاسبة النفس قبل العمل وأثناءه وبعده، حاسب نفسك قبل العمل، هل هي مخلصة لله عند إرادة العمل ؟ هي عالمة بالعمل حتى تأتي به على جهة الصواب ؟ عالمة بهدي النَّبِيّ r في هذا العمل حتى تأتي به على ما يرضي الله ؟ أم أنها جاهلة فيه ؟ فحاسب نفسك في أثناء العمل هل هناك خلل أم لا ؟ وحاسب نفسك بعد العمل بحيث تعقب المحاسبة توبة وإنابة وأوبة إلى الله I.

والمحاسبة الحقة تقوم على ساقين: علم وصدق، علم بالعمل وبالنفس وصدق مع النفس. فينبغي أن تكون صادقاً مع النفس دون مجاملة، حتى تحقق المحاسبة، وينبغي أن تسيء الظن بهذه النفسº لأن إساءة الظن بالنفس مدعاة استنهاض الهمم حتى يحقر الإنسان نفسه ويجعلها على الخيرات، ويبعدها عن الإساءات، يقول الماوردي في (أدب الدنيا والدين) مشيراً إلى هذا المعنى: \"فأول مقدمات الأدب ألا يسبق إلى حسن الظن بنفسه فيخفي عنه مذموم شينه ومساوئ أخلاقهº لأن النفس بالشهوات آمرة، وعن الرشد زاجرة، وقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ النَّفسَ لأَمَّارَةٌ بِالسٌّوءِ﴾ \".

وينبغي عند محاسبة النفس أن يزيد الإنسان محاسبة القلب واللسان وأن يكون حارساً على هاذين الأمرين، فالإنسان ليس إلا بأصغريه: بقلبه ولسانه، يقول ابن رجب مؤكداً ذلك كما في شرح حديث شداد: \" القلب واللسان هما عبارة عن الإنسان كما يقال: الإنسان بأصغريه: بقلبه ولسانه، فمتى استقام قلبه ولسانه، استقام شأنه كله\".

الأمر السابع: الحكمة: فلا بد أن تكون حكيماً في سياسة النفس وفي تربيتها وتأديبها وتزكيتها، فمن لم يكن حكيماً مع النفس ربما جعلها في أودية الهلكة وهو يريد صلاحها، وربما أودى بها حيث أراد خيرها، وهذا كله عندما تُنَحِّى الحكمة جانباً.

الحكمة ذات أهمية في تربية النفس، يقول ابن سعدي: \"فلا يزال الحكيم مع نفسه في ملاطفة وتدريب، وترغيب وترهيب، وإنذار وتبشير حتى يُلَيِّنَ صعبها، ويستقيم سيرها، وتتبدل صفاتها الرديئة بالصفاته الطيبة، ولا يُتَمكَّن من هذا إلا بسلوك الحكمة \".

والحكمة مع النفس في تربيتها وصقل مواهبها وتزكيتها لا بد منها وإلا كانت التربية خاطئة، وكانت التزكية على غير استقامة، ويدخل في الحكمة ما يسمى بسياسة النفس، ولا يتم للإنسان حكمة إلا بأمرين كشف عنهما الإمام الآجري كما في كتابه (أدب النفوس) حيث قال فيه: \" لا بد من علم حالين: أما الأول: فعلم معرفة النفس. وأما الثاني: فعلم كيفية سياسة النفس، فكيف السياسة لها، وكيف تراعى وكيف تؤدب، فهذان الحالان لابد لكل مسلم عاقل أن يطلب علمه حتى يعرف نفسه ويعرف كيف يؤدبها \".

الأمر الثامن: صحبة المربين والصالحين، فلا بد من الصحبة بمثل هؤلاء فإنهم يربونك فتكتسب الأخلاق الحسان عنهم، وكما قيل: الصاحب ساحب، والطباع سراقة، والمرء يأخذ عن قرينه، يقول النَّبِيّ r في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه من طريق أبي هريرة: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَليَنظُر أَحَدُكُم مَن يُخَالِلُ) وأخرجه الترمذي أيضاً، وقال: حديث حسن، وفيه دلالة واضحة وإشارة فاضحة لأهمية اتخاذ القرين الطيب الحسن، فإنك تأخذ طباعه وتسرق أخلاقه، يقول ابن الجوزي مؤكداً ذلك - كما في (صيد خاطره) - : \"ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح فإن الطبع يسرق فإن لم يَتشبَّه بهم ولم يسرق منهم: فَتَرَ عن عمله\"، فأقل شيء أن تفتر عن هذا العمل الطيب الذي كنت فيه، والأعمال أنواع والفعال أشكال، ورُبَّ شرة وكسل وفترة تأتيك تنحيك عن كثير من الخير الذي أنت فيه، وعندما ينادى بالصحبة الطيبة لا يعني ذلك فقط هو اكتساب أخلاقاً حساناً تصاحبه، وسلوكيات طيبة ممن تخالِله بل هناك مقاصد أخرى، منها ما ذكره ابن القيم يرحمه الله في (المدارج) بقوله: \"في ذكر الصاحب والرفيق ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم\"، فإن أنت صاحبت أولئك أزال عنك وحشة الغربة ومراراتها بإذن الله، وعلمت أن في الطريق سالكين كثيرين وأنت تصحب بعضهم، وكذلك أكسبك أمراً آخر: وهو أن تشمر إلى الطاعات أكثر بغية اللحاق بأولئك الطيبين الأخيار الذين اطلعت على شيء من سيرهم أو اجتمعت معهم.

تلك طرق ثمان هي كفيلة بإذن الله I أن تكون من المحسنين لأعمالهم، ومن المربين لأنفسهم وذواتهم، إلا أن كثيرين جهلوا الطريق الذي يزكون به أنفسهم، والأمور التي توجب تربية ذواتهم وهم في ذلك صنفان:

·           ·           صنف لم يصل إلى هذه التزكية والتربية التي ينشدها.

·           ·           وصنف آخر وصل إلى شيء مما أرادº ولكن مع جهد كثير، وتعب وفير، ونصب مستطير.

وإن أنت دخلت طريق الهداية بالتزكية، فلابد أيضاً من تربية وتربية، ولابد من تزكية وتزكية حتى تثبت على هذا الطريق الذي سلكته في الشدة والضيق، فلابد أن تأتي بهداية أخرى حتى تبقي على هذه التربية وتحافظ عليها من الشهوات المضلة أو من الشبهات الفتانة الآخذه للعقول، يؤكد ذينك الأمرين: أهمية معرفة الطريق، وأن هناك هداية أخرى غير تلك الهداية الأولى: ابن القيم يرحمه الله فقد ذكر عن الأول في (الفوائد) قوله: \"الجهل بالطريق وآفاتها والمقصود يوجب التعب الكثير مع الفائدة القليلة\" ثم قال: \" ربما أوجب الانقطاع \" - أي عدم الوصول إلى المراد -، ويكشف عن أهمية الهداية الأخرى بعد الهداية الأولى في (رسالة له إلى بعض إخوانه) بقوله: \"الهداية إلى الطريق شيء، والهداية في نفس الطريق شيء آخر\"، ألا ترى أن الرجل يعرف أن طريق البلد الفلاني هو طريق كذا وكذا ولكن لا يحسن أن يسلكه فإن سلوكه يحتاج إلى هداية خاصة في نفس السلوك يعني لذلك الأمر.

والله أسأل أن يغفر لنا وإياكم ذنوبنا ويستر عيوبنا ويختتم بالصالحات أعمالنا، (اللَّهُمَّ آتِ نُفوسنا تَقوَاهَا وَزَكِّهَا أَنتَ خَيرُ مَن زَكَّاهَا أَنتَ وَلِيٌّهَا وَمَولاهَا، اللَّهُمَّ إنا نعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ, لا يَنفَعُ وَمِن قَلبٍ, لا يَخشَعُ وَمِن نَفسٍ, لا تَشبَعُ وَمِن دَعوَةٍ, لَا يُستَجَابُ لَهَا) ، وصلى اللهم وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply