الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد:
فإن من يتصفح تاريخ أمتنا الإسلامية يجد صفحاته النيرة تمتلئ بذكر صفات الفرد المسلم وحسن تصرفاته وأنها موافقة لما يأمر به الإسلام، فلقد كان الله ورسوله أحب إلى هذا الفرد مما سواهما، ومَن أحب شيئًا أطاعه وأكثر من ذكره، فكانت طاعة الله ورسوله سبيله في هذه الحياة الدنيا: ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون {النور: 52}.
كما كان لتمسك الفرد المسلم بدينه أثره البارز في معاملة الآخرين، فكان أحدهم إذا مشى في طريقه فكأنما سار الإسلام في ذلك الطريق، فهناك ارتباط تام بين الإيمان والسلوك والعلم والعمل، فديننا ليس مجموعة من الطقوس التي تؤدى في أوقات معينة، ثم بعد ذلك يفعل الإنسان ما يريد، ويطلق لنفسه العنان لتفعل ما تشاء، بل العبادة وسيلة لترشيد سلوك العبد مع ربه ومع نفسه ومع الناس أجمعين، ولذلك عندما ذكروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة وذكروا من صلاتها وصيامها وصدقتها وكانت تأخذ شيئًا من الليل غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: \"هي في النار... \"، وذلك أن العبادة لم تصبغ سلوك المرأة بصبغة الإيمان ولباس التقوى، فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
إن القدوة الصالحة دعوة صامتة وهي أبلغ أثرًا وأعظم شأنًا من الدعوة الناطقة، وكان لسلوك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أثر في دخول الناس في دين الله فرادى وجماعات، فإن الناس ينظرون في سلوك الداعي قبل الاستماع إلى وعظه وكلامه، فإن كان تقيًا ورعًا عاملاً بعلمه وقَّافًا عند حدود ربه، قبلوا كلامه وكان فيه الأثر، وكانت من ورائه الثمرة الطيبة، وإن كان الأمر على النقيض من ذلك فإنهم ينظرون إليه بأعينهم ولا تلتفت إليه قلوبهم، ومن هنا يصبح الوعظ كلامًا أجوفَ لا ينبض بالحياة ولا يحرك في الناس ساكنًا ولا يأتي من ورائه نتيجة ولا ثمرة.
إن العامة وسواد الأمة ليقعون في حرج شديد عندما يرون قدوتهم وأسوتهم من الدعاة والعلماء والمصلحين يخالفون بأعمالهم أقوالهم، وتلك آفة خطيرة وداهية عظمى تثمر فقدان الثقة بين الأمة وقادتها من العلماء وأهل الصدارة والقدوة.
والناظر في سيرة نبي الأمة والداعي الأول - صلى الله عليه وسلم - يجد أنه قد لُقب قبل البعثة بالصادق الأمين، فهل بعد الصدق والأمانة إذا توفرتا في شخص أن يكذب على الله أو يخون قومه ويدلس عليهم؟ فكان من دواعي الثقة عند ذوي الفطر السليمة والعقول الناضجة صدق الداعي وأمانته وسلوكه وخلقه العظيم الذي تحلى به وكان طبيعة فيه وميزة في أحواله ومعاملاته كلها مع العام والخاص، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"يُجاءُ بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار - أي تخرج أمعاؤه من بطنه - فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون أي فلان ما شأنك كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمرُكم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه\". رواه البخاري.
فكانت عقوبته شديدة وعاقبته مريرة لأنه دل الناس على الخير، فمنهم من استقام وفاز بالجنة، ورغم أنه كان سببًا في نجاة غيره إلا أنه لم ينتفع هو بعلمه، فكان بمثابة النار التي تأكل نفسها لتضيء لغيرها، وتلك هي خسارة الدنيا والآخرة، أن يخرج الإنسان بغير زاد رغم معرفته وعلمه الذي آتاه الله إياه، وما أجمل ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - في كتابه الفوائد - وهو يصف هذا الصنف الخبيث من الدعاة، حيث قال: \"علماء السوء جلسوا على أبواب الجنة يدعون إليها بأقوالهم ويدعون إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس هلمَّوا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقًا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطاع طرق\". اه. إنهم صنف خبيث من الدعاة من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا يفتون الناس بغير الحق ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا.
افتقاد القدوة الصالحة وأثره على الأمة
والملاحظ في هذه الأيام هو افتقاد القدوة الصالحة من بعض من تصدروا للدعوة فكانوا حجر عثرة في سبيل السالكين والمجدين، وأثمر ذلك خطرين شديدين:
أ- الانفصال الخطير في عقول العامة بين العلم المطبوع في الكتب والمسموع من ألسنة العلماء وبين العمل والتطبيق في واقع الحياة ودنيا الناس، فقد حدثت فجوة هائلة بين العلم والعمل.
ب- فقدان الثقة بأهل الصدارة والعلماء نتيجة لزلات بعضهم الفاضحة، وزلة العالم بلاء متعد ضرره إلى الأمة بأسرها، ومركز السلامة في دائرة الأمن بالنسبة للأمة هي ثقتها بعلمائها فهم قادتها وأولوا الأمر فيها.
فكثير من الدعاة - إلا من رحم ربي - يدعو الناس إلى احتقار الدنيا والزهد فيها وهم أول الناس مسارعة إليها وحرصًا عليها، ومنهم من ينهى عن الغيبة والنميمة وتجريح الأشخاص وغض الطرف عن مساوئهم والنظر إلى محاسنهم ثم هم يترصدون الأخطاء لبعضهم ويتصيدون الزلات ويفضحونها ولا يسترونها حرصًا على وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، هذا فضلاً عن إظهار الشماتة بمن ابتلي أو أصابه الضر في نفسه أو ماله أو ولده، ومنهم من يرغبون الناس في الورع والبعد عن الشبهات والزهد في فضول الحلال خشية الوقوع في الحرام، ثم هم يحومون حول الشبهات ويحرصون على المنصب والجاه بأي وسيلة وأي طريق، وتلك الصور المؤسفة وكثير غيرها هي أعراض لمرض القلب ونقص الإيمان وقلة التقوى، وأصحابها أنفسهم في حاجة إلى علاج كي يبرءوا منها، فإن صورتهم تدعو إلى السخرية من أناس يدعون إلى الفضيلة والزهد وهم يعانون من التخمة ويجمعون الأموال ويشيدون البنيان.
جيل القدوة
ورحم الله سلف الأمة حيث قل كلامهم وكثرت أعمالهم، وكانت طرائقهم وسيرهم غرة في جبين الدهر لكل سالك طريق الآخرة، فكانوا كالنجوم التي يقتدى بها في دياجير الظلام وأستار الليل.
إن لسان الحال أبلغ وأصدق من لسان المقال، والصحابة لم يكونوا على معرفة كاملة بلغة البلاد التي فتحوها، ولكنهم خرجوا إليها بلغة العمل، وهذه اللغة يفهمها جميع الناس وهي أقصر طريق إلى الإقناع والتصديق، فرأى الناس منهم الصدق والأمانة في المعاملة والهمة العالية والنشاط في العبادة والطاعة، فتأثرت قلوبهم ودخلوا في دين الله أفواجًا.
يستطيع فرد أن يغير أمة منحلة بالدعوة والقدوة، ولا تستطيع أمة كاملة عابدة أن تغير فاسدًا واحدًا بمجرد العبادة، فمناط التغيير هو الدعوة، ولابد للداعي أن يكون قدوة صالحة، فالناس ينظرون إلى المنهج الذي يدعو إليه هل هو واقع حي مطبق في حياته أم هو مجرد دعوى يدعيها باللسان، فإذا رأوه يصدق قوله فعله انقادوا إليه بحب وولاء، وآمنوا عن يقين صادق بما يدعو إليه بل وأصبحوا هم كذلك دعاة إلى منهج الحق، فلا يكتفون بتطبيق المنهج على أنفسهم وإنما يصبحون دعاة لغيرهم، وبذلك ينتشر الحق والخير، والبداية كانت هي القدوة الحسنة التي صلحت في نفسها واجتهدت لإصلاح غيرها، قال - تعالى -: \" أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون\". البقرة (44)
إن غياب القدوة الصالحة يفتح باب الشيطان ليشكك في صدق المنهج كله، ويسمح بالدخول إلى العقول ليفسدها ويغرس فيها الوهم والظن والشك ويسقيها بالسم الرعاف ويقلب فيها جميع القيم والموازين لتخرج من كل هذا التخبط بنتيجة واحدة وهي أن هناك كلامًا يُقال وحقائق مسطورة في بطون الكتب، وهناك واقعًا يختلف مع هذه الحقائق وتلك القيم، وتلك النتيجة المرة تموت في مهدها بوجود القدوة الصالحة.
ومع إشراقة عام جديد، هل نعود إلى كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، نتمسك بهما ونسير على هديهما فتطابق أقوالنا أفعالنا، ونكون دعاة إلى ديننا بعقيدتنا وسلوكنا، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
والحمد لله أولاً وآخراً
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد