مؤهلات النصر والتمكين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد:

فإن الذي يتطلع إلى تمكين الله - تعالى - للمؤمنين في الأرض، يحتاج إلى العزيمة التي لا يتطرق إليها وهن، وكذلك طرح اليأس والضعف جانبًا، فهذا سبيل المجاهدين وتلك غاية الصابرين والمؤمنين من أهل الثبات واليقين.

 

وما دامت الأمور بيد الله يغيرها كيف يشاء فإن اليأس بضاعة الكسالى وخائري العزائم، والله وعده حق وصدق، وما على أهل الإيمان إلا تحقيق الإيمان فهو مؤهل النصر والتمكين.

وإن الناظر إلى فجر الإسلام وأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الدين في مهده ليظن أنه لن تقوم لهذا الدين قائمة، ولا سيما أنه دين عالمي خالد، ولا نبي بعد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم الدين، فبعد ثلاثة عشر عامًا من الدعوة في مكة لم يتجاوز المؤمنون به المائة من العدد، ولكنه مع ذلك صبر هو ومن معه من المؤمنين، ولم يتسرب إلى قلوبهم يأس أو قنوط، فقد كانت ثقتهم في وعد الله لا حدود لها، وقد استقر في قلوبهم أن الحق منصور ولو بعد حين، فقد ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على الهمة العالية والرجاء في الله وحده والاستعانة به والتعلق بجنابه والاحتماء بركنه وسلطانه وعدم الركون إلى الأسباب الظاهرة أو الاكتراث بقلتها أو كثرتها، قال - صلى الله عليه وسلم -: \"استعن بالله ولا تعجز\". وقال في دعائه: \"اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال\".

{رواه مسلم}

 

النصر مع الصبر

والله - تعالى - يفيض على قلب عبده المؤمن الطمأنينة والسكينة على قدر المصيبة والبلاء، فإذا بالمؤمن يتحمل من المتاعب والمشاق ما لا يطيقه عشرات الرجال مجتمعين، ولا يصيغه الله هذه الصياغة إلا إذا وجد منه حسن الإقبال والتوجه إليه في المنشط والمكره وصدق التوكل عليه في الصغيرة والكبيرة.

وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن النصر مع الصبر، والفرج من الكرب، وكلما استحكمت حلقات البلاء زاد إقبال المؤمنين على الله وطال وقوفهم على بابه وذلك هو بداية الفتح المبين، ولكن المسألة تتوقف على عنصر الزمن وحده، وهذا أمر موكول إلى الله - تعالى -، فإذا رأى منا خيرًا وهمة عالية في الدعوة إليه والتقرب منه وطول القيام بالليل بين يديه وكثرة البكاء والتضرع والدعاء، فستصير دفة الأمور إلى ما يحبه أولياؤه وعباده المؤمنون، وسيورثهم الأرض وما عليها، ويُمكِّن لهم فيها كما وعدهم - سبحانه - بقوله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (105) إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين (106) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين {النساء: 105- 107}، وإن الله أمرنا بالقيام على الشرط حتى يوفي لنا بالموعود، فإذا تأخر تحقيق الموعود فلا ينبغي لنا أن نتعجل وعد الله وإنما نطالب أنفسنا بالصدق في امتثال الأمر، فإذا صدقنا مع الله أعطانا ما وعدنا، والله لا يخلف الميعاد، فتأخير النصر منا وليس من الله، وإلا فكيف ينتظر الإجابة من سد طرقها بالمعاصي؟!

فمن ينشد مجتمعًا تضبطه شريعة الله وتتوق نفسه إلى حياة طيبة يقودها الإسلام ويضبط خطاها فلابد من التضحية بكل غال لتحقيق ذلك، فإن الأماني لا تصبح واقعًا ملموسًا إلا إذا كان وراءها تضحيات بمحبوبات النفس وشهوات الحياة. وإن الداعية إذا ضحى من أجل دينه وأخلص للهº لاقت دعوته قبولا، لأنه يدعو الناس إلى معروف يجتهد في تحصيله وينهاهم عن منكر قد نأى بنفسه وأهله عنه، فحينئذ لا يخالف قوله فعله، فيكون ذلك أرجى لطاعته وقبول النصح منه قناعة بأن هذا الداعي ليس بكاذب وأنه لا يدعو إلى أمور هو أبعد الناس منها.

إن الله - تعالى - جعل أوامره ونواهيه في حدود طاقة البشر، وما جعل علينا في الدين من حرج، وأخبرنا أن العبد إذا تقرب منه شبرًا تقرب إليه ذراعًا، وإذا تقرب منه ذراعًا تقرب منه باعًا، وإذا أتاه يمشي أتاه هرولة، وفي هذا دلالة على أن العبد إذا قدم ما يستطيع من تضحية رجاء ثواب ربه وطمعًا في جنته فإن الله يتقبل منه ويعده بالمزيد ويمده بالعون والتأييد، فمن بذل لله ما يستطيعه رزقه الله ما لا يستطيعه، فما على العبد إلا البذل ما استطاع ابتغاء وجه ربه الكريم وبعد ذلك فالنتائج على الله وحده.

والله - تعالى - كما تعبدنا بالغايات فإنه تعبدنا أيضًا بالوسائل، فلا ينبغي لمؤمن أن يبتكر من عنده في دين الله شيئًا بزيادة ولا نقصان، فإن الله - تعالى - قد أتم النعمة وأكمل الدين ورضي لنا الإسلام دينًا.

 

التضحية وأثرها في بلوغ الغايات

والتضحية في حياة الأنبياء وأتباعهم أصل مشترك، فالأنبياء خرجوا إلى أقوامهم ليبشروهم وينذروهم في نواديهم ومجامعهم ويبلغوهم أوامر ربهم وقد تحملوا في سبيل ذلك صنوفًا من الأذى والبلاء من أناس قد تحجرت قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فكم بذل الأنبياء من جهد، وعلى أتباع الأنبياء الإقتداء بهم والسير على سلوكهم.

وإن التضحية لها نور ينقدح في القلب فيزيل عنه غشاوة الباطل، فيرى الحق جليًا واضحًا لا غموض فيه، ومراتب الرجال توزن على قدر تضحياتهم من أجل الدين، فلا يصل إلى هذه القمة فصيح أو بليغ بفصاحته وبلاغته، ولكن الميزان الصحيح هو ميزان التضحية من أجل هذا الدين، والذي رجح به إيمان أبي بكر رضي الله عنه على إيمان الأمة بأسرها هو تضحيته الكاملة لنصرة دين الله، حتى إنه لو وضع إيمان أبي بكر في كفة وإيمان الأمة في كفة ليس فيها رسول الله لرجح إيمان أبي بكر فهو أول من ضحى من الرجال، ومواقفه لنصرة هذا الدين ليست من الخفاء بمكان.

فإذا أراد الله - تعالى - لدعوة أن تحيا وتدوم قيض لها من عباده المؤمنين الصالحين من يرويها بدمه ويفديها بنفسه، قال - تعالى -: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون {الحجرات: 15}، والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين {العنكبوت: 69}.

والله من وراء القصد.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply