العودة من الأرشيف


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمات..من القلب

يقول الدكتور مصطفى محمود في كتابه \"الأحلام\" أنه ذهب في زيارة لأرشيف إحدى المجلات القديمة التي صدرت قبل عشرات السنينº فوجد عالماً غريباً تنقل فيه، كأنه تنقل في منطقة أثرية.

ويستطرد: كل شيء غريب، حتى براويز الإعلانات: \"اليوم في أكبر دور عرض سينمائي تعرض مسرحية \"الذبائح\" تأليف أنطوان يزبك، الرواية العظيمة التي تستدر البكاء وتحرك التشنجات\".هل سمعت عن أنطوان يزبك، محرك التشنجات ومدر الدموع هذا؟

صورة كبيرة لأحمد شوقي لا بمناسبة ذكراه ولا وفاته، إنه بلحمه ودمه في عنفوان حياته يمسك بيده سيجار ماركة أمون ويقول: \"سيجارة أمون لتدخينها لذة لا يعرفها إلا كل خبير في الدخان\"! هذا هو شوقي بكل ما يحيطه من ضجة إعلامية مرسوم على علبة سجائر!

وصور لأهل الفن لا نكاد نعرف منهم أحد ولو بالسماع، ومقال بليغ عن وفاة السيدة توحيده المغنية في ختامه هذه الجملة المؤثرة: \"وبوفاة المطربة العظيمة السيدة توحيدهº طويت صفحة رائعة من تاريخ الغناء لمعت فيه أسماء خالدة مثل...،... \".

عالم بنجومه وكواكبه ووزرائه وحكامه انطوى كما تنطوي صفحة كتاب، ولم يترك أثراً ولا شبحاً باهتاً في الذاكرة، تبخر الناس كالكحول ولم يتركوا حتى رائحة.

هل كان المطرب الشهير اللامع سيد شطا الذي كان يغنى في أحد المسارح يعلم أنه هو والمسرح والجمهور والصحف التي كتبت عنه مجرد فقاعة تنتفخ وتنتفخ ثم تنفجر ولا شيء، وهذا الكاتب أنطوان يزبك محرك التشنجات ومدر الدموع، وهو يكتب ليحرك ليصنع الخلود، خلود ماذا؟!

أنا أضحك - وأنا يزبك آخر وأذكر ذلك الإنسان الذي كان يبدو متأكداً من كل كلمة يقولها، وكان يغضب ويصرخ لمجرد أنك اختلفت معه، ذلك الإنسان الذي كان يتزاحم ليدخل التاريخ، ولا تاريخ هناك.

كنت أشعر في تلك اللحظة بوحدة مطلقة، كنت كالعائد لا إلى نفسه ولا إلى بلده ولكن إلى منطقة أثرية أخرى.

وعاد الدكتور مصطفى محمود من الأرشيف إلى منطقته الأثرية، وعدت أنا إلى منطقتي الأثرية الخاصة، كنت كمن كان نائماً واستيقظ فجأة، كمن كان يظن نفسه حياً واكتشف أنه ميت.

لقد نعتنا الله بوصف \"ميتون\" قال - تعالى -في سورة الزمر: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وبالبحث في تفسير الآية وجدت أن المحكوم عليه بالموت يسمى ميتا (بالشدة) أما من مات فعلا فهو ميت: {أَوَمَن كَانَ مَيتاً فَأَحيَينَاهُ وَجَعَلنَا لَهُ نُوراً يَمشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظٌّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ, مِنهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} [الأنعام: 122].

سوف يأتي يوم تقرأ فيه هذه الآية وعندها أكون ميتة وليس ميتة (بالشدة)! وهى لحظة قد تكون الآن أو بعد ساعة أو بعد سنوات، لكنها آتية لا محالةº يقول عمر بن عبد العزيز: \"إنما الدنيا حلم والآخرة يقظة\".

الشعور بأني أعيش في منطقة أثرية لا يزال يساورنى كثيراً، منطقة أثرية بكل من وما فيها، إن رثاء إحدى مغنيات الفيديو كليب، التي تنقطع أنفاس البعض عند رؤيتها، إذا قرئ بعد وفاتها بعدة سنوات، لن يكون أقل سخرية من رثاء السيدة توحيده المغنيةº فإن جلائل أعمال كلتاهما متقاربة كثيراً، حتى الأشياء: هذه القصور الفاخرة، هذه المنازل الأنيقة، هذا الأثاث الفاخر بعد فترة طالت أو قصرت لن يختلف عن أي قصر مهمل ومتهدم، لن يختلف هذا الأثاث عن قطع \"الروبابيكيا\" التي لا نكترث لها كثيراً، ونتعجب من ذوق من اشتروها منذ عشرات السنين.

كما قال د. مصطفى محمود لا يبقى إلا \"لا إله إلا الله\"، إن الوقوف على أعلى برج في مدينتك، والنظر إلى آلاف البشر، وتخيل أنهم جميعا منذ مائة عام لم يكونوا، وبعد مائة عام لن يكونواº شعور يدفع للجنون، إلا إذا تمسكت بـ\"لا إله إلا الله\"، لا حي حقيقي إلا الله، فمن أسمائه \"الحي\"، نحن أحياء لكن حياتنا وهمية، قد يشترك العبد مع الله في صفة لكنه - سبحانه - ليس كمثله شيءº فصفات الله مطلقة وصفات الإنسان نسبيةº لذلك قال الدكتور محمد راتب النابلسي في كتابه \"أسماء الله الحسنى\": \"إن القاضي إذا عرضت عليه ألف قضية وحكم في 999بالعدل وأخطأ في واحدة يسمى عادلاً، أما الله - عز وجل - فعادل عدل مطلق، فلو فرضنا أنه على الأرض الآن 6 آلاف مليون إنسانº فمنذ زمن آدم - عليه السلام - إلى يوم القيامة كم إنسانٍ, عاش على الأرض! لا يجوز أن يُظلم واحدٌ منهمº لأن الله - تعالى -هو العدل.

إذا أيقنت أن الله وحده هو الحيº فمن الذكاء أن تربط نفسك بالحي الذي لا يموت. لذلك روى الإمام الرازي أنه مات لأحدهم ولدٌº فبكى عليه حتى عمى فقال بعضهم له: الذنب ذنبك لأنك أحببت حيا يموت، ولو أحببت حيا لا يموت لما وقعت في هذا الحزن.

لذلك قالوا كل محبة لغير الله عذاب، فقد تُحِب ولا تُحَب، قد تحب وتفترق عمن تحب، وقد تحب وتتألم لألم من تحب، وقد يكون حبك لإنسان سبباً لهلاكك والعياذ بالله إذا كان حباً مع اللهº فالحب مع الله هو عين الشرك، ومعناه أن تحب إنساناً حتى يكون رضاه أغلى عندك من رضا الله - عز وجل -.

لقد تغيرت الأمور كثيراً بعد العودة من الأرشيف، قال الرافعي: \"إن الذي عاش مترقباً النهاية يعيش معداً لها\"، وأعتقد أنني بعد العودة من الأرشيف أصبحت أكثر ترقباً للنهاية، وأسأل الله الكريم أن نحسن الإعداد لها.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply