بسم الله الرحمن الرحيم
كدت أذوب خجلاً وأنا أقرأ قصتهما، وأقارن حالهما بحالنا، إنهما: هيلين كيلر، ومعلمتها آن سوليفان.
ولدت هيلين كيلر عام (1880م) طفلة معافاة سليمة الحواس، ولكن بعدما أتمت عاماً ونصف عام، أصابتها حمى شديدة حارَ الأطباء في نوعها، وعجزوا عن علاجهاº فلم يجدوا - وقد أدركهم اليأس - إلا أن ينفضٌّوا سائلين المولى أن يلهم والديها الصبر على فقدانها، ولكن إرادة الحياة كانت جلية في هيلين منذ طفولتهاº فلم تمض عدة أيام حتى دبت الحياة في جسد الصغيرة، وعادت الحمرة تعلو وجنتيها، ولكن والديها اللذين غمرتهما الفرحة بعودة الروح إلى صغيرتهما، لم يدركا أن المرض قد سلبها قبل أن يغادر جسمها الصغير أهم حاستين، هما حاستا السمع والبصر.
عاشت هيلين في سنواتها الأولى حياة عشوائية بهيمية لا تفقه من الحياة غير حاجاتها الفطرية، ولم تجد الصغيرة طريقة إلى التواصل مع الآخرين في عالمها الدامس إلا بعض الإيماءات والإشارات البدائية، حتى إذا ما فشلت في التعبير عن نفسها، والحصول على رغباتها انتابتها نوبات غضب شديدة، وجنحت إلى البكاء والعويل، وتحطيم كل ما يعترض طريقها، ولم تجد أسرتُها - وقد وجدوا أنفسهم أمام فتاة صعبة المراس أعيتهم الحيل في التعامل معها - إلا أن يبحثوا عن معلمة تعاونهم في تربيتها، وتضيء لها بعض ما أظلم من طريقها، ولم تكن هذه المعلمة إلا Anne Sullivan المعلمة الرائعة التي أضاءت لها الدياجير المظلمة، وفتحت لها الأبواب المغلقة، لم تكن هيلين تدرك أن اليوم الذي التقت فيه معلمتَها لأول مرة وهي لما تبلغ السابعة بعد، سيكون أهم يوم في حياتها كما وصفته لاحقاً، ولم تكن Anne Sullivan الشابة الصغيرة ذات الواحد وعشرين ربيعاً تتصور أن حياتها سترتبط بحياة تلميذتها حتى آخر لحظة.
ومنذ ذلك اليوم بدأت المعلمة محاولاتها الدؤوبة لتعليم هيلين، وكان أول ما لفت نظر المعلمة هو عادات هيلين البدائية، ومسلكها العدواني مع الجميعº فقررت أن تعلمها قبل كل شيء الطاعة والنظام، ولم تمر فترة بسيطة حتى تحولت هيلين الفتاة المرعبة إلى طفلة وديعة هادئة.
وكانت تكتب بإصبعها أسماء الأشياء على كف هيلين، واستعملت كذلك قطعاً من الكرتون عليها أحرف نافرة، كانت هيلين تلمسها بيديها، وتدريجياً بدأت تؤلف الكلمات والجمل بنفسها، وبهذه الطريقة حفظت هيلين هجاء العديد من الأسماء، وبعد مرور عام تعلمت هيلين تسعمائة كلمة، وإن لم تكن تدرك الصلة بين هذه النماذج التي ترسمها والكلمات، أو تدرك الصلة بين الكلمة والفكرة التي تمثلها، حتى أتت لحظة التنوير في حياة هيلين التي سجلتها في كتابها الرائع The Story of My Lifeº حيث تقول: ذهبنا إلى البئر وكان هناك شخص يضخ الماء، ووضعت معلمتي يدي تحت المضخة، وفي حين كان تيار من الماء البارد ينهمر على إحدى يدي كانت معلمتي تكتب بإصبعها على يدي الأخرى كلمة water في البداية ببطء ثم بعد ذلك بسرعة.
وقفت ساكنة وكل تركيزي منصب على حركة إصبعها، وفجأة شعرت بحالة وعي ضبابية لشيء كان منسياً، بالإثارة المصاحبة لفكرة عائدة، وهكذا تكشف أمامي غموض اللغة، وكم كانت فرحة هيلين عظيمة وقد انفتح لها باب العالم الخارجي الذي كان موصداً دونها، ولم تعد إلى البيت إلا بعد أن سألت عن اسم كل شيء مرت به، منذ تلك اللحظة بدأت هيلين رحلتها مع المعرفة، تلك الرحلة التي لم يكن زادها فيها إلا العزيمة، والإصرار، والإرادةº فتعلمت القراءة بطريقة Braille التي أصبحت متعتها المفضلة، وانكبت على الكتب تلتهم ما تقرؤه أصابعها، وعن طريق القراءة تعلمت الكتابة، وتمكنت منها بل فاقت في أسلوبها الأدبي أقرانها من المبصرين، ثم ما هي إلا فترة بسيطة حتى سمعت عن فتاة صماء استطاعت تعلٌّم الكلام فأصرت على المحاولة، والخضوع للتجرِبة، وبذلت العديد من المحاولات المضنية لتعلم المحادثة، وهي الفتاة الصماء التي لم تسمع الكلامº فكانت تضع يديها على حنجرة المعلمة وشفتيها حتى تتبين مخارج الحروف، وبرغم هذه المحاولات المستميتة فإن كلامها لا يفهمه إلا المقربون منها، و كان أول ما نطقته \"أنا لم أعد خرساء\" واستطاعت أيضاً دراسة الجغرافيا بواسطة خرائط صنعت على أرض الحديقة ودرست علم النبات.
ثم التحقت هيلين بمعهد كمبردج للفتيات، وكانت الآنسة سوليفان ترافقها وتجلس بقربها في الصف لتنقل لها المحاضرات التي كانت تُلقَى، وأمكنها أن تتخرج في الجامعة عام 1904م حاصلة على بكالوريوس علوم في سن الرابعة والعشرين.
ذاعت شهرة هيلين كيلر فراحت تنهال عليها الطلبات لإلقاء المحاضرات، وكتابة المقالات في الصحف والمجلات.
بعد تخرجها من الجامعة عزمت هيلين على تخصيص كل جهودها للعمل من أجل المكفوفين، وشاركت في التعليم، وكتابة الكتب، ومحاولة مساعدة هؤلاء المعاقين قدر الإمكان.
وفي أوقات فراغها كانت هيلين تخيط وتطرز وتقرأ كثيراً، ثم دخلت كلية (رد كليف) لدراسة العلوم العليا فدرست النحو، وآداب اللغة الانجليزية، ودرست اللغة الألمانية، والفرنسية، واللاتينية، واليونانية، ثم قفزت قفزة هائلة بحصولها على ثلاث درجات دكتوراه، وقامت برحلات متعددة حول العالم للمطالبة بحقوق المعوقين، وتقديم العون الاجتماعي لهم لكي يشقٌّوا طريقهم في الحياة بوصفهم أعضاء منتجين مثمرين وليسوا عالة، أو متسولين، أو ناقمين ساخطين، وراحت الدرجات الفخرية والأوسمة تتدفق عليها من مختلف البلدان.
تلك هيلين كيلر التي قدر الله عليها فقدان ثلاث من حواسها- السمع والبصر والنطق - استطاعت أن تعيش حياة عريضة وضعت خلالها ثمانية عشر كتاباً كل منها يهز الوجدان، ويملأ القلب بالإيمان، ويجعل الحياة جديرة بأن تُعاش، ومن أعظم ما ألفت، كتابها الذي جعلت عنوانه (يجب أن نؤمن بالله) الذي تؤكد فيه أن عمق إيمانها بالله - تعالى - وبرحمته، وحكمته كان سلاحها القوي الماضي الذي خرج بها من سجن البدن إلى رحابة الإيمان لربها الذي أتاح لروحها أن تحلق في آفاق العلم، والحكمة، والخير، والرضا، والتوافق الحقيقي العميق.
تقول هيلين \"عندما يوصد في وجهنا أحد أبواب السعادة تنفتح لنا العديد من الأبواب الأخرى، لكن مشكلتنا أننا نضيع وقتنا ونحن ننظر بحسرة إلى الباب المغلق، ولا نلتفت إلى ما فتح لنا من أبواب\".
تلك هي هيلين الصماء العمياء البكماء التي استطاعت أن تحقق من الإنجازات العملاقة مالم يحققها أناس طبيعيون يتمتعون بجميع ما حرمت منهº فبإرادتها التي استمدتها من قوة إيمانها فاقت وتميزت على قريناتها من النساء الطبيعيات، فهي تقول في بعض كتاباتها \"لقد أدركت لماذا حرمني الله السمع، والبصر، والنطقº فلو أني كنت كسائر الناس لعشت، ومِت كأية امرأة عادية\".
أيهما أجدر بالثناء؟!
هل كانت هيلين ستصل إلى ما وصلت إليه لو لم يقيِّض لها الله معلمتها الرائعة؟! يقودني هذا السؤال إلى آخر: أيهما أجدر بالثناء وأيهما أولى بالمدح هل هي هيلين أم معلمتها المخلصة؟!
من يقرأ قصة هيلين لن يجد موضعاً لها إلا كانت معها معلمتهاº فهي تارة مع هيلين تساندها في أحد المواقف، وتارةً أخرى تحدثها وتوجهها بحنان الأم، وأحياناً ترقبها من بعيد، وهكذا لا نعدم لها أثراً في كل صفحة من صفحات حياة هيلين، وكما بهرتني هيلين شدتني هذه المعلمة، وكما أعجبت بهيلين أسرني إخلاص هذه المعلمةº فما فرغت من قراءة الكتاب حتى تجدد إيماني بالدور الكبير الذي يقوم به المعلم في حياة تلاميذه.
ولدت آن سوليفان معلمة هيلين - عام 1866م، وعندما كانت في الثامنة توفيت والدتها، وفي العاشرة هجرها والدها هي وأخويها، وتركهم ليواجهوا مصيرهم وحدهم، عاشت في الملاجئ فترة من الزمن، قليل من الناس يعلمون أنها كانت هي نفسها عمياء حتى سن الثامنة عشرةº حيث أجريت لها عملية جراحية في عينيها استردت بعدها جزءاً من بصرها، لكنها فقدته آخر أيام حياتها، تزوجت آن عام 1905م ولكن زيجتها لم يُكتب لها النجاح، قصتها هي قصة الإخلاص، والتفاؤل، والثقة بالنفس، والعزيمة، والإصرار، صفات رائعة كانت هي الصفات ذاتها التي ميزت تلميذتها الذكية، هكذا ارتبط اسمها باسم تلميذتها. فلا يذكر اسم هيلين إلا ويذكر اسم آن، والعكس أيضاً.
وقد ظلت هيلين وفية لذكرى معلمتها الرائعة، بل إنها ألفت كتاباً كاملاً عن معلمتها أَسمته Teacher تقول هيلين في كتابها The Story of My Life عن معلمتها: كم هي قريبة إلى نفسي (معلمتي) لدرجة أني نادراً ما أفكر في نفسي بمعزل عنها، لا أدري فيما إذا كان استمتاعي بجمال الأشياء من حولي يعود في أغلبه إلى أمر فطري لديّ، أو بسبب تأثيرها في، وأشعر أن وجودها لا يمكن فصله عن وجودي، أفضل ما عندي ينتمي إليها، ولا توجد في داخلي موهبة، أو أمنية، أو متعة إلا أيقظتها بلمستها الحانية.
منذ البداية أخذت آن على نفسها عهداً أن تخرج هذه الفتاة الصماء، البكماء، العمياء من الظلمات إلى النور، مهمتها لم تكن سهلة قط، بل كان عليها أن تسلك طريقاً شائكاً وعراً، وإذا مرت عليها لحظات إحباط ويأس وملل، فسرعان ما تحرق جذوة النار التي في داخلها هذه المشاعر السلبية، كانت في البداية تقول: لو كنت فقط مؤهلة أكثر لهذه المهمة العظيمة، كل يوم أشعر بقصوري، عقلي مليء بالأفكار ولكني لا أعرف كيف أنظمها، كم أتمنى لو أجد من يساعدنيº فأنا أحتاج إلى معلمة تماماً مثلما تحتاج هيلين، ثم تضيف فتقول: أعلم أن تعليم هذه الطفلة سوف يكون أهم حدث في حياتي، ولكنها سرعان ما استردت ثقتها بنفسها وتلمست طريقها، فنجدها تقول في رسالة لاحقة إلى إحدى معلماتها: شيء في داخلي يخبرني بأني سأنجح نجاحاً يفوق ما خططت له في أحلامي، أدرك أن هيلين تمتلك قدرات متميزة، وأعتقد أنني سوف أستطيع أن أطور هذه القدرات وأعيد رسمها، لا أدري كيف تكوّن في داخلي هذا الإحساس، إذ منذ فترة قصيرة فقط لم يكن لدي أي فكرة كيف أبدأ عملي، وكنت أتلمس طريقي في الظلام، ولكني الآن أعرف ماذا يجب عليّ أن أفعل، وعندما تواجهني المصاعب لا أنزعج، ولا يصيبني اليأس بل أعرف كيف أتصدى لهما، وتقول: كم هو عظيم أن تشعر بأنك ذو فائدة في هذا العالم، إن وجودك مهم لشخص ما، إن اعتماد هيلين- بعد الله- عليّ، تقريباً في كل شيء، يجعلني قوية وسعيدة.
في اعتقادي أن أهم ما يميز هيلين كيلر، ومعلمتها آن سوليفان أنهما لا تجيدان الإسقاط في حين أننا احترفناه، وأصبحنا نجيده أكثر من أي شيء آخرº فلم أسمع عن إنسان كان حَرِياً به أن يستسلم لظروفه الصعبة أكثر منهما، لكنهما لم تفعلا، في حين ألتقِي كل يوم بأناس يواجهون تحديات لا تقارن بما واجهته هيلين وآن، ويلقون اللوم على من وما حولهمº فهم يلومون الحكومة الفاسدة، والمجتمع المنحرف، والظروف المادية الصعبة، وأحياناً يرجعون فشلهم إلى السحر والحسد، هذا إن لم يتحدثوا عن نظرية المؤامرةº فكل إحباطاتهم، وفشلهم هي نتيجة للمؤامرة التي يدبرها العالم كله ضدهم، المهم أن ينفضوا أيديهم عن تحمل أي مسؤولية عن واقعهم، حولنا الكثير من الجادين والمصلحين، ولكن أحياناً كثيرة تكون النغمة السائدة في المجتمع هي الشكوى والاستسلام للفشل.
من الرائع أن نتغلب على المعوقات حولنا كي ننجح في الحياة فنعيش سعداء، ونسعد من حولنا، مثلما فعلت هيلين كيلر، و لكن من الأروع ألا نكتفي بذلك، بل نأخذ بيد من حولنا ليتغلبوا على ظروفهم، وينطلقوا في الحياة مثلما فعلت مربيتها آن سوليفان، وإن لم نستطع أن نفعل هذا ولا ذاك، فلا نبحث حولنا عن أسباب انحطاطنا وتأخر أمتنا، ويكفينا النظر في المرآة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد