بسم الله الرحمن الرحيم
أختي الغالية...
لعلك الآن قد سرت رجفة الخشية من الجليل في قلبك بعد أن عاينت تلك السكرات في يوم السكرات، وتلك الرحلة المهيبة إلى الدار الآخرة، ثم استنشقتي عبير الأنس والشوق إلى بلاد الأشواق في جنات النعيم، ثم عادت الهيبة والتعظيم للرب الجليل تدب في أوصالك بعد أن اطلعت على لمحة من آثار عظيمة، وعرفت كذلك مغبة السير على أشواك المعاصي في الدنيا والآخرة، من آثار خطيرة، وعواقب وخيمة، تفتك بدين المرء قبل دنياه.
إذا كنت كذلكِ أخيتي فأبشري، فقد قطعت بذلك أول مرحلة إلى ربك، والآن:
آن الأوان لأن نخطو إلى الله - تعالى -خطوة أخرى.
آن الآوان لأن نترجم تلك الخشية التي دبت في أوصال قلوبنا إلى واقع عملي ملموس، آن الأوان أن تعيشي خير يوم طلعت عليك فيه الشمس منذ أن جئت إلى هذه الدنيا.
أتدري ما هو ذلك اليوم؟ هذا رسول الله ينبئك عنه، يوم أن بشر كعب بن مالك - رضي الله عنه - في اليوم الذي تاب الله- تبارك وتعالى -فيه عليه، فيقول له الرحمة المهداة، ووجهه الشريف يتلألأ نوراً:
((أبشر بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس منذ ولدتك أمك)).
نعم أيتها الحبيبة، إن خير أيامك في الدنيا يوم أن تعود إلى ربك، يوم أن تحطمِ قيد الذنب، وتتحررِ من أسر الشهوات، ولسان حالك يقول: \"وعجلت إليك ربي لترضى\"(طه: 84).
الباب مفتوح:
أخيتي الغالية... هل عظمت عندكِ ذنوبك، وتكاثرت لديك خطاياك، هل تشعري أني ارتكبت ذنوباً تنوء بحملها الجبال؟ إذا كنتِ كذلك، فأبشري، فإن هذه علامة المؤمن، الذي يقول فيه النبي: ((من سرته حسنته، وساءته معصيته، فهو مؤمن)).
ولكن احذري أن يقودكِ ذلك الشعور باستعظام ذنوبك إلى الوقوع في شرك اليأس والقنوط من رحمة الله.
فلئن كانت ذنوبكِ عظيمة، فعفو ربكِ ورحمته أعظم، اسمه التواب الغفار، عفوه سبق انتقامه.
وتعالي أخيتي، لنطوف في بستان الكتاب والسنة، نستنشق من عبير آيات الله، وسنة الحبيب ما يسكب الأمل من رحمة الله في قلوبنا سكباً.
الأسلمي يسلمك المفتاح:
عن بريدة قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي ، فقال: يا رسول الله طهرني، فقال: ((ويحك ارجع، فاستغفر الله وتب إليه))، فقال: فرجع غير بعيد، ثم جاء، فقال: يا رسول الله طهرني، فقال النبي مثل ذلك.
حتى إذا كانت الرابعة، قال له رسول الله ، فيم أطهرك؟ قال: من الزنا، قال رسول الله: ((أبه جنون؟)) فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: ((أشرب خمراً؟)) فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر، فقال: ((أزنيت؟)) قال: نعم، فأمر به فرجم، فلبثوا يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله ، فقال: ((استغفروا لماعز بن مالك، لقد تاب توبة، لو قسمت بين أمة لوسعتهم)).
وفي رواية: ((والذي نفسي بيده، إنه الآن لفي أنهار الجنة، ينغمس فيها)).
وقاتل المئة يفتح لكِ الباب:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم الأرض، فدل على راهب، فأتاه، فقال إني قتلت تسعة وتسعين نفساً، فهل لي من توبة، فقال: لا، فقتله، فكمل به المائة.
ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إني قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة، فقال العالم: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا؟ فإن بها أناساً يعبدون الله، فاعبد ا لله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.
فانطلق، حتى إذا انتصف الطريق، أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً، مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط.
فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلي أيتهما كان أدنى، فهو له، فقاسوا، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة)).
فقال الحسن: (ذكر لنا أنه لما أتاه الموت، نأى بصدره، أي استدار بصدره، جهة أرض الخير).
قراب بقراب من الرحيم الوهاب:
في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتنيº غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاًº لأتيتك بقرابها مغفرة)).
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قَرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ثم إليكِ هذه المفاجأة: هل تعلمي أن الله - تعالى -وصف عباده المتقين بقوله: \"والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون \" (آل عمران: 135).
يا لسماحة هذا الدين! إن الله - سبحانه - لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم، حتى يطلعهم على جانب من سماحته - سبحانه وتعالى - معهم، ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا.
إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين، ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسكل في عداد المتقين:
والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها، ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهون إليها من رحمة الله، ولا تجعلهم في ذيل القافلة، قافلة المؤمنين، إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة، مرتبة المتقين على شرط واحد، شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته، أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم، وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
أرجى آية في كتاب الله:
ثم إليكِ هذه الآية الناسفة، التي تنسف اليأس من قلبك، يقول الرحيم الرحمن: \"قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم\" (الزمر: 53).
إنها الرحمة الواسعة، التي تسع كل معصية، كائنة ما كانت، وإنها الدعوة للأوبة، دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبتعدين في تيه الضلال دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله.
أبشر وكبر:
عن أبي طويل شطب الممدود، أنه أتى النبي فقال: (أرأيت من عمل الذنوب كلها، ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها، فهل لذلك من توبة؟ فقال رسول الله: هل أسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن))، قال: (وغدراتي وفجراتي)، قال: ((نعم))، قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى.
أرأيت رحمة كهذه الرحمة، وكرماً كذلك الكرم، أنه الرحيم الكريم لا يكتفي أنه يعفو ويغفر، بل يبدل التائب بزلاته حسنات.
فماذا تنتظري أخيتي؟ أقبلي على ربكِ وتوبي إليه، عودي إليه، يغفر ويرحم، ويبدلك سيئاتك حسنات.
متى يغلق الباب؟
لا يغلق بابت التوبة إلا عند:
1- طلوع الشمس من المغرب.
لقول النبي: ((إن للتوبة باباً، عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب، لا يغلف حتى تطلع الشمس من مغربها)) ([1]) وهذا عند قيام الساعة، وظهور علامتها يوم: \"هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون \" (الأنعام: 158).
2- الغرغرة ومعاينة الملائكة:
قال رسول الله: ((إن الله - تعالى -يقبل توبة العبد، ما لم يغرغر)).
لأنه في هذه الساعة تتكشف له الحجب، فيرى الملائكة حاضرة لتقبض روحه، وعندها فقط يصدق ويؤمن، وهذا إيمان لا قيمة له، وتوبة لا طائل من ورائها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد