احذر أن تكون من ميتي الأحياء


بسم الله الرحمن الرحيم  

شروط وجوب وصحة الأمر والنهي

الناس متباينون تبايناً كبيراً، ومختلفون اختلافاً كثيراً: \"إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة\"، كما أخبر الصادق المصدوق.

 

منهم:

1. الأموات الأحياء

وهم الرسل، والأنبياء، وورثتهم من العلماء، والشهداء، وأتباعهم من الأصفياء: \"وَلاَ تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَموَاتًا بَل أَحيَاء عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ وَيَستَبشِرُونَ بِالَّذِينَ لَم يَلحَقُوا بِهِم مِّن خَلفِهِم أَلاَّ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ\".

\"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له\"، ولا تجتمع هذه الثلاثة إلا في عالم عامل بعلمه متق لربه.

هم الرجال وعيب أن يقـال * * *  لمن لم يكن مثلهم رجـل

2. الأحياء الأحياء

وهم علماء الآخرة الموقون عن ربهم، المحسنون لإخوانهم، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، الناصحون لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، الذين يعلمون الجاهل، ويرشدون الغاوي، ويردون الضال، الصابرون على الأذى، الذابون عن الدين، وعن ديار الإسلام، والمسلمين.

 

3. أموات الأحياء

الذين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، يعيشون كالسوائم ويموتون كالبهائم، لا غيرة عندهم لمحارم الله إذا انتهكت، ولا لنسائهم إذا خدشت كرامتهن، همهم تحقيق شهوتي البطن والفرج، لا رحمة عندهم لصغير ولا توقير لكبير، ولا شفقة وإحسان على أرملة ولا يتيم ولا فقير، الحلال ما وقع في أيديهم، هم بعضهم من يعول، بل البعض لا يهتم إلا بنفسه، ولا يعنيه شأن حتى من يعول.

ميت القلب متبلد الإحساس هو الميت حقيقة: \"وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأكُلُونَ كَمَا تَأكُلُ الأَنعَامُ وَالنَّارُ مَثوًى لَّهُم\"

ورحم الله القائل:

 ليس من مات فاستراح بميت * * *  إنما الميت ميت الأحيـاء

ويزداد الأمر سوءاً وفداحة إذا كان هذا الحي الميت من حملة العلم، الذين قال عليُّ - رضي الله عنه - فيهم كلامه المشهور في أقسام حملة العلم: \"أو منهوم باللذات، سلس القياد للشهوات، أو مغري بجمع الأموال والادخار، وليسوا من رعاة الدين، أقرب شبهاً بهم الأنعام السارحة\".

سبب هذا الموت حب الدنيا وعبادة الهوى، والغفلة عن الآخرة، والحرص على الأولى، وضعف الهمة، والاسترسال مع الشهوات، وعدم الثبات والتروي عند نزول الفتن وحلول المصائب.

عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: كنا عند عمر، فقال: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن  فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل. قال: تلك تكفرها الصلاة، والصيام، والصدقة، لكن أيكم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فسكت القوم، فقلت: أنا. فقال: أنت؟ لله أبوك. قال حذيفة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه\".  

قال النووي: (قال القاضي عياض: قال لي ابن سراج: ليس قوله كالكوز مجخياً تشبيهاً لما تقدم من سواده، بل هو وصف آخر من أوصافه بأنه قلب نكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة، ومثله بالكوز المجخي، وبينه بقوله: لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.

إلى أن قال: شبه القلب الذي لا يعي خيراً بالكوز المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه.

وقال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الرجل إذا اتبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن، وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز فإذا انكب انصب ما فيه ولم يدخل شيء بعد ذلك).  

فميت الأحياء هو ميت القلب الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.

فالسمة المميزة بين القلب الحي والقلب الميت معرفة المعروف والأمر به ومعرفة المنكر وإنكاره.

فالتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر من فروض الكفاية التي تكون أوجب من فروض العين، فإذا تركها الجميع أثموا وحل بالديار الخراب، وبالدين النقص، وبالأخلاق الفساد والانحلال.

فاحرص أخي المسلم على حياة قلبك، واحذر من موته، واجتهد أن تكون من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، ولا ترضى بأضعف الإيمان الإنكار بالقلب، بل اعمل على تقوية إيمانك بالطاعات، والبعد عن المعاصي والمنكرات، فالطاعات والقربات تزيد في الإيمان، والمعاصي والمنكرات تنقصه، وقد تكون سبباً لإزالته، فالمعاصي بريد الكفر.

فعوِّد نفسك على الإنكار باللسان وبالبنان إن لم تقو عليه باليد والسنان، مسترشداً بأمر ربك: \"ادعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ\".

متسلحاً بالصدق، والرفق، والتلطف، مقتدياً بإمام الآمرين الناهين، محمد بن عبد الله وبصحبه الغر الميامين، وبمن اتبعهم في ذلك بإحسان إلى يوم الدين تكن من الفائزين.

متعلماً لشروط وجوب وصحة الأمر والنهي، وهي:

1. الصدق والإخلاص.

2. العلم بما تأمر وتنهى.

3. الرفق والتلطف بمن تأمر وتنهى.

4. جلب المنافع ودرء المفاسد، إذ جلب المنافع ودرء المفاسد أو تقليلها الهدف الأساس للأمر والنهي، فيجب الإنكار إذا غلب على ظنك أن المنكر يزول بالكلية أو ينقص، ولا يجب إذا غلب على ظنك أنه يزيد أو يثبت، وإن شككت هل يزيد أو ينقص فقولان للعلماء: الوجوب وعدمه.  

5. الصبر.

6. البدء بمن يليك من الأهل، والعشيرة، والأصدقاء، والجيران.

7. الحذر من تعريض نفسك ومن يليك إلى المخاطر والمهالك.

روى الخلال في مسنده عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - مرفوعاً: \"لا ينبغي لأحد أن يأمر بالمعروف حتى يكون فيه ثلاث خصال: عالماً بما يأمر، عالماً بما ينهى، رفيقاً فيما يأمر، رفيقاً فيما ينهى\".  

وقال ابن مفلح: (وينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر متواضعاً، رفيقاً فيما يدعو إليه، شفيقاً رحيماً، غير فظ ولا غليظ القلب، ولا متعنتاً..عدلاً، فقيهاً، دَيِّناً..قاصداً بذلك وجه الله، وإقامة دينه، ونصرة شرعه).

المعينات على الأمر والنهي

الأمور التي تعين المسلم على القيام بهذا الواجب كثيرة، أهمها:

1. ابدأ بنفسك، فمرها بالمعروف وانهها عن المنكر.

2. الدعاء والتوفيق أن يسخرك الله ويستخدمك في ذلك.

3. استشعار أهميته، وحاجة الناس إليه، وخطورة تواطؤ الناس على تركه، فعن حذيفة يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أوليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم\".  

4. تذكر أن خيرية هذه الأمة مرتبطة به: \"كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ باللهِ\".

5. دعوة الناس بالأعمال والأخلاق قبل دعوتهم باللسان، أي بالتزام الأوامر واجتناب المناهي، واحذر أن تدعو الناس بلسانك للإسلام، وتحذرهم وتنفرهم منه بفعالك، واستصحب تحذير الله ورسوله والمؤمنون من ذلك.

\"أَتَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعقِلُونَ\".

\"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ. كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُونَ\".

وما صح عن أسامة بن زيد أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"يؤتى بالرجل يوما لقيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه\".

 

ورحم الله القائل:

 لا تنه عن خلق وتأتي مثله  * * *  عار عليك إذا فعلتَ عظيم

هذا مع العلم أن العدالة ليست شرطاً في الآمر والناهي، بل يجب على أصحاب الكؤوس واللصوص أن ينهى بعضهم بعضاً عن المنكر، إذ التوبيخ ليس عن الأمر والنهي، وإنما عن عدم إتيان المعروف وعن اقتراف المنكر.

6. الشروع في ذلك مباشرة وعدم تهيبه، واجعله ورداً يومياً لك، وابدأ بما تيسر، فأنكر ولو مرة واحدة في اليوم ثم تدرج في ذلك.

7. حاسب نفسك عند النوم على عدم القيام بذلك الواجب.

8. التعاون مع من يعين على ذلك، وله خبرة وجرأة، فالاحتساب يحتاج إلى تعاون الأخيار.

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى أصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم يقوم الأشهاد.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply