الحياة في سبيل الله


  

بسم الله الرحمن الرحيم

سأل زكريا - عليه السلام - ربَّه قائلاً: {رَبِّ هَب لِي مِن لَدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدٌّعَاءِ} [آل عمران: 38]..

فاستجابَ اللهُ دعاءَه، فوهبه ما سأل، بل وشرَّفه بأن سمَّى له الموهوب، فاختار له من خير الأسماءº (يحيى)، {وَرَبٌّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ} [القصص: 68].

و(يَحيى) من (الحياة)، التي خلق الله - سبحانه - العبادَ ليقضوها في طاعته، والسيرِ على شرعته.

و(الحياة) كلمةٌ تطمئن لها القلوب، وتبهج لها النفوس، وتَهَشٌّ لها الأسماع، ويَطرب لها الوِجدان.

 

ولقد جبل اللهُ -تعالى- الخلقَ على حبِّ الحياة، والحرص عليها، والكفاح من أجل البقاء فيها، فما في الكون أحدٌ -غير مخبولٍ, عقلُه، أو منتكسٌ في فطرته- إلا ويسعى جاهداً للحفاظ على حياته، فالوحوش في فَلَواتها وغاباتها، والطيور في فضائها، والأسماك في بحارها، تدافع الموتَ وتصارعه، وما وُجِدَ حيُّ إلا وهو ذو حرص على الحياة.

فَلاَ الأُفقُ يَحضِنُ مَيتَ الطٌّيُورِ *** وَلاَ النَّحلُ يَلثِمُ مَيتَ الزَّهَر

وَلَولاَ أُمُومَةُ أُمٍّ, رَؤُوم *** لَمَا ضَمَّتِ الأَرضُ مَيتَ البَشَر

وَمَن لَم يُعَانِقهُ حُبٌّ الحَيَا *** ةِ تَبَخَّرَ مِن وَجهِهَا وَاندَثَر

 

ومن تعجَّل الموتَ حرَّم اللهُ عليه الجنةَ، قال الله -تعالى- في الحديث القدسي، فيمَن قتل نفسه: ((بَادَرَنِي عَبدِي بِنَفسِهِ؟ حَرَّمتُ عَلَيهِ الجَنَّةَ!))[1].

ولكن الحياة الحقيقية المطلوبة شرعاً هي الحياة في سبيل الله، الحياة الني يقول الله -تعالى- فيها لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:

{قُل إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].

 

إنها الحياةُ التي يعيش الإنسانُ لحظاتِها لله، ومن أجل الله، وفي طاعة الله:

{فَسُبحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمسُونَ وَحِينَ تُصبِحُونَ *وَلَهُ الحَمدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظهِرُونَ} [الروم: 17-18].

 

إن الحياة في سبيل الله أصدقُ وصفٍ, يمكن أن نصف به حياةَ الرعيلِ الأول من الصحابة الكرام، ولنأخذ أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- مثالاً..

فقد (سَأَلَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم - أَصحَابَهُ يَوماً قَائِلاً: ((مَن أَصبَحَ مِنكُمُ اليَومَ صَائِماً؟))

قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا!

قال: ((فَمَن تَبِعَ مِنكُمُ اليَومَ جَنَازَةً؟))

قَالَ أَبُو بَكرٍ, - رضي الله عنه -: أَنَا!

قَالَ: ((فَمَن أَطعَمَ مِنكُمُ اليَومَ مِسكِيناً؟))

قَالَ أَبُو بَكرٍ, - رضي الله عنه -: أَنَا!

قَالَ: ((فَمَن عَادَ مِنكُمُ اليَومَ مَرِيضاً؟))

قَالَ أَبُو بَكرٍ, - رضي الله عنه -: أَنَا!

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا اجتَمَعنَ فِي امرِئٍ, إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ)))[2].

 

إنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- لم يشيع الجنازة وحده، فلابد أن بعض الجالسين كان ممن شارك في ذلك العمل الصالح، ويبعد في مجتمع الخير ذاك أن يكون أبو بكر -رضي الله عنه- هو وحده من زار ذلك المريض من بين الجالسين، ولا يبعد أن يكون منهم من كان عمله ذلك اليوم كعمل أبي بكر -رضي الله عنه- ولكنه لم يحضر مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -وجواب أبي بكر -رضي الله عنه- دونهم قد لا يعني تفرده بتلكم الأعمال، وإن كان فيه إبراز لفضيلته..

وهناك ملحوظ آخر، وهو سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يدلٌّ على تتبٌّعه حالَ أصحابِه، حتى يطمئن على كونهم يعيشون الحياة في سبيل الله.

 

إن حياة مليئة بالعطاء كحياة هؤلاء لا شك أنها حياة سعيدة، كيف لا والله -تعالى- يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلٌّ وَلاَ يَشقَى} [طه: 123].

وقال الله - تعالى -: {مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ, أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} [النحل: 97].

تلكم الحياة جعلت أحد السلف يقول: \"لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيهº لجالدونا عليه بالسيوف\"!!

 

والحياة إن لم تكن لله فهي فارغة المعنى والمحتوى، قال الله -تعالى- ذاماَ اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُم أَحرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ,} [البقرة: 96]، فاليهود أحرص الناس على أي نوع من الحياة!! حياةِ ذل وانكسار وصغار! حياةِ عربدة وفجور وتهتك! حياةِ غفلة و إعراض! حياة!... أيّاً كانت تلك الحياة فهم عليها حريصون، وأما المؤمن فحرصه على نوع واحد من الحياة، وهي الحياة في سبيل الله.

الحياة في سبيل الله هي الحياة، ولا تسمى غيرها حياة إلا مجازاً، فإن سأل سائل كيف نصل إلى هذه الحياة الحقيقية؟ وما الباب الذي يلجه من رامها؟ وما الطريق الذي يسلك إليها؟..

 

فأقول: لقد أجاب عن هذا الموقِّعون عن رب العالمين، وفصلوا في الإجابة غاية التفصيل، قال ابن القيم - رحمه الله -:

\"فإن قلتَ: قد أشرت إلى حياة غير معهودة بين أموات الأحياء، فهل يمكنك وصف طريقهاº لأصل إلى شيء من أذواقها، فقد بان لي أن ما نحن فيه من الحياةِ حياةٌ بهيميةٌ، ربما زادت علينا فيها البهائم بخلوِّهَا عن المنكرات والمنغِّصات، وسلامة العاقبة؟!

قلتُ: لعمر الله، إن اشتياقك إلى هذه الحياة، وطلبِ علمِها، ومعرفتِهاº لَدليلٌ على حياتِك، وأنك لست من جملة الأموات!!

فأول طريقها: أن تعرف الله، وتهتدي إليه طريقاً يوصِلُك إليه، ويحرِقُ ظلماتِ الطبع بأشعة البصيرةº فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكلِّيَتِه، ويزهد في التعلٌّقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة..

ثم يقوم حارساً على قلبهº فلا يسامحه بخطرة يكرهها اللهُ، ولا بخطرة فضولٍ, لا تنفعهº فيصفو بذلك قلبه عن حديث النفس ووسواسهاº فيُفدَى من أسرها، ويصير طليقاً.

فحينئذ يخلو قلبه بذكر ربه ومحبته، والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه، إلى فضاء الخلوة بربه وذكرهº كما قيل:

وَأَخرُجُ مِن بَينِ البُيُوتِ لَعَلَّنِي *** أُحَدِّثُ عَنكِ النَّفسَ بِالسِّرِّ خَالِيا

 

فحينئذ يجتمع قلبُه وخواطرُه وحديثُ نفسه على إرادةِ ربه، وطلبه والشوق إليه، فإذا صدق في ذلكº رُزِقَ محبةَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - واستولت روحانيتُه على قلبهº فجعله إمامَه ومعلمَه، وأستاذَه وشيخَه وقدوتَهº كما جعله الله نبيَّه ورسولَه، وهادياً إليه فيطالع سيرتَه، ومبادئ أمره، وكيفيةَ نزول الوحي عليه، ويعرف صفاتِه وأخلاقَه وآدابَهº في حركاتِه وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته، ومعاشرته لأهله وأصحابهº حتى يصير كأنه معه، من بعض أصحابه.

 

فإذا رسخ قلبه في ذلكº فتح عليه بفهم الوحي المنزَّل عليه من ربهº بحيث لو قرأ السورةَº شاهدَ قلبُه ما أُنزلَت فيه، وما أريد بها، وحظَّه المختص به منهاº من الصفات والأخلاق، والأفعال المذمومةº فيجتهد في التخلص منها كما يجتهد في الشفاء من المرض المَخوفº وشاهد حظَّه من الصفات والأفعال الممدوحةº فيجتهد في تكميلها وإتمامها..

 

فإذا تمَّكن من ذلك انفتح في قلبه عين أخرىº يشاهد بها صفات الرب جل جلالهº حتى تصير لقلبه بمنزلة المرئي لعينهº فيشهدَ علوَّ الربِّ - سبحانه - فوق خلقه، واستواءَه على عرشه، ونزول الأمر من عندهº بتدبير مملكته، وتكليمه بالوحي... فيشهد ربه - سبحانه - قائماً بالملك والتدبيرº فلا حركةَ ولا سكون، ولا نفع ولا ضرَّ، ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط إلا بقدرته وتدبيره.. فيشهد قيام الكون كله به، وقيامه - سبحانه - بنفسهº فهو القائم بنفسه، المقيم لكل ما سواه.

فإذا رسخ قلبه في ذلكº شهد الصفة المصحِّحة لجميع صفات الكمال، وهي الحياةº التي كمالُها يستلزم كمالَ السمع، والبصر، والقدرة، والإرادة، والكلام، وسائر صفات الكمال..

 

فحينئذ يجد طعم قولِه:

((وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبتُهُº كُنتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبطِشُ بِهَا، وَرِجلَهُ الَّتِي يَمشِي بِهَا، وَإِن سَأَلَنِي لأُعطِيَنَّهُ وَلَئِن استَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ))[3].

فأطيب الحياة على الإطلاق حياة هذا العبدº فإنه مُحِبُّ محبوبٌ متقرِّبٌ إلى ربِّه، وربٌّه قريبٌ منهº قد صار له حبيبُه -لفرط استيلائه على قلبه، ولَهَجِه بذكره، وعُكُوف همَّتِه على مرضاته- بمنزلةِ سمعه، وبصره، ويده، ورجله! وهذه آلاتُ إدراكِه وعمَلِه وسعيه.

فإن سمعº سمع بحبيبه، وإن أبصرºأبصر به، وإن بطشº بطش به، وإن مشىº مشى به\". انتهى كلامه - رحمه الله -[4].

 

إن الحياة لا تكون جميلة ممتعة سعيدة إلا إذ عشناها لله، وفقَ ما يرضيه، وأحببنا ما يحب وأبغضنا ما يبغض، وكانت صلاتُنا ونسُكُنا ومحيانا ومماتنا خالصة لوجه الله رب العالمين، لا يأتيها الشرك من بين يديها ولا من خلفها!

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] رواه البخاري، 3204.

[2] رواه مسلم، 2/713، (1028).

[3] رواه البخاري، 6021.

[4] مدارج السالكين، 3/268.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply