الكرازمية داء المؤسسات الشرقية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

دخلت على أحد الفضلاء في مكتبه وهو يضع على أذنيه سماعته المتصلة بجهاز الكمبيوتر وقد علت شفتيه ابتسامة ساخرة، ثم وضع السماعة عن أذنيه طالباً مني أن أدنو ليسمعني صوت أحد طلبة العلم وهو يستأذن الشيخ العثيمين - رحمه الله - في إلقاء قصيدة نظمها وبذل فيها جهداً واضحاً وقد مرت أبياته الأولى المشيدة بالصحوة الإسلامية المباركة المبشرة بفجر جديد لهذه الأمة بسلام والشيخ بصوته الوقور يتبع كلماتها الطيبة بالتكبير مؤيداً.

 

وتتابعت الأبيات حتى قال الناظم ما فحواه أن الصحوة منصورة ما دام فينا العلامة ابن عثيمين، فاعترض الشيخ قائلاً: \"لا لا لا قل ما دام فينا كتاب الله وسنة رسوله...\"، فقال الأخ الفاضل: ما دام فينا كتاب الله وسنة رسوله... ببراءة غير متكلفة، ولا شك أن القافية والوزن والروي قد فارق هذا البيت ولكن لا باس فقد صحبه اسم الله - تعالى -وسنة رسوله وأكرم بها من صحبة، ويأت البيت الذي بعده على شاكلة سابقه فيقول الشيخ معترضاً: \"ما عندك إلا هذا\"؟، ثم يطيب خاطر الأخ الذي أحسن به الظن ثم توجه مرشداً الطلاب إرشاد من تواضعت نفسه وحمل همّ الدين فؤاده فيقول: يا إخواني المنهج لا ينسب إلى الرجال، فالرجال يموتون والرجال يفتنون فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، الحق يعرف بنفسه والرجال يعرفون به... ونحو هذا الكلام.

 

كلمات مؤثرة من مربي بحق، وليس ذلك بغريب على الشيخ العثيمين والرجل أفضى إلى ربه فهو المتخرج من مدرسة الشيخ ابن باز الذي أعترض في حفل تسليمه جائزة الملك فيصل على من صفق إعجاباً واحتفاء به وقد كان في ذلك المجلس علية القوم، والشيخ ابن باز هو الذي كتب رده الشهير على أحد المحبين لما نشر في إحدى الصحف قصيدة عصماء يثني فيها عليه وعلى قبيلته، وهذا ديدن علماء المسلمبن الأخيار في كل عصر ومصر.

 

ولكن هناك قضية جالت في الذهن بعد سماعي هذه الموعظة العملية البليغة والتي طالما أحجم أحدنا عن الكلام فيها مخافة أن يحمل كلامه على غير محمله.

 

ولقد كشف لي صديقي سر ابتسامته الساخرة ذاكراً أنه عقد مقارنة بين ما سمع من الشيخ العثيمين و مجلس لأحد علية القوم كان قد شاهده، وفيه قام الشعراء يمدحون ذلك الزعيم وهو يتيه عجباً ويتمايل طرباً ولما يفرغ الشاعر ما في جعبته يطنطن هذا الممدوح - بكلمات شكر لمادحه تخرج من أطراف شفتيه إذ لا ينبغي لمثله أن ترى أسنانه!

 

العقلية الشرقية:

إننا في المجتمعات الشرقية بصفة عامة نعيش أزمة اختزال المناهج والأفكار أيا كانت في الأشخاص، فالأحزاب السياسية والجماعات الدينية وحتى على مستوى الأعمال الدعوية والطوعية لا تتقبل نفوسنا إلا أن تكون هنالك شخصيات كرازمية متنفذة فيها ومسيطرة عليها وليس للمؤسسية في قاموسنا مكان، فما من حزب يذكر إلا وبرزت تلك الأسماء بروز المتملِّك، أما البرامج والمناهج فهي آخر ما يذكر.

 

إنني لا ابخس الناس أشياءهم ولا أنقص من له سبق وبذل حقه من الإجلال، ولكن الذي ينتقد هنا أن تدخل المؤسسات في العباءات الشخصية لبعض الناس، وأن تعرف المناهج بالرجال، وأن تنسب المؤسسة بكل محتوياتها المادية والمعنوية والمنتسبين إليها لاسم من الأسماء أو لمجموعة أسماء، وليست أعترض على هذا السلوك تحكماً ولكن ما قاله الشيخ العثيمين - رحمه الله تعالى -لهذا الطالب فيه من الحجة والبرهان ما يكفي للاعتراض على هذا المنحى، فالأشخاص يخطئون وكم من خطأ سوغ لمن كانت له اليد الطولى في الحزب أو الجماعة أو المجموعة أو المؤسسة...، وكم من تلكم الشخصيات ترى -لموقعها المرموق- أنها قد كبرت على النصيحة، فالنفس البشرية ليست معصومة من الفتنة، وكم أدى الإطراء والمدح والتقديس لرؤساء تلك الأحزاب إلى أن يظن أحدهم أن مجرد النقد ممن هو دونه سوء أدب لا ينبغي مواجهته إلا بتأديب ذلك الوقح الذي تجرأ على المخالفة وخان قَسَم الولاء والطاعة. والتأديب غالباً ما يكون الطرد من الجماعة أو الحزب أو المؤسسة بمنطق أن الحزب لهذا الشخص فإما أن ترضى بما يقول وإما أن تُري الحزب عرض كتفيك.

 

إن هذه الأزمة موجودة حتى في الأحزاب التي تنادي بالديمقراطية والجماعات التي تنادي بالإسلام والشورى، بل وحتى على مستوى الدول يصل العتو ببعض الرؤساء الحد الذي يرى فيه أن مخالفه في الرأي يجب أن يجد له مكان آخر غير الوطن الذي يعتبره بلسان الحال ملكاً له، ولقد قال أحد الرؤساء الماضين: (البلد) من غيري لا يسوى شيئاً، إنه منطق غريب حقاً أن يظن رئيس الدولة أنه هو الدولة، ويتصور رئيس الحزب أنه هو الحزب، ويعتقد شيخ الجماعة أنه هو الجماعة، وينقدح في ذهن المشرف على المؤسسة أنه هو المؤسسة، والأغرب من ذلك أن يرى الآخرون ذلك ويعتقدونه ويتعاملون على أساسه.

 

إن هذه الشخصيات الكرازمية كان لها القدح المعلى في كثير من الانشقاقات التي أضعفت الكيان المنسوب إليها، وعصفت بوحدته.

 

وليس من المبالغ فيه إن قلنا إن بعض هذه الأحزاب السياسية والجماعات وغيرها اكتفت بهذه الكرازميات عن البرامج والرؤى والتصورات.

 

إن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عرف خطر هذا النوع من الأدواء وعزله للصحابي الجليل والقائد المحنك خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لما ظهرت شخصيته في المؤسسة الإسلامية العسكرية كشخصية كرازمية كان خوفاً من الآثار السالبة لوجود شخصية من هذا النوع، و عمر - رضي الله عنه - برأ خالداً من الخيانة وغيرها مما يستدعي العزل فلم يبق لهذا العزل إلا التفسير الذي مضت الإشارة إليه.

 

إن حمل صور القادة والزعماء والرؤساء في المسيرات والمظاهرات وتعليقها في المنازل وغيرها ما هو إلا تعزيز لمفهوم الكرازمية.

 

إن هذا المرض يجب أن نسعى جميعاً بما في ذلك القادة والزعماء لإيجاد علاج ناجع له لتستمر مسيرة العطاء والبناء في مجتمعاتنا، لان العمل المؤسسي أدوم وأنفع وأكثر خيراً وأقل أخطاء، ولقد تجاوز الغرب هذه المرحلة منذ زمان بعيد والمتأمل في أحزابهم ومؤسساتهم لا يخفى عليه ذلك.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply