الذاتية الإيمانية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يعيش كل منا مواقف كثيرة.. تتجاذبه حبال شتى وتتقاذفه رياح متنوعة. وهو يحاول جاداً أن يفعل ما يريده دون أن يتأثر بذلك، فينجح أحياناً ويفشل أحياناً. يرغب في فعل خير ينال به ثواب الله كقيامه للصلاة من بعد نومه أو بترك عمله أو بالتنازل عن معاملة مالية بها شبهة أو الاعتراف بخطأ أساء به إلى الآخرين. فتأتي دواعي الخير في نفسه ترغبه بعمل الخير وفعل ما يرضي الله، وتهب نوازع الشر تزين له الباطل، وتحاول إرغامه عليه، فحينما يقطع حبال هذه النوازع.. ويدفع نفسه لكي يقوم ليصلي أو ليترك ذلك المال لكسب رضا الله.. فتلك هي الذاتية.

إنها الدافع الذي يجعل الإنسان يعمل الصالحات متحملاً الصعاب وهواجس الشر ووسوسة الشيطان في نفسه...

معينات تحصيل الذاتية الإيمانية.

 

ولتحصيل الذاتية الإيمانية هذه معينات كثيرة منها:

التلقي للتنفيذ لا للمعرفة: لابد أن نأخذ أوامر القرآن والسنة النبوية على محمل التطبيق وليس لمجرد العلم فقط، ولنا في سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام الأسوة الحسنة. فماذا فعلا عندما أتى الأمر لإبراهيم بذبح ابنه؟!

فلننظر كيف تلقى الأب الأمر بأن يذبح ابنه؟!.. نعم يذبحه بيده!! أتظنون أن إبراهيم لا مشاعر له؟ كلا.. إنه أب أتاه الابن عن كبر.. في فؤاده كل عطف وشفقة.. في نفسه تعلق بابنه ولكن تعلقه بالله أسمى، وصلته بالله أقوى فيهون ذلك كله تنفيذاً لأمر الله!

وكيف كان موقف الابن؟!.. وبماذا رد على أبيه حينما قال له: (فانظر ماذا ترى)؟

لقد علم أن الأمر من الله فقال: (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين) (103) (الصافات)، لم يكن الإيمان بالقول فقط.. أسلما.. استسلما لله دون قيد أو شرط.. وأمسك رأسه ليذبحه.

كيف كان شعور إبراهيم وهو يذبح ابنه، ويمر بالسكين على رقبته وينهي حياته بنفسه، وهو الذي انتظر سنوات ليرزق بالابن.. أسلما.. الأب والابن لأمر الله.

 

ويناديه بعد ذلك: (وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرءيا إنا كذلك نجزي المحسنين) .. وما دفع سيدنا إسماعيل لتنفيذ الأمر الإلهي ذاتيته الإيمانية التي جعلته يقول لأبيه: افعل ما تؤمر.

حرقة في القلب تدفع صاحبها للعمل: عندما تعلم أن أخاك فلاناً يصلي الصلوات كلها في المسجد وأنت لا تفعل ذلك، وعندما تعلم أن آخر يصوم الاثنين والخميس وأنت لا تفكر في ذلك أصلاً.. فيتحرك قلبك ويتحرق: لمَ لا تفعل مثلهم؟ لمَ استطاعوا ولم تستطع؟.. وتجد لوعة في نفسك إن أنت قصرت في حق ربك وأذنبت ذنباً..

انظر إلى الصحابي أبو لبابة بن عبد المنذر، وقع في خطأ في حق الله وحق رسوله.. ماذا فعل؟ هل استغفر وقال: الله غفور رحيم واكتفى بذلك؟!

لنعش أحداث قصته ولنرَ ماذا فعل: في غزوة بني قريظة عندما حاصر الرسول اليهود تحيروا ماذا يفعلون؟ أيستسلمون؟ أيقاتلون فأرادوا استشارة أبي لبابة وكانوا حلفاءه.. فأتى إليهم ولما سألوه: ما تظن الرسول فاعلاً بنا إن نحن سلمنا؟.. فأشار بالذبح.. كاشفا سراً عسكرياً للمسلمين، بل أفشى سر رسول الله.

وهنا ثارت في نفسه ثورة من الندم العارم، بعدما خان الله ورسوله.. فعاد تائباً منيباً إلى الله.. أين يذهب.. ؟ أيعود إلى بيته ولأهله.. أيذهب إلى الرسول ؟ طالباً أن يستغفر له.. لم يستطع أن ينظر إلى وجه الرسول بعد أن فعل تلك الفعلة.

فذهب إلى مسجد الرسول ، وربط نفسه في جذع نخلة في المسجد وقال: \"لن أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت\"، وكانت زوجته تأتي وقت الصلاة لتفك رباطه كي يصلي ثم يعود إلى مربطه، وظل على ذلك 6 ليال واقفاً في مكانه، حتى نزلت التوبة من الله عليه، وبشرته زوجته بذلك، عندما سمعت خبر التوبة من الرسول .

ولنسأل أنفسنا: ما الذي دفع أبا لبابة لذلك بالرغم من أنه لم يعلم بها أحد من المسلمين؟.. إنها الذاتية والإيمان المتوقد في النفس!!

التلذذ والفرح بأداء العبادات: عندما تصلي.. عندما تقرأ القرآن.. عندما تنتصر على نفسك لأداء واجب شرعي أو ترك محرم، تجد طمأنينة ولذة لا تدانيها أي لذة من ملذات الدنيا.

الصحابي الجليل الشاب عباد بن بشر يصور لنا لذة العبادة في أسمى صورها حتى إنه فضل الموت على أن يفقد تلك اللذة.

بعد نهاية غزوة ذات الرقاع وعودة جيش الرسول إلى المدينة أقبل عليهم الليل فأمر الرسول عباد بن بشر وعمار بن ياسر أن يحرسا الجيش، وكان عمار متعباً فحرس عباد أول الليل، وبدأ عباد بالحراسة.. ماذا يفعل عباد والناس نيام؟.. استقبل القبلة ورفع يديه مكبراً وأخذ يتلو آيات الله - تعالى -واستغرق في صلاته، وبينما هو يصلي إذا بسهم يستقر في عضده، أيصرخ عباد ويقطع صلاته ويضمد جراحه؟ كلا! بل نزع السهم بيده وأكمل الصلاة، ثم تلاه سهم ثان فنزعه بثبات وأكمل صلاته، ثم سهم ثالث نزعه.. حتى أخذت الجروح تهد من قوته.. فأيقظ أخاه عماراً.. هزه بيده، فهب عمار فزعاً ورأى أخاه عباداً مضرجاً بدمائه.. فقال له: ويحك، لِمَ لم توقظني أول الأمر؟!

استمع بقلبك لرد عباد:

\"لقد كنت أتلو آيات فلم أحب أن أقطعها، والله لولا أنه ثغر أمرني رسول بحفظه لآثرت الموت على أن أقطع تلك الآيات التي كنت أتلوها\"!

أي حلاوة للطاعة... وأي لذة بتلك الآيات شعرها عبادº حتى إنه تمنى الموت على أن يقطع تلك التلاوة العطرة في صلاته.. وأين نحن من لذة تلك العبادة؟

 

ماذا نحن فاعلون؟

ولتحصيل تلك الروح العالية، والذاتية الإيمانية المعينة على تحمل آلام الطريق، علينا بتعميق الإيمان في أعماق النفس فلا يمكن أن ينزع إلا بنزع تلك النفس معه.. يغذي هذا الإيمان الإخلاص والتجرد لله - سبحانه - ونزع علائق الدنيا، وتزينه تقوى الله في السر والعلن، ويتحقق كل ذلك بكثرة قراءة القرآن وتدبر معانيه، ودوام ذكر الله - تعالى -على كل حال، وتذكر الموت وما بعده من تصور للآخرة بأهوالها العظيمة، واستشعار نعيم الجنة وعذاب النار..بذلك تجد دوماً حافزاً إلى فعل الخير وإلى التوبة، وعدم استثقال العبادة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply