بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لمَّا وصل إلى يد بلقيس -ملكة سبأ- كتابٌ كريم من النبي سليمان -عليه السلام- والذي كان فيه قوله -تعالى-: (بسم الله الرحمن الرحيم * ألَّا تعلوا علَيَّ وأتوني مسلمين).. وبعد مشاورات جرت بينها وبيِن مستشاريها رأت أن ترسل بِهديةٍ, قيّمةٍ, إلى سليمان -عليه السلام- لتتأكد من وراء هذه الهدية صدق نُبُوَّته وحقيقة دعوته، فقال -تعالى-كناية عن سليمان: (ولما جاء سليمان) أي: حاملوا هدية بلقيس.. (قال) أي: سليمان -عليه السلام- (أتمدوننِ بمال فما آتانيَ الله خير مما آتاكم)...
فما الذي آتاهُ وأعطاهُ اللهُ لسليمان -عليه السلام- وما الذي أعطاه لبلقيس وقومها؟ لنتأمل في مُلك هذين الملِكين، وإلى أي حدٍّ, بلغت تلك الثروات والمكانة العالية من نعيم الدنيا.. فالملكة بلقيس ذَكَر الله -تعالى-لنا عن مملكتها وبلادها في قوله: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آيةٌ جنّتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدةٌ طيبة ورب غفور) سبأ15. فكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعِهم وثمارهم، وكان لها هي في مُلكها ما ذكره الله لنا على لسان الهدهد: (إني وجدت امرأةً تملكهم وأُوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم)..
قال ابن كثير: (أوُتيت من كل شيء) أي: من متاع الدنيا مما يحتاج إليه الملك المتمكن.. (ولها عرشُ عظيم) يعني سريرٌ تجلس عليه، عظيم هائل، مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ.. وقال علماء التاريخ: وكان هذا السرير في قَصرٍ, عظيم مشيد رفيع البناء محكم..
وأمَّا عن ملك سليمان -عليه السلام- فهو كما قص الله علينا بقوله -تعالى-: (ولسليمان الريح غُدوّها شهرٌ ورواحها شهر وأسلنا له عين القِطر..) أي: النحاس. (.. ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه.. ) إلى أن قال: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.. ) سبأ12ـ13.
وقال: (وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس عُلِّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء) وقال: (وحُشِرَ لسليمان جُنُوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) النمل 16ـ17.. وعموم حجم ومقدار مُلك سليمان كان في دعائه لربه حين قال: (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) فكان الجواب من ربه: (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءاً حيث أصاب * والشياطين كلَّ بنَّاءٍ, وغوّاص * وآخرين مقرَّنين في الأصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) ص35ـ39.
فبعد هذا يتبين لنا مما سبق عِظمَ ما يمتلكانه من نعيم، وما تفضل الله به عليهما في هذه الدنيا، ويتضح لدينا أيضاً أن ما قد وهبه الله لسليمان -عليه السلام- هو حقاً خيرٌ مما آتاه الله للملكة بلقيس، وفوق كل هذا المُلك والعظمة أن جعلهُ اللهُ شاكراً لأنعُمِه!
فالذي نريد أن نصل إليه -إخوة الإيمان- من ذلك كله أن نعلم علم يقين أنَّ المُنعِمَ -جل جلاله- يريد من عباده بعد إنعامهِ عليهم أن يشكروه ولا يكفروه، ويوحِدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يعملوا صالحاً شكراً وتعظيماً وإجلالاً، ليكون إعترافاً منهم بألسنتهم، وتصديقاً بقلوبهم، وعملاً بجوارحهم.. قال -تعالى-: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون).. البقرة172.
ولقد أوصى الله -تعالى-آل داود وأمرهم بلزوم العمل الصالح شكراً له، وتحقيقاً للعبودية فقال: (إعملوا آل داود شكرا وقليلٌ من عباديَ الشكور)..سبأ13. وقال -تعالى-: (ولقد آتينا داود وسليمان عِلما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) النمل15.
وهذا ما تنبه له سليمان -عليه السلام- حيث كان شكره لله -تعالى- ملازماً له في كل حين، فقال بعد سماعه لنملةٍ, تنذر قومها وتحذرهم من جيشه أن يحطِمَهُم وهم لا يشعرون من قوله -تعالى-: (فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه..) النمل19.
ولقد أعدَّ سليمان -عليه السلام- هذه النعم، وهذا العطاء والفضل في محل شُكرٍ, للمتفضِّل بها عليه، وعلِمَ أنها إبتلاء من ربه واختبار له، ولذلك قال بعد أن عاين هو ومَلَؤه عرش بلقيس ورآه مستقِرَّاً عنده بعد أن كان في أرض اليمن: (.. قال هذا من فضل ربي) أي من نعم الله علي.. (ليبلوني أأشكرُ أم أكفرُ ومن شكرَ فإنما يشكرُ لنفسه ومن كفرَ فإن ربي غني كريم) النمل40. وهو ما تحقق في قول المولى -جل وعلا-: (وإذ تأذن ربكم لإن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) إبراهيم7.
إن ثمةَ أُناسٌ لم يشكروا ربهم حق شكره لأنهم لم يعرفوا قيمة هذا العطاء، ولم يقدِروا له قدرَه، ولم يعترفوا بفضل المنعِمِ عليهم مع رحمته بهم، وإكرامه لهم.. ومن ذلك ما حصل من أهل سبأ بعد إنعام الله عليهم حيث قال:(كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدةٌ طيبة وربُ غفور)..
فبَدَلَ أن يشكروا الله على إنعامه لهم، ويوحدوه ويعملوا صالحا، كانت النتيجة منهم الإعراض والإشراك بالله وعبادتهم للشمس من دون الله -تعالى-: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أُكُلٍ, خَمطٍ, وأثلٍ, وشيءٍ, من سدرٍ, قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) سبأ16ـ17.
قال ابن كثير: أي عاقبناهم بكفرهم. قال مجاهد: ولا يُعَاقَبُ إلا الكفور. وقال الحسن البصري: صدق الله العظيم لا يُعَاقَبُ بمثل فعله إلا الكفور.. إنَّ علينا أيها -الإخوة الأفاضل- بعد تدبر قول ربنا وخالقنا ورازقنا الذي يقول: (إنَّا خلقنا الإنسان من نطفةٍ, أمشاجٍ, نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً * إنَّا هديناه السبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كَفوراً) الإنسان2ـ3.. وقوله -تعالى-: (وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفةً لمن أراد أن يذكَّر أو أراد شُكُوراً) الفرقان62.
بعد ذلك علينا أن نُثَمِّن هذه العبادة، وأن نُعَظِّمَها في نفوسنا أشدَّ تعظيم، حتى نكون لله شاكرين قولاً وعملاً، لكل نعمة أنعم بها علينا، كبُرَت أم صَغُرَت، مثنين عليه بها، كيف وهو القائل: (إنَّ الله لذو فضلٍ, على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون) يونس60.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد