التربية الإيمانية للدعاة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله - تعالى -: (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق.. )

يقول ابن مسعود رضي الله - تعالى عنه- ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين! !

آية.. وموقف يدعو المؤمن حقاً أن يتأمل وربي في هذه الآية.. وهذا الموقف!!

أربع سنين.. ترى هل هي فترة كافيه أن يغفل المسلمون أو تقسو قلوبهم.. وهم في حالة يرتشفون فيها نبع الإيمان وصدق الأحاسيس والأنس بالله... !!!

 

ترى ما نقول نحن ؟!!

* حاجتنا إلى التربية الإيمانية.

الدعاة خاصة بحاجة إلى التربية الإيمانية لأمور:

- حسن التأثير.

فصاحب الإيمان الذي يظهر أثره على سلوكه أقوى تأثيرا في الجمهور من ذلك صاحب الهيئة والبزّة (المتحذلق المتمذلق)!!

 

- الإنجاز.

فإن صاحب التربية الإيمانية.. لا يؤمن بالتأجيل.. فهو يوقن أن الحياة لحظات إذا فاتت لحظة فاتت أختها.. فهو دائم العمل والإنجاز.

 

- الإتقان (الإحسان).

وهو ما يمكن أن نعبر عنه بـ (الجودة) فهو ينجز انجازا متقناً.. لأنه لا ينتظر أجرا دنيوياً، ولا ثناء عطراً، ولا مكانة مرموقة.. إنما ينتظر وعد الله، فهو يبني لآخرته لا لدنياه.. ومن هنا تراه متقناً محسناً.

 

- سرعة التأثر.

فإن صاحب القلب المؤمن، صاحب حس مرهف، ونفس شفافة..

تتأثر بالموقف والكلمة..

وتعرف معاني الأمر والزجر.. فتأتمر وتنزجر...

 

* تربية القرآن.

من أسلوب القرآن الكريم أنه كان ينمي جانب الإيمان والعاطفة الإيمانية عند المسلمين في أي أمر من أمور الشرع....

فنجد في القرآن كيف أن الله كان يعقّب بعد آيات الأحكام بقوله (إن كنتم مؤمنين).. اقرأ هذا مثلا في حد الرجم..

واقرأه في آيات الجهاد..

واقرأه في آيات الأمر بالصلاة والزكاة...

ولاحظ الآيات التي بدأها الله - تعالى - بقوله (يا أيها الذين ءامنوا)...

تجد أنه قد جاء بعدها من الأوامر والتوجيهات أو الزواجر والتنبيهات...

وهكذا كان منهج القرآن أن يثير في النفس ويربي فيها هذه التربية الإيمانية، ويستثير فيها هذه العاطفة الإيمانية...

ومن هنا نعلم أيضا أهمية الحرص على غرس هذه التربية في نفوس الأفراد، لأن استثارتهم من خلال هذه العاطفة أقوى من استثارتهم بالعقليات المجردة. !

 

* السنة تركز على قضية التربية الإيمانية.

جاء عنه - صلى الله عليه وسلم – قوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت.. )

وهكذا ورد مثل هذا في غير ما موضع من السنة. يؤكد ويركز على قضية الإيمان قبل الأمر أو النهي.

ولنقف مع حدث في التاريخ، وننظر أثر استثارة هذه العاطفة الإيمانية التي تربى عليها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

في يوم حنين لمّا أعطى رسول الله تلك العطايا لقبائل قريش وطائفة من العرب، وجد الأنصار في أنفسهم موجدة، فجاء سعد فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فجمّع الأنصار في حظيرة وخطب فيهم - صلى الله عليه وسلم - تلك الخطبة التي جاء فيها: (يا معشر الأنصار ما قاله بلغتني عنكم وحِدّة وجدتموها عليّ في أنفسكم؟!

ألم آتكم ضلاّلا فهداكم الله!!

وعالة فأغناكم الله!!

وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟!!

أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذوباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك... )

إلى آخر القصة..

المقصود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ يستثير فيهم عاطفة الإيمان، ويخاطبهم بها (أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟.. )

فكانت هذه الاستثارة الإيمانية حلاًّ لمشكلة تواجه القائد في دعوته مع أفراده بل خواص أفراده.

وهكذا نجد أن الصحابة كانت تؤثر فيهم هذه الأوامر الربانية والنبوية لأنهم كانوا على قدر من التربية الإيمانية....

 

* السلف والتربية الإيمانية.

كان السلف رضي الله - تعالى - عنهم من أحرص الناس على تربية أنفسهم وغيرهم على هذه التربية الإيمانية... لن أطيل في ذكر مواقفهم إنما أشير إلى موقف واحد وصورة معبرة من صور تربية السلف:

أتى رجل إبراهيم بن أدهم - رضي الله عنه - فقال: يا أبا اسحق، إني مسرف على نفسي فاعرض على ما يكون لها زاجرا ومستنقذا؟

فقال إبراهيم: إن قبلت خمس خصال، وقدرت عليها لم تضرك المعصية؟

قال: هات يا أبا اسحق

قال: أما الأولى فإذا أردت أن تعصي الله - تعالى -، فلا تأكل من رزقه

قال: فمن أين آكل وكل ما في الأرض رزقه؟

قال: يا هذا أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟

قال: لا، هات الثانية

قال: وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن في شيئا من بلاده؟

قال: هذه أعظم، فأين أسكن؟

قال: يا هذا أفيحسن بك أن تأكل رزقه، وتسكن بلاده وتعصيه؟

قال: لا، هات الثالثة

قال: إذا أردت أن تعصيه، وأن تأكل من رزقه، وتسكن بلاده، فانظر موضعا لا يراك فيه فاعصه فيه؟

قال: يا إبراهيم ما هذا؟ وهو يطلع على ما في السرائر؟

قال: يا هذا أفيحسن بك أن تأكل رزقه، وتسكن بلاده وتعصيه وهو يراك ويعلم ما تجاهر به وما تكتمه؟

قال: لا، هات الرابعة

قال: فإذا جاءك الموت ليقبض روحك، فقل له أخرني حتى أتوب توبة نصوحا، وأعمل لله صالحا

قال: لا يقبل مني؟

قال: يا هذا فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاءك لم يكن له تأخير، فكيف ترجو وجه الخلاص؟

قال: هات الخامسة

قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة، ليأخذوك إلى النار، فلا تذهب معهم؟

قال: إنهم لا يدعونني، ولا يقبلون مني

قال: فكيف ترجو النجاة إذن؟

قال: يا إبراهيم، حسبي، حسبي، استغفر الله وأتوب إليه  

فكان لتوبته وفيا، فلزم العبادة، واجتنب المعاصي حتى فارق الدنيا.

 

* صوارف...

هذه جملة من الصوارف التي قد تصرفنا عن العناية بالتربية الإيمانية للذات وللآخرين:

 

- التصوف.

ارتبطت الرقائق بالتصوف ارتباطاً وثيقاً منذ فترة بعيدة، وصارت جل كتب الرقائق شارحة للتصوف سارة لقواعده، حتى طال العهد فامتزجت هذه الرقائق بشيء من البدع والخرافات والتخليط..

ولما شاعت الصحوة وانتشرت في السنوات الأخيرة، وجدت من يقف لهذه البدع ويدحضها.

إلا أنه نشأ عن ذلك بعدٌ سحيق عن الرقائق الإيمانية تخوّفاً من الوقوع في بدع التصوف، فنتج عن ذلك جفاف العاطفة وصحراوية روحية.. كل ذلك بسبب الخوف من الوقوع في بدع التصوف ومحاربة التصوف.

وهذا داء عضال وصارف من تلبيس إبليس على الدعاة والمربين...

بل التربية إيمانية هي أصل التربية...

وحين ينشأ الفرد على الإيمان ومعرفة الله - جل وتعالى-، عابدا متعبدا مستغفرا ذاكراً فإنه ينشأ حين ذاك قوي الإرادة والعزيمة.

 

- التعمق في الخلافات الفقهية.

تعمقاً يكون معه انشغال عن تلذيع النفس وتربيتها على الرقائق والإيمانيات التي تجعلها أكثر تعلقاً بالله.

الخلافات الفقهية قد تجعل في القلب قسوة، يجدها من عاش هذا الحال..

فإنه حين يرد على فلان وفلان، ويفند دليله وحجته.. ينسيه ذلك أو يشغله عن الاهتمام بتزكية نفيه وتربيتها تربية إيمانية جادة...

ولذلك كان من أثر هذه التربية إيمانية الجادة قول الشافعي: (ما جادلت أحدا إلا وددت أن يجري الله الحق على لسانه), هذا الإمام صاحب المذهب والمناقشات والمجادلات.. ومع هذا فإن ذلك لم يشغله  أن يربي في نفسه الإيمان الذي جعله يفرح بجريان الحق على لسان خصمه.

 

- البيئة والوسط.

فإن الإنسان مدني بطبعه...

ولذلك من الواجب على الدعاة أن يحرصوا على أن يكونوا أو يكوّنوا بيئة إيمانية تعينهم على الطاعة...

 

- كثرة الشهوات والملهيات والفتن.

 

- طول الأمل.

 

- الانشغال بعيوب الآخرين وتتبع سقطاتهم.

 

- كثرة المخالطة بلا هدف أو فائدة.

 

- الذنوب والمعاصي، والتسويف في التوبة.

 

 

* طرق تحصيل التربية الإيمانية.

من أعظم ما ينمي هذه التربية عند المؤمن:

- معرفة الله - تعالى -بأسمائه وصفاته.

ودراسة هذه الأسماء والصفات دراسة إيمانية بعيدا عن مهاترات الفرق والطوائف الضالة.

وللأسف أن كثيرا ممن يدرسون التوحيد حين يتعرضون لقضية الأسماء والصفات فإنهم إنما يتعرضون لها من جهة سرد الخلافات وأقوال الفرق الضالة الكلامية وغيرها في ذلك، مما لا يولّد عند الدارس أو القارئ شعوراً بأثر هذه السماء في واقع سلوكه..

وحقيقة يعتبر الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه (مدارج السالكين، مفتاح دار السعادة) من أعظم من ركّز على قضية الثر الإيماني والسلوكي لأسماء الله - تعالى - وصفاته... ولولا خشية الإطالة لذكرت لكم نموذجاً من ذلك.

 

- القراءة في سير السلف.

فإن القراءة في سيرهم يبعث في النفس قوة وإيماناً.

 

- القراءة في تفسير آيات القرآن.

والوقوف عند معاني الآيات وأسباب نزولها ومعرفة أحداث التنزيل مما يؤثر أثر إيمانيا في النفس.

ولذلك يتبين لنا سر التربية التي يذكرها غير ما واحد من الصحابة بقولهم (كنّا لا نجاوز العشر آيات حتى نعلمها ونتعلمها ونعمل بها.. يقول: فتعلمنا الإيمان قبل القرآن)..

اسأل الله - تعالى - أن يلين قلوبنا لذكره، وأن يغفر لنا ذنبنا..وأن يصرف عنّأ صوارف الطاعات.. وبالله التوفيق.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply